روبوتات «غوغل» مدعومة بنظم «النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي»

تكتسب مهارات جديدة في المنطق والارتجال

روبوت «آر تي-2»
روبوت «آر تي-2»
TT

روبوتات «غوغل» مدعومة بنظم «النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي»

روبوت «آر تي-2»
روبوت «آر تي-2»

وقف روبوتٌ بذراع واحدة أمام طاولة عليها ثلاثة مجسّمات بلاستيكية لأسدٍ، وحوت، وديناصور... أعطى مهندسٌ الروبوت الأمر التّالي: «احمل الحيوان المنقرض»... أصدر الروبوت صوت طنينٍ للحظات ومن ثمّ امتدّت ذراعه وفتح مخلبه وانخفض والتقط الديناصور.

روبوتات أذكى

كان هذا العرض، الذي حضرته خلال مقابلة أجريتها لمدوّنتي الصوتية، في قسم الروبوتيات التابع لشركة «غوغل» في «ماونتن فيو»، كاليفورنيا، حتّى وقتٍ ليس ببعيد مستحيلاً لأنّ الروبوتات لم تكن قادرة على التعامل بثقةٍ مع أشياء لم ترها من قبل، ولم تكن بالتأكيد قادرة على التفكير المتقدّم الذي يتيح لها الربط بين «حيوان منقرض» و«ديناصور بلاستيكي».

تقترب صناعة الروبوتيات من ثورةٍ حقيقية تعتمد على أحدث التطوّرات في ما يُسمّى «النماذج اللغوية الكبيرة» - نوع الذكاء الاصطناعي نفسه الذي يدعم روبوتات المحادثة مثل «تشات جي بي تي» و«بارد».

بدأت «غوغل» أخيراً في تزويد روبوتاتها بنماذج لغوية على قدرٍ فريدٍ من التطوّر، لتمنحها ما يعادل الأدمغة الاصطناعية. ساهم هذا المشروع السرّي في «إذكاء» هذه الروبوتات ومنحها قوىً جديدة للفهم وحلّ المسائل.

خلال الاستعراض الذي حضرته لأحدث النماذج الروبوتية من «غوغل»، كُشف النقاب عن الروبوت «RT-2»، الذي يرقى إلى خطوةٍ أولى نحو ما وصفه تنفيذيّو الشركة بقفزة نوعية في طريقة بناء وبرمجة الروبوتات.

في هذا الإطار، قال فنسنت فانوكيه، رئيس قسم الروبوتيات في مختبر «ديب مايند» التّابع لـ«غوغل»: «كان علينا أن نعيد التفكير في كامل برنامجنا البحثي نتيجة هذا التغيير، إذ خسرت تصاميم كثيرة كنا نعمل عليها من قبل، جدواها».

اختراق واعد

من جهته، عد كين غولدبرغ، أستاذ الروبوتيات في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أنّ الروبوتات لا تزال بعيدةً عن مستوى الذكاء البشري وتفشل في بعض المهام الأساسية، ولكنّ استخدام «غوغل» لنماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية لمنح الروبوتات مهارات جديدة في المنطق والارتجال، يمثّل اختراقاً واعداً.

وأضاف أنّ «المثير حقاً للإعجاب هو ربط الدلالات اللفظية بالروبوتات. هذا الأمر حماسيّ جداً بالنسبة لعالم الروبوتيات».

ولكن لفهم مدى أهميّة هذا التطوّر، لا بدّ من تقديم بعض المعلومات عن الطريقة التقليدية التي اتُّبعت لتطوير الروبوتات.

اعتمد المهندسون في «غوغل» وغيرها من الشركات لسنوات طويلة على تدريب الروبوتات لأداء مهام حركية - كقلب شطيرة برغر مثلاً - عبر برمجتها باستخدام لائحة تعليمات محدّدة. بعدها، تعمد الروبوتات إلى تكرار المهمّة عدّة مرّات بينما يعمل المهندسون على تعديل التعليمات لتصبح صحيحة.

