«العمارة المشهدية»... تعود للحياة

مبان بتصاميم غريبة ونماذج نافرة تدفع حدود المنطق

مركز بيرلمان للفنون
مركز بيرلمان للفنون
TT

«العمارة المشهدية»... تعود للحياة

مركز بيرلمان للفنون
مركز بيرلمان للفنون

عندما بدأت عينٌ بارتفاع 112 متراً بالرمش في لاس فيغاس، الصيف الماضي، عادت معايير العمارة في العالم إلى وضع «إعادة الضبط».

مبنى كروي غريب

كانت هذه العين عبارة عن صورة متحرّكة مسلّطة من مبنى «ذا سفير» the Sphere (الجسم الكروي)، أحد أغرب المباني التي اكتملت في 2023. و«ذا سفير» هو صالة للفنون الاستعراضية. وكما يوحي اسمه، فإنه مبنى كروي عملاق مؤلّف من 35 طابقاً مغطّى بمليون ومئتي ألف مصباح ليد حوّلته إلى شاشة دائرية كبيرة قادرة على استعراض صورٍ وإعلانات وأعمال فنيّة برّاقة، بالإضافة إلى «مقلة عينٍ» في الجهة المواجهة للاس فيغاس.

يعد «ذا سفير»، الذي يمثّل منصّة خارجية ومسرحاً مقفلاً يتّسع لأكثر من 18 ألف متفرّج، من أكثر المباني غير المألوفة التي افتُتحت هذا العام.

ولكنّه ليس حالةً فريدة. فقد شهد العالم بروز مبانٍ جديدة دفعت بحدود المنطق والهدف بتصاميم غريبة ونماذج تجارية نافرة نوعاً ما. تخلّت هذه المباني عن البساطة والتحفّظ لصالح مقاربة تستخدم الجرأة التي تستدعي الاهتمام. هذه الإشارات جميعها تُبشّر بعصرٍ جديد من المشهدية (أي النصب التي تجتذب الأبصار بمشهدها).

مبنى يانتاس الصين لتقديس الشمس

عمارة مشهدية

قد لا يكون هناك سببٌ واحدٌ لبروز العمارة المشهدية spectacle architecture بهذه القوّة خلال العام الماضي، ولكنّها من دون شكّ أحد منتجات عالم ما بعد الجائحة.

باختصار، يمكن القول إنّ العمارة تتحوّل اليوم عن الجانب المتواضع والمنعزل إلى الأكثر انفتاحاً وتجريبيّة وجرأةً، إذ يبدو أنّ مصمّمي ومطوّري المباني المشهدية يقدّمون اليوم النقيض المعماري للإغلاقات والفقاعات العازلة باستخدام الألوان الفاقعة، ومساحات التجمّع الكبيرة، ومشاهد تجبرنا على النظر إليها ومشاركتها. هذه الأفكار التي وُلدت في فترة الجائحة، دخلت اليوم مرحلة التنفيذ على الأرض وستمثّل تذكيراً لكثيرين حول العالم بأنّه لا داعي بأن تكون الحياة شديدة الانضباط.

طبعاً، هذا الاتجاه الجديد في العمارة لا يستهدف الإيثار وحب الغير فحسب، بل إن له أهدافاً ربحية أيضاً. ولعلّ «ذا سفير» هو المثال الأكثر تطرّفاً على العمارة المشهدية في السنوات الأخيرة، مدعوماً بغناه بالعناصر التقنية وموقعه في لاس فيغاس، حيث يصعب تجاهله على الرغم من احتواء المدينة على كلّ ما قد يتخيّله المرء من مشهديات.

رسم تخيلي لمشروع "الكعب" السعودي"

مشاريع سعودية متميزة

ينعكس هذا التفكير أيضاً في مشروع «ذا لاين» في المملكة العربية السعودية. يتميّز هذا المبنى بتصميم طولي، ويرجّح أحد مطوّريه أن يمتدّ لمسافة 169 كلم في الصحراء. هذا المشروع هو جزءٌ من جهود أكبر وأغرب لبناء مدينة اسمها «نيوم» في المملكة. جذبت القدرات المالية الهائلة التي تملكها السعودية أفضل معماريّي العالم للمساهمة في هذه الرؤية.

