المعلومات الجينية قد تنبئ بالأمراض العصبية والنفسية

تحليل علمي للتنوع في خلايا الدماغ

المعلومات الجينية قد تنبئ بالأمراض العصبية والنفسية
TT

المعلومات الجينية قد تنبئ بالأمراض العصبية والنفسية

المعلومات الجينية قد تنبئ بالأمراض العصبية والنفسية

كشف تحليل علمي حديث عن تفاصيل معقدة حول التنوع الجيني في خلايا الدماغ، والصلة القوية بين الوراثة واحتمالية إصابة الأفراد بأمراض عصبية ونفسية. وأوضح أن الاستعداد الوراثي للأمراض العصبية النفسية، مثل مرض الفصام (الشيزوفرينيا) أقوى بكثير، مقارنة بأمراض مثل السرطان أو أمراض القلب.

وتؤكد حالات الوراثة العالية لهذه الحالات المرتبطة بالدماغ ضرورة فهم الاختلافات الجينية التي تؤدي إلى ظهور مظاهر المرض، لكن الأمر الأقل وضوحاً هو كيف يؤدي هذا التنوع الجيني في الدماغ إلى حدوث المرض.

دراسة خلايا الدماغ

وكانت نتائج الدراسة التحليلية قد نُشرت، في 23 مايو (أيار) 2024، بمجلة «ساينس (Science)». وشرع الباحثون، برئاسة مارك جيرستين، أحد كبار مؤلفي الدراسة والأستاذ في كلية الطب بجامعة ييل الولايات المتحدة، وزملاؤه في فهم التباين الوراثي عبر أنواع الخلايا الفردية في الدماغ بشكل أفضل.

وللقيام بذلك أجروا عدة أنواع من تجارب الخلية الواحدة على أكثر من 2.8 مليون خلية مأخوذة من أدمغة 388 شخصاً، بما في ذلك الأفراد الأصحّاء وغيرهم من الذين يعانون اضطرابات عصبية نفسية مختلفة، بما في ذلك الفصام «schizophrenia»، والاضطراب ثنائي القطب «bipolar disorder»، واضطراب طيف التوحد «autism spectrum disorder»، واضطراب ما بعد الصدمة «post-traumatic stress disorder»، ومرض ألزهايمر.

ومن هذه المجموعة من الخلايا حدّد الباحثون 28 نوعاً مختلفاً من الخلايا، ثم قاموا بفحص التعبير الجيني، والتنظيم داخل تلك الأنواع من الخلايا.

تباين التعبير الجيني

وقام الباحثون أيضاً بتقييم كيفية تباين جينات معينة، مثل تلك المرتبطة بالناقلات العصبية بين الأفراد من جهة، وبين أنواع الخلايا من جهة أخرى. ووجدوا أن التباين كان عادةً أعلى عبر أنواع الخلايا، مقارنة بالأفراد.

وكان هذا النمط أقوى بالنسبة للجينات التي ترمز للبروتينات المستهدفة للعلاج بالعقاقير، ما يشير إلى أن الأدوية يمكن أن تكون أكثر فعالية إذا استهدفت أنواعاً معينة من الخلايا، بدلاً من الدماغ بأكمله أو كل الجسم، ويعني أيضاً أن هذه الأدوية من المرجح أن تؤدي عملها في عدد من الأشخاص. وباستخدام البيانات الناتجة عن التحليل، تمكّن الباحثون من رسم خريطة للشبكات التنظيمية الجينية من النوع داخل الخلية، وشبكات الاتصال بين الخلايا، ثم توصيل هذه الشبكات بنموذج التعلم الآلي. وبعد ذلك وباستخدام المعلومات الجينية للفرد يمكن للنموذج التنبؤ بما إذا كان يعاني مرضاً في الدماغ أم لا. ويوفر التحليل الجيني التفصيلي الذي قدمته هذه الدراسة طرقاً واعدة لتطوير علاجات مستهدفة للأمراض العصبية والنفسية، من خلال فهم الاختلافات الجينية المحددة، وتأثيراتها على أنواع مختلفة من خلايا الدماغ، ويمكن للباحثين تطوير الطب الدقيق، مما قد يؤدي إلى علاجات أكثر فعالية لحالات مثل الفصام ومرض ألزهايمر.

