الجرعات المعززة تدرب خلايا مناعية جديدة ضد الفيروسات المتحورة

من لقاحات الإنفلونزا و«كوفيد»

الخلايا البائية المناعية
الخلايا البائية المناعية
TT

الجرعات المعززة تدرب خلايا مناعية جديدة ضد الفيروسات المتحورة

الخلايا البائية المناعية
الخلايا البائية المناعية

تشير الأبحاث الحديثة إلى تطور مهم في فهم استجابة (ردة فعل) الجهاز المناعي للعدوى المتكررة، خصوصاً في مواجهة الفيروسات المتحورة مثل الإنفلونزا و«كوفيد - 19».

مراكز ذاكرة جينومية

وتُظهر الأبحاث أن «المراكز الجرثومية للتذكير» - وهي الهياكل التي تتشكل في العقد اللمفاوية والطحال حيث تتعلم الخلايا البائية التعرف على مسببات الأمراض وإنتاج الأجسام المضادة - لا تقوم فقط بتنشيط الخلايا البائية القديمة المدربة على الفيروس الأصلي، ولكنها أيضاً تشغل خلايا بائية جديدة وغير مدربة لتوليد أجسام مضادة مخصصة للتعامل مع المتغيرات الجديدة للفيروس. والخلايا البائية B cell نوع من الخلايا اللمفاوية، وهي من خلايا الدم البيضاء.

وتتطور بعض الأمراض المعدية مثل «كوفيد» أو الإنفلونزا باستمرار وتتغير أشكالها بالقدر الكافي للتغلب على أنظمتنا المناعية وإعادة إصابتنا مراراً وتكراراً. إلا أن حالات إعادة العدوى اللاحقة لا تؤدي غالباً إلى النتائج السيئة الأكثر شدة بسبب وجود تلك «الذاكرة».

ومثلاً وعند التعرض لأول مرة لمسببات الأمراض، تنتج أنظمتنا المناعية خلايا بائية مدربة بشكل خاص، والتي تتعلم التعرف على الفيروس والقضاء عليه في وقت لاحق في المراكز الجرثومية. وتظل هذه الخلايا البائية جاهزة ومستعدة لإنتاج أجسام مضادة قوية.

خط دفاع ثانٍ

وفي السابق اعتقد العلماء أن الجسم يتخلص في النهاية من هذه الأنواع من العدوى بشكل أساسي بتسريع عمل الخلايا المناعية القديمة عن طريق تحسين تلك المدربة منها سابقاً في المراكز الجرثومية. ولكن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن «المراكز الجرثومية للتذكير» recall germinal centres تلك التي تتشكل عند إعادة التعرض تعمل في الواقع على توليد خط دفاع ثانٍ مختلف من خلال الاعتماد بشكل كبير على الخلايا البائية غير المدربة. وتركز هذه المراكز المعاد تنشيطها على تطوير أجسام مضادة جديدة تماماً بينما تنطلق الخلايا البائية ذات الخبرة مباشرة إلى العمل.

وفي هذا السياق تبين الدراسة المنشورة في مجلة Immunity في 9 يوليو (تموز) 2024 بقيادة الباحثين أرين ش يبرز وغابرييل فيكتورا من مختبر ديناميكيات الخلايا اللمفاوية بجامعة روكفلر الأميركية في نيويورك، أن الأجسام المضادة القديمة تمنع الخلايا البائية القديمة من دخول المراكز الجرثومية عند التعرض المتكرر للمستضدات، مما يسمح للخلايا البائية غير المدربة بتطوير أجسام مضادة جديدة وأكثر فعالية ضد السلالات المتحورة للفيروس. وهذه الآلية تضمن أن الجهاز المناعي لا يهدر طاقته في الاستجابة لسلالات قديمة، بل يركز على محاربة المستضدات الأحدث والأكثر تهديداً.

تحسين اللقاحات

وتبرز أهمية هذه الاكتشافات في تحسين استراتيجيات اللقاحات. فبالنسبة للفيروسات المتطورة مثل الإنفلونزا أو «كوفيد - 19» قد تكون الجرعات المعززة التي تحتوي على مستضدات متغيرة أكثر فعالية من المعززات التقليدية لأنها تساعد الجهاز المناعي على استهداف أحدث المتغيرات بدلاً من مجرد تعزيز الأجسام المضادة بشكل عام.