شملت هذه الجهود أخيراً الإعلان عن «المكعّب»، مبنى بارتفاع 369 متراً، يضمّ مدينة ستقدّم ما وصفه مطوّروه «بالوجهة التجريبية الغامرة» بشاشات ومجسّمات رقمية. يُشرف «المكعّب» على كامل محيطه في مدينة الرياض، ويبدو أشبه بلعبة عملاقة متدليّة تتحدّى المعقول.

استخدم المعماريون المكعّبات لأجيال عدّة، ولعلّ الكعبة هي النموذج الأوّل عليها. والتحق بها في العصر الحديث مركز «بيرلمان» للفنون الأدائية في نيويورك، الذي برهن كيف يمكن لتصميم متواضع أن يُترجم إلى مبان رائعة تتناغم مع أحيائها. في المقابل، صُمّم مكعّب السعودية ليكون قابلاً للرؤية من دون عناء وعن مسافة بعيدة على الأرجح.

حقّقت المشاريع السعودية هدفها باستعراض الثروة والقوّة قبل تنفيذها على أرض الواقع، الذي يعدّ أيضاً الهدف الأساسي للعمارة المشهدية، وهو غالباً نوع التأثير الذي رأيناه في السباق العالمي نحو بناء أطول برج. فقد شهد عام 2023 بروز برج جديد في كوالالمبور، ماليزيا، يحمل اسم «ميرديكا 118»، بتصميم سمكة سيف البحر وارتفاع 670 متراً، ويضمّ 118 طابقاً، وهو اليوم ثاني أطول مبنى في العالم. وبوصفه مركزاً لمصرف الاستثمار الماليزي، يقدّم هذا المبنى مساحة مكتبية هائلة تمتّد لآلاف الأمتار على الرغم من أنّ مستقبل المساحات المكتبية ليس واضحاً في عصر العمل عن بعد.

مبنى "ذا سفير" وعينه

«المكعّب» مبنى سعودي بـ«وجهة تجريبية غامرة» بشاشات ومجسّمات رقمية

مبان غير مألوفة

ومع ذلك، العمارات المشهدية ليست جميعها رديئة. فقد أظهرت مبانٍ جديدة كثيرة أنّ التصميم المبالغ فيه يمكن أن يكون أنيقاً ومجدٍ أيضاً. ومن الأمثلة على هذا النوع نسمّي مركز ريتشارد غيلدر للعلوم والتعليم والابتكار في متحف التاريخ الطبيعي الأميركي، الذي صمّمته «ستوديو غانغ»، شركة العمارة الشهيرة في شيكاغو، ليشكّل وصلة جديدة للمتحف المترامي الأطراف. يتميّز المبنى بجدران أشبه بالكهوف، تجذب الزوّار إلى واحد من أكثر المباني المثيرة للدهشة في عام 2023.

العمارة تتحوّل بعيداً عن الجانب المتواضع والمنعزل إلى الأكثر انفتاحاً وتجريبيّة وجرأةً

وفي العاصمة البريطانية، شهد مبنى صناعي مهجور عملية تجديد حوّلته إلى رمزٍ جديد للمدينة. إنّها محطّة باترسي للطاقة، منشأة قديمة عاملة بالفحم كانت مسؤولة عن توفير خُمس احتياجات المدينة من الكهرباء، والتي أصبحت اليوم مبنى رائعاً متعدّد الاستخدامات، ويضمّ مئات الوحدات السكنية، ومركزاً تجارياً، ومساحات مكتبية، ومركزاً لشركة «أبل».

تنتظر مدينة بوسطن الأميركية إضافة جديدة ومشرقة لمطارها الدولي، والتي ستكون عبارة عن مدرجٍ جديد باللون الأحمر.

تذهب بعض المباني المشهدية أبعد من الهدف التجاري. ففي مدينة يانتاي، شمال شرقي الصين، ينتصبُ مبنى غريب وجميل هدفه الأساسي تقديس الشمس. يضمّ البرج واجهة مفتوحة مواجهة للشمس والبحر، ويؤمّن للمحليين مساحةً للانخراط في شعائر جماعية عمرها مئات السنوات لتقديس الشمس. في الحقيقة، صمّمت هذا المبنى الشمس نفسها وحدّدت فتحاته ومساحاته الاجتماعية وفقاً لحركاتها، فجعلت منه مركزاً ثقافياً عملياً ومتعدّد الأغراض، يضمّ مسرحاً ومكتبةً ومساحات عدّة للمناسبات. ولكنّ روحه تكمن في هذا الهيكل المبني لتأسيس علاقة أكثر حسيّة بين الناس ومركز نظامنا الشمسي.