وراثة اضطرابات الدماغ

على صعيد آخر، قام باحثون من جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة، بتحليل عيّنات من أنسجة المخ من 151 شخصاً من الأميركيين السود الأصحّاء الذين تبرعوا بأدمغتهم بعد وفاتهم.

وحددت الدراسة 2570 جيناً متأثراً بالأنساب؛ أي بالوراثة، وهو ما يمثل نحو 60 في المائة من الاختلافات في التعبير الجيني التي لوحظت في العيّنات.

وقد فسرت العوامل البيئية نحو 15 في المائة من هذه الاختلافات، وهو ما يشير إلى أن عدداً من الاضطرابات العقلية السائدة بين السكان السود قد تكون مدفوعة بعوامل بيئية، ما يشير إلى إمكانية الوقاية منها. بالإضافة إلى ذلك، تمثل الوراثة ما يقرب من 30 في المائة من بعض اضطرابات الدماغ، بما في ذلك السكتة الدماغية، ومرض باركنسون، ومرض ألزهايمر.

ونُشرت هذه الدراسة في مجلة «نتشر نيوروساينس (Nature Neuroscience)»، في 24 مايو 2024، برئاسة كبير مؤلفي الدراسة، عالم الأعصاب وعالم الوراثة دانييل واينبرجر، الرئيس التنفيذي لمعهد ليبر لتنمية الدماغ في جامعة جونز هوبكنز مع جامعة ولاية مورغان ومجتمع السود في بالتيمور بالولايات المتحدة.

وفي دراسه أخرى للفريق البحثي نفسه، قام الفريق أيضاً بفحص تأثير الأنساب الوراثية على التعبير الجيني والحامض النووي «دي إن إيه» على نسجة المخ بعد الوفاة للأفراد الأميركيين السود ذوي الأصول المختلطة؛ أي السكان الذين يمتلكون أصولاً حديثة من مصدرين منفصلين أو أكثر، حيث يمكن أن تُظهر المجموعات السكانية المختلطة مستويات عالية من التباين الجيني؛ وذلك بهدف تحديد المساهمات المعتمدة على الوراثة، وتلك المستقلة عنها.

وكانت 26 في المائة من الوراثة للسكتة الدماغية، و27 في المائة من الوراثة لمرض باركنسون، و30 في المائة من الوراثة لمرض ألزهايمر. وأظهرت نتائج الدراسة مدى تأثير النسب الوراثي على الاختلافات في التعبير الجيني بالدماغ البشري، والآثار المترتبة على خطر الإصابة بأمراض الدماغ، وقد نُشرت الدراسة برئاسة دانيال واينبرجر في جامعة جونز هوبكنز وزملائه في المجلة نفسها في 20 مايو 2024.

تنوّع أبحاث الجينوم

تؤكد النتائج، التي توصلت إليها مبادرة أبحاث علم الأعصاب للأنساب الوراثية الأفريقية، الحاجة الماسة للتنوع في أبحاث الجينوم وعلم الأعصاب. ومن خلال دراسة المجموعات السكانية، يمكن للباحثين الكشف عن العوامل الوراثية والبيئية التي تسهم في أمراض الدماغ لتطوير استراتيجيات الوقاية والعلاج المستهدفة، وبالتالي تطوير مجال الطب الدقيق وتحسين النتائج الصحية لجميع السكان.

كما توفر هذه الدراسة رؤى حاسمة حول التفاعل بين العوامل الوراثية والبيئية في التعبير الجيني، وانتشار الاضطرابات العقلية بين الأمريكيين السود، ومن خلال تأكيد الدور المهم للمؤثرات البيئية.

وتشير النتائج إلى أنه يمكن الوقاية من عدد من حالات الصحة العقلية، من خلال التدخلات المستهدفة، بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يؤدي فهم المساهمات الجينية في هذه الاضطرابات إلى علاجات أكثر تخصيصاً وفعالية، ما يؤدي في النهاية إلى تحسين نتائج الصحة العقلية، ومعالجة الفوارق الصحية في مجتمعات السود.



