كانت ساحة قصر الأنفاليد وهو المبنى الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن السابع عشر، زمن حكم الملك لويس الرابع عشر، الذي أطلق عليه لقب «الملك ــ الشمس»، تغص بكبار مسؤولي الدولة الفرنسية من وزراء ونواب، حاليين وسابقين، وسلطات روحية ودبلوماسيين وعشرات من المواطنين الذين التأموا في هذا المكان التاريخي، بمناسبة مراسم تكريم الضحايا اليهود الفرنسيين الـ42 الذين قُتلوا في العملية العسكرية التي قامت بها «حماس» وتنظيمات أخرى في غلاف غزة صبيحة 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
كان من بين الحضور أربعة من نواب حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد رغم رفض عائلات الضحايا وجودهم في الاحتفال بالنظر للمواقف السياسية الداعمة للفلسطينيين التي ينتهجها الحزب المذكور الذي بشكل عام يغرّد خارج سرب الداعمين بلا تحفظ لما تقوم به إسرائيل في غزة.
وتحت شعار «مراسم تكريم ضحايا الهجمات الإرهابية في إسرائيل»، نظمت الرئاسة الفرنسية احتفالاً تخللته مقطوعات موسيقية؛ منها مقطوعة رافيل المسماة «كاديش» وأخرى لشوبان «المسيرة الجنائزية»، إضافة إلى النشيد الوطني الفرنسي، وذلك بالتزامن مع دخول حاملي صور الضحايا من عناصر الحرس الجمهوري. وكانت باريس قد استقدمت من إسرائيل عائلات الضحايا بطائرة خاصة. وجرى الاحتفال وسط تدابير أمنية استثنائية وقطع الطرق المفضية إلى قصر الأنفاليد وحوله.
وفي كلمة ألقاها، ندّد الرئيس إيمانويل ماكرون بما سماها «أكبر مذبحة معادية للسامية في قرننا»، مشيراً إلى أن «لا شيء يمكن أن يبرر هذا الإرهاب أو يغفر له»، واصفاً إياه بـ«الهمجية التي تتغذى من معاداة السامية». وفي كلمته، ربط ماكرون بين ما حصل في غلاف غزة وبين ما جرى في باريس في عام 2015، عندما هاجمت مجموعة إرهابية تابعة لـ«داعش» ملهى «باتاكلان» في قلب العاصمة الفرنسية. وأكثر من مرة، شدّد الرئيس الفرنسي على أن بلاده لن تتراجع أو تتراخى أبداً في محاربة معاداة السامية «بكل أشكالها»، مؤكداً أن باريس ما زالت تعمل يوماً بعد يوم على استعادة 3 رهائن تعتقد أنهم ما زالوا محتجزين في غزة. وقد تركت في الاحتفال 3 مقاعد شاغرة للتذكير بهؤلاء. وكانت «حماس» قد أطلقت أربعة فرنسيين في عملية المقايضة السابقة بينها وبين إسرائيل.
في الأيام الأخيرة، علت أصوات تتساءل عن سبب تغييب الضحايا من الفرنسيين ــ الفلسطينيين الذين سقطوا في عمليات القصف الإسرائيلي المتواصلة منذ أكثر من 4 أشهر. وحتى اليوم، لا أعداد متوافرة حول هؤلاء ولا يوجد حديث فرنسي بشأنهم. وقالت مصادر الإليزيه، لدى تقديمها الحدث، إن فرنسا عازمة على تكريمهم «في وقت آخر» رغبة منها في «عدم الخلط بين نوعين من الضحايا»، مؤكدة أنه «من الواضح أننا ندين بالعاطفة والكرامة نفسها لضحايا القصف على غزة من الفرنسيين». وما جرى الأربعاء كان «تكريماً وطنياً» وما تخطط له باريس هو «وقفة تذكارية» لضحايا القصف الإسرائيلي، ما يعني وجود فارق في الرؤية بين الحدثين.
قليلة اللفتات الرئاسية التي سمعت في قصر الأنفاليد إزاء الضحايا الفلسطينية إن كانت مزدوجة الجنسية أو غير مزدوجة، التي تخطت الـ27 ألف ضحية. ولعل أبرز لفتة جاءت عند إعلان ماكرون أن «جميع الأرواح متساوية، ولا تقدر بثمن في نظر فرنسا». وسبق له أن استخدم هذه العبارة على الأقل مرتين في السابق وما ينقصها أنها تحتاج إلى ترجمة. وفي السياق عينه، قال ماكرون إن فرنسا «ستحافظ على وحدتها لنفسها ولكن أيضاً للآخرين... وفي هذه اللحظات التي يغمرها الألم من أجل الإسرائيليين والفلسطينيين والعمل دوماً للاستجابة لتطلعات السلام والأمن للجميع في الشرق الأوسط». وفي باب التنديد بـ«حماس»، رأى ماكرون أن ما قامت به يعد «همجية» قضت على شباب في الكيبوتزات الذين هم «غالباً من ذوي القناعات السلمية والقادرين على الاستماع لمظالم وآلام الفلسطينيين التي داس عليها الإرهابيون وهم يدعون الدفاع عنها».
أكثر من مرة، أشار الرئيس ماكرون إلى ضرورة المحافظة على وحدة الفرنسيين، وأكد رفضه «الانقسامات والتوجهات الانفصالية»، وكان بذلك يلمح إلى الجدل الذي اندلع منذ أكتوبر الماضي لجهة النظر إلى ما يحصل في غزة. وبمواجهة الانقسامات، قال ماكرون: «نحن لسنا فقط 68 مليوناً من الفرنسيين اليوم. نحن أكثر من ذلك بكثير. نحن شعب يعشق الحرية والأخوة والكرامة ونحن شعب لن ينسى أبداً هؤلاء الضحايا».
وكان ماكرون قد تعرض للانتقاد بسبب التأخر في إجراء التكريم. ورداً على ذلك، حرصت المصادر الرئاسية على القول إن «فرنسا أول بلد يكرم ضحايا عملية (حماس)». وهي اختارت تاريخ 7 فبراير (شباط) لكونه «يحل بعد 4 أشهر على مجزرة أكتوبر».