سواء كانت رديئة أو هادئة، لا شكّ في أنّ المباني المشهدية تعدّ الساحة لثورة على مستوى الطراز والأسلوب. صحيحٌ أنّ هذه التصاميم قد تخرج عن المألوف أحياناً، ولكنّها في الوقت نفسه تُظهر كيف يمكن للغرابة والروعة أن تتجليا في شكلٍ معماري. واليوم، لا يزال العالم في بداية تذوّق طعم مشهديات معمارية جديدة غريبة ومثيرة للاهتمام وربّما جميلة.

* مجلّة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


مقالات ذات صلة

«روبوتاكسي»... تجاوزات مرورية في أولى تجارب المستقبل الذكي على الطرق

تكنولوجيا الرئيس التنفيذي لـ«تسلا» إيلون ماسك يستقل سيارة الشركة أثناء مغادرته فندقاً في بكين (رويترز)

«روبوتاكسي»... تجاوزات مرورية في أولى تجارب المستقبل الذكي على الطرق

أطلقت شركة «تسلا»، المملوكة لرجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك، خدمتها المرتقبة للسيارات ذاتية القيادة «روبوتاكسي» في ولاية تكساس الأميركية.

«الشرق الأوسط» (تكساس)
تكنولوجيا أثبتت التجارب في «وادي الموت» أن الجهاز يمكنه إنتاج 160 مل من المياه يومياً حتى في رطوبة منخفضة تبلغ 21 في المائة (MIT)

جهاز يحصد الماء من الهواء دون كهرباء أو شبكة مياه!

ابتكر باحثو «MIT» جهازاً صغيراً يستخلص مياه شرب نقية من الهواء دون الحاجة للكهرباء ما يقدّم حلاً واعداً لأزمة المياه في البيئات الجافة.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا مع انتشار السيارات ذاتية القيادة تبرز الحاجة إلى أنظمة قادرة على اتخاذ قرارات أخلاقية في مواقف مصيرية على الطريق (غيتي)

في القيادة الذاتية... من يتحمّل القرار الأخلاقي عند اللحظة الحاسمة؟

مع اقتراب انتشار السيارات الذاتية القيادة، تبرز تساؤلات أخلاقية حول قدرتها على اتخاذ قرارات مصيرية، ومن يتحمّل المسؤولية عند وقوع الحوادث.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا استخدم المهاجمون قواعد بيانات سحابية غير مؤمنة لجمع بيانات حساسة ما يعكس ضعفاً في إعدادات الحماية لدى المستخدمين والمؤسسات

تسريب 16 مليار بيانات دخول في أكبر خرق أمني بالتاريخ

أكبر تسريب لبيانات الدخول في التاريخ يكشف عن 16 مليار سجل، دون أن يتضمن اختراقاً مباشراً لأي شركة كبرى، ما يسلط الضوء على خطورة ضعف الوعي الأمني لدى المستخدمين.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا يتيح النظام للمستخدمين إنشاء مقاطع مدتها حتى 21 ثانية بخيارات حركة تلقائية أو مخصصة وبتكلفة منخفضة نسبياً (شاترستوك)

«ميدجورني» تدخل عالم الفيديو... صور متحركة يولّدها الذكاء الاصطناعي

أطلقت «ميدجورني» نموذجها الأول للفيديو «V1» الذي يتيح تحريك الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي بسهولة وتكلفة منخفضة وسط إشادة المستخدمين ومخاوف قانونية.