نجحت هذه المقاربة في بعض الاستخدامات المحدودة، إلّا أنّ تدريب الروبوتات بهذه الطريقة بطيء ومجهد لأنّه يتطلّب جمع الكثير من البيانات من اختبارات في العالم الحقيقي. وإذا أردتم تدريب الروبوت على أداء مهمّة جديدة، كقلب فطيرة بدل شطيرة برغر، سيكون عليكم إعادة برمجته من الصفر.

ساهمت هذه القيود نوعاً ما في تأخّر تقدّم الروبوتات التي تعتمد على الهياكل الآلية مقارنةً بنظيراتها التي تعتمد على البرمجيات. فقد عمد مختبر «أوبن إي آي»، مطوّر روبوت «تشات جي بي تي»، إلى حلّ فريقه للروبوتات في 2021، عازياً الأمر إلى بطء التقدّم وقلّة بيانات التدريب العالية الجودة. وفي 2017، باعت شركة «ألفابت»، الشركة الأم لـ«غوغل»، فرعها «بوسطن ديناميكس» المتخصص بالروبوتات.

ولكنّ فكرة تبادرت إلى أذهان مهندسي «غوغل» في السنوات الأخيرة: ماذا إذا استخدمنا نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية المدرّبة على مجموعة واسعة من نصوص الإنترنت لحثّ الروبوتات على اكتساب مهارات جديدة بدل برمجتها للقيام بمهمّة واحدة في كلّ مرّة؟

«الرؤية والفعل»

كشفت كارول هوسمان، عالمة بحثية من «غوغل»، أنّهم «بدأوا باستكشاف هذه النماذج اللغوية قبل عامين، ثمّ بدأوا في تأسيس اتصال بينها وبين الروبوتات».

بدأت «غوغل» جهودها في الجمع بين الروبوتات والنماذج اللغوية في مشروع «بالم - ساي كان» الذي أعلنت عنه العام الماضي. جذب المشروع بعض الاهتمام ولكنّ فعّاليته كانت محدودة، حيث افتقرت الروبوتات فيه إلى القدرة على تحليل الصور - مهارة أساسية لا بدّ أن تتمتّع بها إذا ما أردناها أن تجوب العالم. نجحت هذه الروبوتات في وضع تعليمات مفصّلة ومنظّمة لأداء مهام مختلفة، ولكنّها لم تستطِع تحويل هذه التعليمات إلى أفعال.

أمّا روبوت «غوغل» الجديد، «RT-2»، فيستطيع القيام بذلك، ولهذا السبب سمته الشركة نموذج «الرؤية-اللغة-الفعل»، أو نظام ذكاء اصطناعي قادرٍ لا على رؤية وتحليل العالم من حوله، فحسب، بل أيضاً على تلقين الروبوت كيف يتحرّك.

يقوم النموذج بهذا الأمر من خلال ترجمة حركات الروبوت إلى سلسلة من الأرقام - في عملية تُسمّى الترميز - وإدراج هذه الرموز في بيانات التدريب نفسها المستخدمة في النموذج اللغوي. في النهاية، وكما يتعلّم «بارد» أو «تشات جي بي تي» تكهّن الكلمات التالية في قصيدة أو موضوع تاريخي، يستطيع «RT-2» تكهّن كيف يجب أن تتحرّك ذراع الروبوت لالتقاط كرة أو رمي عبوة في سلّة المهملات.

«بمعنى آخر، يستطيع هذا النموذج تعلّم كيف يتحدّث بلغة الروبوتات،» على حدّ تعبير هوسمان.

وفي الاستعراض الذي دام لساعة، شاهدتُ وشريكي في المدوّنة كيف يؤدّي «RT-2» عدداً من المهام المثيرة للإعجاب. وكانت إحدى هذه المهام الناجحة تنفيذ التعليمات المعقّدة التالية: «انقل الفولكسفاغن إلى العلم الألماني»، والتي نجح الروبوت بتنفيذها من خلال العثور على نموذج لحافلة «فولكسفاغن» وتمزيقه ومن ثمّ تثبيته على علم ألماني مصغّر على بعد أمتارٍ قليلة.