وعلى صعيد آخر، فإن تطوير ذاكرة الخلايا البائية يشكل تحدياً علمياً معقداً لا يزال العلماء يستكشفونه لفهم الآليات التي تحكم تكوين هذه الخلايا وأدوارها الوقائية ضد العدوى المتكررة كما يقول كنتشان مو وزملاؤه في بحثهم المنشور في مجلة Cell Death Discovery في 7 مارس (آذار) 2024.

والمناعة الطويلة الأمد التي تمنح الجسم القدرة على مقاومة الأمراض الغازية بعد الإصابة بها لمرة واحدة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بذاكرة الخلايا البائية. أما المكونان الرئيسيان لهذه الذاكرة فهما خلايا الذاكرة البائية والخلايا البلازمية طويلة العمر (PCs) long - lived plasma cells

وتحفظ خلايا الذاكرة البائية «الذاكرة المناعية» للفيروسات أو البكتيريا، مما يسمح للجسم بالاستجابة بشكل أسرع وأكثر فعالية عند إعادة التعرض للعدوى. من جهة أخرى تقوم الخلايا البلازمية طويلة العمر بإنتاج الأجسام المضادة باستمرار لفترات طويلة مما يوفر حماية مستمرة ضد العدوى

وتشكل العمليات الكيميائية والخلوية التي تتحكم في اختيار الخلايا البائية لتصبح خلايا ذاكرة أو خلايا بلازمية طويلة العمر مجالاً نشطاً للبحث العلمي. وحتى الآن تعتمد معظم اللقاحات على تحفيز ذاكرة الخلايا البائية كجزء من استجابة الجهاز المناعي ومع ذلك ورغم التطور الكبير في تصميم اللقاحات لم نتمكن حتى الآن من تطوير لقاحات قادرة على تحفيز هذه الخلايا بكفاءة ضد بعض الأمراض الفتاكة مثل الملاريا والإيدز.

وأخيراً يتمحور البحث المستمر حول الفهم العميق للمسارات الجزيئية والخلوية التي تتحكم في تكوين وتنشيط خلايا الذاكرة البائية. ويعتبر هذا الفهم ضرورياً لتطوير لقاحات أكثر فعالية قادرة على توفير حماية مناعية طويلة الأمد ضد مجموعة واسعة من الأمراض، بما في ذلك الأمراض التي لم نتمكن بعد من السيطرة عليها بشكل كامل.



كيف يساعد نقص الأكسجين على انتشار السرطان؟

كيف يساعد نقص الأكسجين على انتشار السرطان؟
TT

كيف يساعد نقص الأكسجين على انتشار السرطان؟

كيف يساعد نقص الأكسجين على انتشار السرطان؟

تمكن علماء في مركز السرطان بجامعة «جونز هوبكنز» في الولايات المتحدة من تحديد 16 جيناً تستخدمها خلايا سرطان الثدي للبقاء على قيد الحياة في مجرى الدم، بعد هروبها من المناطق منخفضة الأكسجين في الورم.

جينات تحمي خلايا السرطانوتعد هذه النتيجة خطوة مهمة في فهم كيفية بقاء خلايا سرطان الثدي بعد مغادرتها للورم الأولي وانتقالها إلى مجرى الدم؛ حيث يمكن أن تبدأ في الانتشار من موقعها الأصلي إلى أماكن أخرى من الجسم.

وقد يفتح التعرف على الجينات المسؤولة عن حماية الخلايا السرطانية من الأضرار الناتجة عن «الأكسدة» بسبب أنواع الأكسجين التفاعلية «Reactive oxygen species ROS» (هي منتجات ثانوية لعملية الاستقلاب الغذائي الطبيعي للأكسجين)، آفاقاً جديدة للعلاج؛ خصوصاً في الحالات التي تُظهِر مقاومة عالية، مثل سرطان الثدي الثلاثي السلبي.

وحددت الباحثة الرئيسية دانييل جيلكس (أستاذة مساعدة في قسم الأورام، ضمن برنامج سرطان الثدي والمبيض، في كلية الطب بالجامعة) في الدراسة التي نشرت في مجلة «Nature Communications» في 28 سبتمبر (أيلول) 2024، 16 جيناً تستخدمها خلايا سرطان الثدي للبقاء على قيد الحياة في مجرى الدم، بعد هروبها من المناطق منخفضة الأكسجين في الورم.