نسيم رمضان (لندن)

الفجوة العالمية في الذكاء الاصطناعي: دليل شامل

 مراكز بيانات متخصصة في الذكاء الاصطناعي لدى 32 دولة فقط
مراكز بيانات متخصصة في الذكاء الاصطناعي لدى 32 دولة فقط
TT

الفجوة العالمية في الذكاء الاصطناعي: دليل شامل

 مراكز بيانات متخصصة في الذكاء الاصطناعي لدى 32 دولة فقط
مراكز بيانات متخصصة في الذكاء الاصطناعي لدى 32 دولة فقط

يُقود التقدم السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تحولات في الصناعات والاقتصادات والمجتمعات حول العالم. ومع ذلك، وكما هو الحال مع الكثير من الابتكارات التحويلية عبر التاريخ، فإن فوائد وفرص الذكاء الاصطناعي ليست موزعة بالتساوي. بل تظهر فجوة كبيرة ومتنامية بين الدول التي تمتلك الموارد والبنية التحتية اللازمة لريادة تطوير الذكاء الاصطناعي، وتلك المهدَّدة بالتخلف عن الرَّكب، كما كتب آدم ساتاريانو وبول موزور(*).

وهذه الفجوة ليست تكنولوجية فحسب، بل لها آثار عميقة على الجغرافيا السياسية، والتبعية الاقتصادية، والتقدم العلمي، والمساواة العالمية.

إحصائيات جامعة أكسفورد

* مراكز البيانات المتخصصة بالذكاء الاصطناعي في العالم. وفق إحصائيات جامعة أكسفورد، توجد في العالم لدى 32 دولة فقط، معظمها في نصف الكرة الشمالي، مراكز بيانات متخصصة في الذكاء الاصطناعي، موزعة كما يلي:

- الاتحاد الأوروبي: 28.

- دول أخرى في أوروبا: 8.

- الصين: 22.

- الولايات المتحدة: 26.

- دول أخرى في آسيا: 25.

علماً بأن عدد مراكز البيانات في الصين لا يشمل المراكز الموجودة في هونغ كونغ وتايوان.

* ما الجهات المشغِّلة للحوسبة السحابية لتقنيات الذكاء الاصطناعي؟ تعتمد الشركات والدول حول العالم بشكل رئيسي على كبار مشغلي الحوسبة السحابية الأميركية والصينية لتوفير مرافق الذكاء الاصطناعي. وتوجد الشركات التي تُشغّل مرافق الذكاء الاصطناعي في الصين وآسيا وأوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وأميركا الشمالية وجنوب أفريقيا وسويسرا وأميركا الجنوبية وفرنسا وأستراليا، حسب جامعة أكسفورد.

* شركات معدودة تسيطر على الذكاء الاصطناعي. مع تسابق الدول على تعزيز تطوير نظم الذكاء الاصطناعي، تتسع فجوة هائلة حول العالم. إذ إن شركات قليلة تتحكم في حوسبة الذكاء الاصطناعي، وفيما يلي مناطق التوفر الإجمالية للذكاء الاصطناعي التي تقدمها كل شركة، وهو مقياس يستخدمه الباحثون مؤشراً على مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، حسب جامعة أكسفورد:

- «مايكروسوفت»: 93.

- «إيه دبليو إس»: 84.

- «غوغل»: 66.

- «علي بابا»: 61.

- «هواوي»: 44.

- «تينسنت»: 38.

- «أو في إتش»: 5.

- «إكسوسكيل»: 1.

صورة جوية لمنشأة للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي في تكساس

مشاهد متناقضة: تكساس والأرجنتين

تتجلى الفجوة بوضوح في المشاهد المتناقضة بين الولايات المتحدة والأرجنتين، ففي تكساس، عاين سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» إحدى أبرز شركات الذكاء الاصطناعي في العالم، موقع بناء مركز بياناتٍ جديدٍ ضخم يتجاوز مساحة سنترال بارك في نيويورك. هذا المشروع الذي تبلغ تكلفته 60 مليار دولار ليس مثيراً للإعجاب من حيث حجمه المادي فحسب؛ بل إنه على وشك أن يصبح أحد أقوى مراكز الحوسبة على هذا الكوكب بمجرد اكتماله، ربما في وقتٍ مبكرٍ من العام المقبل. وتُعد محطة الغاز الطبيعي المستقلة التابعة لمركز البيانات دليلاً على الموارد الهائلة التي تُضخّ في هذه البنية التحتية الجديدة.