وأثبت الروبوت أيضاً قدرةً على اتباع تعليمات بلغات غير الإنجليزية، وحتّى إيجاد علاقات نظرية بين مبادئ ذات صلة. وعندما أردتُ من «RT-2» التقاط كرة، قلتُ له «التقط ليونيل ميسّي»، فنجح في أداء المهمّة من المحاولة الأولى.

ومع ذلك، لم يكن الروبوت مثالياً، حيث إنّه أخطأ في تحديد نكهة عبوة مشروب غازي موضوعة على الطاولة أمامه. (كانت العبوة منكّهة بالليمون، ولكنّ الروبوت اقترح البرتقال). وفي مرّة أخرى، عندما سُئل عن أنواع الفاكهة الموضوعة على الطاولة، أجاب الروبوت «أبيض» (كانت موزة). برّر متحدثٌ باسم «غوغل» الخطأ بأنّ الروبوت استخدم إجابة عن سؤال اختباري سابق لأنّ اتصاله بالواي-فاي انقطع لبعض الوقت.

لا تخطّط «غوغل» في الوقت الحالي لبيع «RT-2» أو توفيره على نطاق أوسع، ولكنّ باحثيها يعتقدون أنّ هذه الآلات الجديدة المجهّزة بنماذج لغوية ستتمتّع في النهاية بفعالية عالية في أداء مهام تتعدّى الحيل المسليّة. قد تستطيع هذه الروبوتات مثلاً العمل في المخازن، وفي المجال الطبي، أو حتّى في مجال المساعدة المنزلية - لطيّ الملابس المغسولة، وتفريغ آلة غسل الصحون، أو توضيب المنزل.

وختم فانوكيه بالقول: «يفتح هذا التطوّر المجال لاستخدام الروبوتات في البيئات التي يوجد فيها البشر، كالمكتب، والمنزل، وفي جميع الأماكن التي قد تتطلّب مهام جسدية».

* خدمة «نيويورك تايمز»



قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند

قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند
TT

قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند

قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند

على مدى أكثر من ألف عام، لم تؤثر التضاريس الجليدية الشاسعة في غرينلاند على استراتيجيات البقاء لسكانها فحسب، بل انعكست على حمضهم النووي أيضاً. وقد كشفت دراسة جديدة كيف نحتت قرون من العزلة ملفاً وراثياً مميزاً لسكان غرينلاند، ما يوفر رؤى حول التكيف البشري ودروساً للرعاية الصحية العادلة.

وقد قاد فريق دولي من العلماء هذه الدراسة، التي نُشرت في مجلة «Nature» في 12 فبراير(شباط) 2025، حيث قاموا بتحليل جينومات 5996 بالغاً من سكان غرينلاند، أي ما يقرب من 14 بالمائة من السكان البالغين. وأكدت البيانات أن أسلاف الإنويت (Inuit) وصلوا إلى غرينلاند في موجة هجرة واحدة من سيبيريا عبر أميركا الشمالية منذ نحو ألف عام، حيث بلغ عدد المجموعة المؤسسة أقل من 300 فرد.

والإنويت هي مجموعة من الشعوب الأصلية المتشابهة ثقافياً وتاريخياً التي تسكن تقليدياً المناطق القطبية الشمالية وشبه القطبية الشمالية في أميركا الشمالية، بما في ذلك غرينلاند. وظل سكان غرينلاند معزولين إلى حد كبير، ما خلق «عنق زجاجة» وراثياً، أدى إلى تضخيم المتغيرات النادرة والجينات المتنحية.

التكيفات القطبية والمخاطر الوراثية

وكان أحد أبرز الاكتشافات في الدراسة هو انتشار التكيفات الجينية الخاصة بالقطب الشمالي، مثل المتغير في جين «CPT1A» الذي ينظم استقلاب الأحماض الدهنية. وقد ساعد هذا التكيف أسلاف الإنويت على البقاء في بيئة فقيرة الموارد من خلال اتباع الأنظمة الغذائية الغنية بالثدييات البحرية.