جدل أخلاقي حول «تحرير الجينوم البشري» لإنجاب أطفال معدّلين وراثياً

gettyimages
gettyimages
TT

جدل أخلاقي حول «تحرير الجينوم البشري» لإنجاب أطفال معدّلين وراثياً

gettyimages
gettyimages

أثار التغيير الأخير في إرشادات البحث الصحي الوطنية بجنوب أفريقيا الذي صدر في مايو (أيار) 2024 موجة من الجدل الأخلاقي، إذ يبدو أنه يفتح الطريق أمام استخدام تقنية تحرير الجينوم لإنجاب أطفال معدلين وراثياً مما يجعل جنوب أفريقيا أول دولة تتبنى هذ ا التوجه بشكل علني.

القصّ الجيني

ويعود السبب في الخلاف الحاد حول تحرير الجينوم البشري الوراثي (الفصّ الجيني) إلى تأثيراته الاجتماعية وإمكانياته المتعلقة بالانتقاء الجيني، ويعدُّ هذا التوجه مثيراً للاستغراب نظراً للمخاطر العالية التي تحيط بهذه التقنية.

وقد لفتت الانتباه إلى أن جنوب أفريقيا بصدد تسهيل هذا النوع من الأبحاث، كما ذكرت كاتي هاسون المديرة المساعدة في مركز علم الوراثة والمجتمع المشاركة في تأليف مقالة نشرت في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2024 في مجلة The Conversation.

وكان عام 2018 شهد قضية عالم صيني قام بتعديل جينات أطفال باستخدام تقنية «كريسبر» CRISPR لحمايتهم من فيروس نقص المناعة البشرية، مما أثار استنكاراً عالمياً وانتقادات من العلماء والمجتمع الدولي الذين رأوا أن هذا الاستخدام غير مبرر. وانتقد البعض سرية الطريقة، في حين شدد آخرون على ضرورة توفير رقابة عامة صارمة حول هذه التقنية ذات الأثر الاجتماعي الكبير.

معايير جديدة

ومع ذلك يبدو أن جنوب أفريقيا قد عدلت توجيهاتها للأبحاث في الصحة لتشمل معايير محددة لأبحاث تحرير الجينوم الوراثي لكنها تفتقر إلى قواعد صارمة تتعلق بالموافقة المجتمعية رغم أن التوجيهات تنص على ضرورة تبرير البحث من الناحية العلمية والطبية مع وضع ضوابط أخلاقية صارمة وضمان السلامة والفعالية. إلا أن هذه المعايير ما زالت أقل تشدداً من توصيات منظمة الصحة العالمية.

* التوافق مع القانون. وتأتي هذه الخطوة وسط انقسام في القانون بجنوب أفريقيا حيث يحظر قانون الصحة الوطني لعام 2004 التلاعب بالمواد الوراثية في الأجنة لأغراض الاستنساخ البشري. ورغم أن القانون لا يذكر تقنيات تعديل الجينات الحديثة مثل «كريسبر» فإن نصوصه تشمل منع تعديل المادة الوراثية البشرية ما يُلقي بتساؤلات حول التوافق بين القانون والتوجيهات الأخلاقية.

* المخاوف الأخلاقية. ويثير هذا التطور مخاوف واسعة بما في ذلك تأثيرات تقنية كريسبر على النساء والآباء المستقبليين والأطفال والمجتمع والنظام الجيني البشري ككل. وأثيرت تساؤلات حول إمكانية أن تكون جنوب أفريقيا مهيأة لاستقطاب «سياحة علمية»، حيث قد تنجذب مختبرات علمية من دول أخرى للاستفادة من قوانينها الميسرة.

استخدام تقنية «كريسبر»

وفي سابقة هي الأولى من نوعها في العالم وافقت الجهات التنظيمية الطبية في المملكة المتحدة العام الماضي على علاج جيني لاضطرابين في الدم.