وعلى الرغم من أن الخلايا التي تعاني من نقص الأكسجين توجد فيما تسمى «المنطقة المحيطة بالورم»، أي أنها تجلس بجوار الخلايا الميتة؛ فإن هناك اعتقاداً بأنها قادرة على الهجرة إلى مناطق ذات مستويات أعلى من الأكسجين؛ حيث يمكنها بالفعل العثور على مجرى الدم.

نقص الأكسجين

وانتشار الورمتعمل ظروف نقص الأكسجين في المناطق المحيطة بالأورام على تعزيز هجرة الخلايا السرطانية نحو مناطق أكثر ثراءً بالأكسجين، مثل مجرى الدم؛ إذ يمكن أن تؤدي عملية الهجرة هذه إلى انتشار الخلايا السرطانية من موقعها الأصلي إلى أجزاء أخرى من الجسم، ما يساهم في تكرار الإصابة بالسرطان حتى بعد إزالة الورم الأولي. أما الخلايا التي تتكيف للبقاء في ظل مثل هذه الظروف منخفضة الأكسجين، فتكون أكثر قدرة على التعامل مع الإجهاد التأكسدي «oxidative stress» (هو حالة عدم التوازن في نظام العوامل المؤكسدة والعوامل المضادة للتأكسد) في مجرى الدم، ما يمنحها ميزة البقاء.

وقد أظهرت الدراسة أن الخلايا السرطانية المعرضة لنقص الأكسجين لفترات طويلة (على سبيل المثال لفترة 5 أيام) حافظت على التعبير عن الجينات الناجمة عن نقص الأكسجين، حتى بعد الانتقال إلى مناطق ذات أكسجين أفضل، ما يشير إلى أن هذه الخلايا تحتفظ بـ«ذاكرة» لحالة نقص الأكسجين، وهو ما يتناقض مع الاستجابات قصيرة المدى التي شوهدت في مزارع المختبر القياسية.

دور بروتين «ميوسين»وكانت نتائج الدراسة تنبؤية بشكل خاص لسرطان الثدي الثلاثي السلبي «triple-negative breast cancer» الذي يتميز بمعدل تكرار مرتفع. فقد اكتشف الباحثون أن خزعات المرضى من هذا السرطان الذي تكرر في غضون 3 سنوات، تحتوي على مستويات أعلى من بروتين يسمى «ميوسين» (MUC1 glycoprotein mucin). وقام الباحثون بحجب بروتين «ميوسين» لتحديد ما إذا كان سيقلل من انتشار خلايا سرطان الثدي إلى الرئة، وكان هدفهم هو القضاء على الخلايا الخبيثة العدوانية بعد نقص الأكسجين على وجه التحديد.

وأكدت دانييل جيلكس أنه عند تخفيض مستوى بروتين «ميوسين» في هذه الخلايا التي تعاني من نقص الأكسجين، فإنها تفقد القدرة على البقاء في مجرى الدم، أو في ظروف وجود مركبات الأكسجين التفاعلي. كما أنها تشكل عدداً أقل من النقائل السرطانية «Cancer metastases» في الفئران (وهذا المصطلح يستخدم لوصف انتشار السرطان، إذ إن الخلايا السرطانية -على عكس الخلايا الطبيعية- تتمتع بالقدرة على النمو خارج المكان الذي نشأت فيه بالجسم).

ولا يزال الباحثون يجهلون أسباب الإصابة بسرطان الثدي الثلاثي السلبي بشكلٍ دقيق؛ لكنهم يعتقدون أن الطَّفرة الجينية المسماة «BRCA1» هي السبب؛ لأن وجودها يؤدي لانعكاس مبدأ عمل الجين السليم، وتصبح الخلايا أكثر عرضة للإصابة بالسرطان.

وتؤكد النتائج إمكانية استهداف بروتين «ميوسين» لمنع انتشار الخلايا السرطانية، وتحسين النتائج للمرضى، وخصوصاً أولئك الذين يعانون من أنواع سرطان عدوانية.

وقد تمهد التجربة السريرية الحالية في المرحلتين الأولى والثانية لعلاجات تستهدف بروتين «ميوسين» في أنواع مختلفة من السرطان، الطريق لتطبيقات أوسع إذا ثبتت فعاليتها.

ويعزز هذا البحث فهم كيفية مساهمة الظروف التي تسبب نقص الأكسجين داخل الأورام في حدوث النقائل، ويسلط الضوء على بروتين «ميوسين» كهدف علاجي واعد لمنع انتشار السرطان.