في هذه الأثناء، في منتصف الطريق عبر العالم في الأرجنتين، لا يمكن أن يكون المشهد أكثر اختلافاً. إذ يدير نيكولاس وولوفيك، أستاذ علوم الحاسوب في الجامعة الوطنية في قرطبة، ما يُعد من بين أكثر مراكز حوسبة الذكاء الاصطناعي تقدماً في البلاد. ومع ذلك، فبدلاً من المرافق الجديدة البراقة، يعمل وولوفيك في غرفةٍ مليئةٍ برقائق الذكاء الاصطناعي القديمة وأجهزة كمبيوتر الخادم، وأسلاك متعرجةً عبر المساحة في ترقيعٍ مرتجل. وبالنسبة إلى وولوفيك، تُعدّ هذه التجربة نموذجاً مصغراً لحقيقة أكبر: «كل شيء يزداد انقساماً»، كما يُلاحظ، مُعبّراً عن شعور بالاستسلام والفقدان يتردد صداه في معظم أنحاء العالم النامي.

وحدة معالجة الرسومات «إتش 100» من «إنفيديا»

تحديد فجوة الذكاء الاصطناعي

تُعزى الفجوة الرقمية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي إلى التفاوتات في «قوة الحوسبة» -وهي البنية التحتية المتخصصة لمراكز البيانات عالية الأداء المُزوّدة برقائق دقيقة وأجهزة كمبيوتر متطورة مُصممة لتدريب وتشغيل أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي تعقيداً. لم تعد هذه الفجوة تقتصر على الوصول إلى الإنترنت أو الأدوات الرقمية الأساسية؛ بل أصبحت تتعلق بالوصول إلى المحركات التكنولوجية الأساسية التي ستُشكّل العصر القادم من التطوير والابتكار والاكتشاف العلمي.

التوزيع العالمي لقوة الحوسبة

وفقاً للبيانات التي جمعها باحثون في جامعة أكسفورد، فإن الهوَّة واسعة ومتنامية. وقد برزت الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي كأكبر المستفيدين من ثورة الذكاء الاصطناعي. تستضيف هذه المناطق مجتمعةً أكثر من نصف أقوى مراكز البيانات في العالم -ما يُعادل مصانع العصر الصناعي- حيث تُطوَّر نماذج الذكاء الاصطناعي وتُدرَّب وتُحسَّن. هذه المرافق ليست مجرد مستودعات لأجهزة الكمبيوتر؛ بل تُمثِّل تجمُّعاتٍ لرأس المال والخبرة والقدرة التنافسية.

لا يمتلك سوى عددٍ ضئيلٍ من الدول -32 دولةً إجمالاً، أو نحو 16 في المائة من جميع دول العالم- مثل هذه البنية التحتية لمراكز البيانات واسعة النطاق. بالنسبة إلى هذه الدول، فإنَّ العائدَ كبيرٌ: فالوصول إلى قوة الحوسبة يُترجَم إلى الريادة في أبحاث الذكاء الاصطناعي، والتحكم في تدفقات البيانات الحيوية، والقدرة على جذب المواهب التقنية، والقدرة على تطوير ونشر منتجات ذكاء اصطناعي متطورة.

هيمنة الولايات المتحدة والصين

تبرز هيمنة الولايات المتحدة والصين بشكل خاص. تُشغّل الشركات الأميركية والصينية وحدها أكثر من 90 في المائة من مراكز البيانات العالمية التي تعتمد عليها الشركات والمؤسسات الأخرى في أعمالها المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. لا يمنح هذا التركيز قوة اقتصادية فحسب، بل يمنح أيضاً نفوذاً جيوسياسياً، حيث يُصبح الوصول إلى موارد تطوير الذكاء الاصطناعي المتقدمة رافعةً في العلاقات العالمية والمفاوضات التجارية والتحالفات التكنولوجية.

الهوامش: أفريقيا وأميركا الجنوبية والهند واليابان

قارن هذا بالوضع في أفريقيا وأميركا الجنوبية، حيث تكاد مراكز حوسبة الذكاء الاصطناعي المتقدمة تكون غائبة تماماً. ووفقاً لبيانات أكسفورد، فإن أكثر من 150 دولة تفتقر إلى مثل هذه المرافق على الإطلاق، مما يعني أن مواطنيها وباحثيها وشركاتها يعتمدون بشكل كبير على مُزوّدي خدمات خارجيين -غالباً بشروط قد لا تكون مواتية أو مستدامة.