ويعد علاج مرض «فقر الدم المنجلي» و«بيتا ثلاسيميا» أول علاج يتم ترخيصه باستخدام أداة تحرير الجينات المعروفة باسم كريسبر. ويعد هذا تقدماً ثورياً لعلاج حالتين وراثيتين في الدم وكلاهما ناتج عن أخطاء في جين الهيموغلوبين، حيث ينتج الأشخاص المصابون بمرض فقر الدم المنجلي خلايا دم حمراء ذات شكل غير عادي يمكن أن تسبب مشكلات لأنها لا تعيش طويلاً مثل خلايا الدم السليمة، ويمكن أن تسد الأوعية الدموية مما يسبب الألم والالتهابات التي تهدد الحياة.

وفي حالة المصابين ببيتا ثلاسيميا فإنهم لا ينتجون ما يكفي من الهيموغلوبين الذي تستخدمه خلايا الدم الحمراء لحمل الأكسجين في جميع أنحاء الجسم، وغالباً ما يحتاج مرضى بيتا ثلاسيميا إلى نقل دم كل بضعة أسابيع طوال حياتهم

علاج واعد لاضطرابات الدم

الموافقة عليه أخيراً في المملكة المتحدة على تحرير الجينات باستخدام طريقة مطورة من تقنية «كريسبر - كاس 9» CRISPR - Cas 9 لعلاج مرض فقر الدم المنجلي ومرض بيتا ثلاسيميا، من خلال تعديل الحمض النووي «دي إن إيه» بدقة حيث يتم أخذ الخلايا الجذعية من نخاع العظم وهي الخلايا المكونة للدم في الجسم من دم المريض.

ويتم تحرير الجينات باستخدام مقصات «كريسبر» الجزيئية بإجراء قطع دقيقة في الحمض النووي لهذه الخلايا المستخرجة واستهداف الجين المعيب المسؤول عن إنتاج الهيموغلوبين المعيب. ويؤدي هذا إلى تعطيل «الجين - المشكلة» وإزالة مصدر الاضطراب بشكل فعال ثم يعاد إدخال الخلايا المعدلة إلى مجرى دم المريض. ومع اندماج هذه الخلايا الجذعية المعدلة في نخاع العظم تبدأ في إنتاج خلايا الدم الحمراء الصحية القادرة على العمل بشكل طبيعي حيث يصبح الجسم الآن قادراً على توليد الهيموغلوبين المناسب.

وقد أظهرت هذه العملية نتائج واعدة في التجارب السريرية فقد تم تخفيف الألم الشديد لدى جميع مرضى فقر الدم المنجلي تقريباً (28 من 29 مريضاً) ولم يعد 93 في المائة من مرضى ثلاسيميا بيتا (39 من 42 مريضاً) بحاجة إلى نقل الدم لمدة عام على الأقل. ويشعر الخبراء بالتفاؤل بأن هذا قد يوفرعلاجاً طويل الأمد وربما مدى الحياة.

ويقود البروفسور جوسو دي لا فوينتي من مؤسسة إمبريال كوليدج للرعاية الصحية التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية، التجارب في المملكة المتحدة لهذا العلاج لكل من البالغين والأطفال، ويصفه بأنه اختراق تحويلي مع وجود نحو 15 ألف شخص في المملكة المتحدة مصابين بمرض فقر الدم المنجلي ونحو ألف مصابين بالثلاسيميا، إذ يمكن أن يحسن «كاسجيفي» نوعية الحياة بشكل كبير، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يواجهون نطاق علاج محدود.

وتُعد «كريسبر - كاس 9» واحدة من الابتكارات الرائدة التي أحدثت تحولاً في الأبحاث الطبية والأدوية رغم أن استخدامها يثير جدلاً أخلاقياً، نظراً لاحتمالية تأثير تعديل الجينات على الأجيال المقبلة. وقد مُنحت جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 لجنيفر دودنا وإيمانويل شاربنتييه لمساهمتهما الأساسية في اكتشاف طريقة فعالة لتحرير الجينات، أي التدخل الدقيق الذي يسمح بإدخال التعديلات المطلوبة داخل الحمض النووي بطريقة بسيطة بكفاءة وسريعة واقتصادية.