لكن العزل الجيني لم يكن دائماً ميزة، فقد أدى أيضاً إلى زيادة تواتر الطفرات المتنحية الضارة، مثل الطفرة المسؤولة عن الركود الصفراوي المألوف في غرينلاند (Cholestasis Familiaris Groenlandica – CFG)، وهو اضطراب كبدي شديد. وينتشر هذا الاضطراب بشكل خاص في شرق غرينلاند حيث أدى العزل الجغرافي إلى الحد من التنوع الجيني. ونتيجة لذلك، يتم الآن فحص الحوامل في غرينلاند بشكل روتيني لهذا المتغير، ما يسهم في تحسين الرعاية الصحية.

والركود الصفراوي هو انخفاض أو توقف تدفق الصفراء، الذي عادة ما يحدث أثناء الحمل، ولكن يمكن أن يحدث أيضاً للذكور والإناث غير الحوامل بسبب ضعف إفراز الصفراء من خلايا الكبد أو انسداد يمنع تدفق الصفراء، أو مزيج من الاثنين. كما يمكن أن يتسبب الركود الصفراوي في ظهور الجلد وبياض العينين باللون الأصفر. وقد يسبب أيضاً حكة في الجلد والتعب والغثيان وبراز كريه الرائحة. حيث يمكن أن تؤثر هذه الحالة على الأشخاص من جميع الأعمار.

ويسلط المشهد الوراثي الفريد لسكان غرينلاند الضوء على التحديات الأوسع في علم الوراثة، حيث تظل المجتمعات الأصلية والسكان الصغار ممثلين بشكل ضئيل في قواعد البيانات الجينية التي تهيمن عليها بيانات الأوروبيين. وقد تؤدي هذه الفجوة إلى تفاوتات صحية، إذ التشخيصات والعلاجات المصممة لمجموعة معينة قد لا تكون مناسبة لمجموعات أخرى.

ووفقاً لعالم المعلومات الحيوية في جامعة كوبنهاغن، أندرس ألبريشتسن، فإن سكان غرينلاند لا يمتلكون عدداً أكبر من الطفرات الوراثية مقارنة بالأوروبيين، لكن عزلتهم زادت من انتشار بعض السمات المتنحية، مثل الاضطرابات الأيضية والحالات العصبية.

الهجرة والتحولات الجينية

وقد شهد منتصف القرن العشرين تحولاً جذرياً في غرينلاند مع تزايد التحضر وانتقال السكان إلى العاصمة نوك. وتشير الدراسة إلى أن هذه الهجرة الداخلية يمكن أن تخفف من انتشار الأمراض الوراثية المتنحية عن طريق تعزيز تدفق الجينات.

لكن هذه التغيرات تطرح تساؤلات مهمة؛ هل سيؤدي التحضر والتغيير في النظام الغذائي إلى اختفاء التكيفات الجينية التي ساعدت السكان على البقاء في القطب الشمالي؟ وكيف يمكن لأنظمة الرعاية الصحية أن توازن بين فوائد التنوع الوراثي والحفاظ على المعرفة البيولوجية الفريدة؟

يؤكد أندرس كوخ، طبيب أول في مستشفى كوين إنغريد في الدنمارك، أن دراسة الجينوم لدى السكان الصغار يمكن أن يكون لها تأثير كبير على صحتهم. وعلى سبيل المثال، بينما لا يكون من المنطقي فحص الركود الصفراوي في الدنمارك، فإن ذلك ضروري في غرينلاند.

وتشير الدراسة أيضاً إلى أن انتقال مزيد من سكان غرينلاند من القرى الصغيرة إلى المناطق الحضرية قد يقلل من انتشار الأمراض المتنحية، مثل الركود الصفراوي المألوف. لكن هذه التحولات قد تعني أيضاً فقدان بعض التكيفات الجينية الفريدة التي ساعدت السكان على البقاء لقرون.

إن دراسة السكان المعزولين مثل سكان غرينلاند لا تعطي لمحة فقط عن التاريخ الوراثي البشري، بل توفر معلومات قيّمة أيضاً يمكن أن تحسن الرعاية الصحية العالمية. ومع استمرار العالم في التغير، تبقى مسألة التكيف الوراثي والموازنة بين الحفاظ على الهوية الجينية والتنوع البيولوجي أمراً بالغ الأهمية لمستقبل الصحة العامة.