في الوقت نفسه، تتميز الهند واليابان بتقدمهما النسبي في هذا المجال. تمتلك الهند ما لا يقل عن خمسة مراكز بيانات متقدمة قادرة على دعم أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي. البحث والنشر، بينما تمتلك اليابان أربعة على الأقل. ومع ذلك، حتى هذه الأرقام ضئيلة مقارنةً بحجم الاستثمار والبنية التحتية في الولايات المتحدة والصين.

تداعيات الانقسام العالمي

تمتد عواقب هذا الانقسام إلى ما هو أبعد من مجرد التباهي التكنولوجي. فالوصول إلى قوة الحوسبة المتقدمة للذكاء الاصطناعي أصبح بسرعة شرطاً أساسياً للنمو الاقتصادي والابتكار العلمي والأمن الداخلي. والدول التي تمتلك هذه القدرات مهيأة لجذب الاستثمار، وصياغة المعايير العالمية، وجني الثمار الاقتصادية المرتبطة بالتحول القائم على الذكاء الاصطناعي.

في الوقت نفسه، تُخاطر الدول التي تخلفت عن الركب في سباق «قوة الحوسبة» بأن تصبح مجرد مستهلكة للتقنيات المطورة أجنبياً. يمكن أن يؤدي هذا الاعتماد إلى تآكل الصناعات المحلية، والحد من القدرة على وضع السياسات الرقمية، وخلق أشكال جديدة من الضعف الاقتصادي والسياسي. بالنسبة إلى الباحثين والشركات في المناطق النامية، يمكن أن يؤدي نقص الوصول إلى البنية التحتية المتطورة إلى خنق الابتكار المحلي وتفاقم أوجه عدم المساواة القائمة.

تشكيل المستقبل: الاندفاع والمخاطر والمسؤوليات

تتميز اللحظة الراهنة بتسابق عالمي - اندفاع يائس من الدول والشركات والمؤسسات، سعياً لعدم إقصائها من سباق تكنولوجي يَعِد بإعادة تنظيم الاقتصادات والمجتمعات.

مخاطر كبيرة للتخلف

المخاطر كبيرة: من المتوقع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي تقدماً كبيراً في كل شيء، من الرعاية الصحية والتعليم إلى الدفاع الوطني والبحث العلمي الأساسي. قد يجد أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى قوة الحوسبة أنفسهم محرومين بشكل دائم من هذه المزايا.

في الوقت نفسه، يثير تركيز البنية التحتية للذكاء الاصطناعي تساؤلات مهمة حول الحوكمة العالمية، والسيادة الرقمية، ومسؤوليات كبار مزودي التكنولوجيا. هل ينبغي اعتبار الوصول إلى قدرات الذكاء الاصطناعي منفعة عامة عالمية؟ كيف يمكن تعزيز التعاون الدولي لسد الفجوة دون تكرار أنماط الاستغلال أو التبعية؟ هذه أسئلة مُلحة بدأ صانعو السياسات والباحثون ومنظمات المجتمع المدني للتوِّ في التعامل معها.

غموض وتفاؤل

تُمثل «الفجوة العالمية في الذكاء الاصطناعي» تحدياً عميقاً ومتعدد الأوجه، متشابكاً مع قضايا المساواة والسلطة والفرص. مع استمرار تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي وانتشارها، ستُشكل الدول التي تمتلك البنية التحتية الأكثر تطوراً مسار الابتكار وتوزيع المنافع. بالنسبة إلى الغالبية العظمى من دول العالم، يبقى الطريق إلى الأمام غامضاً، إذ يشوبه التفاؤل بالتحول التكنولوجي وخطر التخلف عن الركب. ولا يتطلب معالجة هذه الفجوة الاستثمار والابتكار فحسب، بل يتطلب أيضاً الالتزام بالتنمية الشاملة والتعاون الدولي، وهو إدراكٌ بأن مستقبل الذكاء الاصطناعي ملكٌ للجميع، وليس لقلةٍ من المحظوظين فحسب.

* باختصار، خدمة «نيويورك تايمز».

حقائق

أكثر من 150

دولة تكاد تفتقر على الإطلاق الى مراكز حوسبة الذكاء الاصطناعي المتقدمة وفقًا لبيانات جامعة أكسفورد