يتمسك الكثير من نشطاء السلام اليهود في بلدات غلاف غزة بموقفهم، ويؤكدون أن الحرب على غزة يجب أن تتوقف، ويطالبون الحكومة الإسرائيلية بفتح آفاق السلام، فليس هناك من حل عسكري للصراع، ولا بد من إطلاق مسيرة سلام، على الرغم من الهجوم الذي تعرضوا له من «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، والتشفي بهم في أوساط اليمين المتطرف في إسرائيل الذي يصل إلى حد دعوتهم للمغادرة والعيش في نابلس.
وتقول نيتع هايمن مينه، وهي ناشطة في حركة «نساء يصنعن السلام»، ومن مواليد كيبوتس نير عوز، الذي تحتجز «حماس» 79 شخصاً من أفراده كلهم مدنيون وغالبيتهم مسنون، إنها منذ خطف والدتها تتنقل من جنازة إلى أخرى، وتقول: «في كل يوم عليّ أن أختار إلى أي من الجنازات أذهب»، وتؤكد: «أذهب، أولاً، إلى جنازات أفراد عائلات من مجموعتي العمرية. وفي ما تبقى من الوقت، أناضل من أجل إعادة المختَطَفين الكثر. نحن متقدمون على الدولة بـ10 خطوات في كل شيء. حتى إلى (الصليب الأحمر) وصلنا قبل أن يستوعبوا هم أنّ شيئاً ما يحدث هنا».
هايمن نفسها، الناشطة في المنظمة منذ سنة 2017، تقول: «(نساء يصنعن السلام) حركة تتحدث عن اتفاق سياسي، ولا تطالب تحديداً بحل دولتين لشعبين. في الحركة أيضاً نساء يُقِمن في مستوطنات. نحن حركة تعتقد أن السلام ليس كلمة نابية، كلمة سلام مشتركة للجميع، وليس لليسار فقط».
تضيف: «الفلسطينيون من غزة كانوا يعملون لدينا ويتجولون بيننا. لم يشعر أحد بأي تخوف منهم. معظم أعضاء الكيبوتس (بلدة تعاونية) من دعاة السلام. كانت هنالك مجموعة كبيرة من النشطاء الذين كانوا شركاء في نضال (سلام الآن). كان الجو العام أن جميع أبناء البشر متساوون، وجميعهم يستحقون العيش بهدوء. في الطفولة لم نشعر بأننا نعيش على الحدود. وقبل الانتفاضة الأولى، كان الناس من المنطقة هنا يسافرون إلى غزة للتسوق».
لو استمعوا لنا!
ترفض هايمن التعبير عن ندمها على مواقفها السابقة، وتقول: «أشعر بأن أولئك الذين لم يفكروا مثلنا هم الذين أخطأوا وأوصلونا إلى هذه الحال. أخطأ من اعتقد أن الفلسطينيين لا يستحقون الحياة الكريمة، وأنه يمكننا مواصلة السيطرة على شعب آخر كل هذه السنوات دون أن يرتد هذا إلى نحورنا. كثيرون أخطأوا. نحن لم نخطئ. لو أصغوا لـ(نساء يصنعن السلام) وصرختهن منذ عملية الجرف الصامد (2014)، وأنه قد حان الوقت لوضع حد نهائي لهذه المعاناة، لما وصلنا إلى هذا الوضع الذي تجلس فيه والدتي الآن لدى وحوش».
وتشدد هايمن على أن الأحداث القاسية عززت مواقفها بشأن الحاجة إلى عملية سلمية: «ليس مهماً كم مرة سنحاول القضاء على (حماس) ومحوها، المؤكد أن الجولة التالية ستكون أسوأ. ها قد تلقينا الضربة الآن بقوة. الإيمان بأن الحل ينبغي أن يكون سياسياً وأنّ هذا ممكن، على غرار نزاعات مريرة وقاسية أخرى قد حُلَّت، إيمان لم يتزعزع، بل تعزز أكثر؛ لأنني أصبتُ بصورة شخصية هذه المرة».
وتقول إن آراءها بخصوص «حماس» لم تتغير: «الشعب الفلسطيني نفسه يعاني كثيراً من سلطة (حماس)، لكن ما العمل، (حماس) هي عدوّنا في هذه اللحظة، والسلام يُصنَع مع الأعداء، بغضّ النظر عن مدى وحشيتهم. من الواضح أن الغضب الأول ينصب عليهم. لكنّ هذا لا يقلل من الغضب على الذين لم يحموا أناساً، مثل والدتي، التي كانت بين من أسسوا الدولة».
نشطاء سلام ضحايا
المعروف أن كيبوتس نير عوز، وغيره من البلدات المحيطة بقطاع غزة، يضم نسبة عالية من نشطاء السلام. ويوجد بين القتلى والمخطوفين في 7 أكتوبر، فيفيان سيلفر، من كيبوتس بئيري، عضو إدارة «بتسيلم»، وهو المركز الذي يتابع حقوق الإنسان الفلسطيني في المناطق المحتلة، ومن مؤسسي منظمة «نساء يصنعن السلام»، ود. حاييم كتسمان، الباحث في الدين والسياسة في الشرق الأوسط، الذي قُتل وله شقيقة عضو في إدارة منظمة «نقف معاً» للشراكة اليهودية العربية؛ ونيلي مرجليت المُختَطَفة، ابنة عمّة دافيد زونشاين رئيس إدارة «بتسيلم» السابق، ووالدها تشرشل مرجليت، الذي قُتل، ثم عمّة ميكي كرتسمان، رئيس إدارة «جنود يكسرون الصمت»، التي تكشف ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين، وأوفيليا رويطمان، المحسوبة في عداد المفقودين؛ ووالدا وعمّ يوتام كيبنيس، عضو إدارة «ززيم»، حركة مدنية من اليهود والعرب المناضلين معاً ضد الاحتلال والعنصرية، قُتلوا هم أيضاً.
وخلال الأسابيع التي مرت عليهم منذ يوم السبت الأسود، اضطُر كثيرون، التعامل ليس مع الفقدان والحزن والقلق فحسب، وإنما مع ردود الفعل البغيضة في شبكات التواصل الاجتماعي وفي الشارع، من عناصر اليمين المتطرف الذين يتهمونهم وأحباءهم بأنّ موقفهم هو المسؤول عن هذه الكارثة. ففي المنشورات التي نُشرت على «فيسبوك»، وذُكر فيها اختطاف فيفيان سيلفر، مثلاً، وردت تعقيبات مثل: «لم تُخْتَطف، كل ما في الأمر أنها في رحلة لدى أصدقاء»، أو «يفضل أن تبقى هناك مع أصدقائها من الأعداء اللدودين، محبي السلام».
نيطع هايمن نفسها، تلقت ردوداً مثل: «تباً لك أيتها النتنة، بسبب أشخاص مثلك توجد معاداة للساميّة. هي (والدتها) هناك بسببك. اذهبي. هاجري من البلاد، وانتقلي إلى فلسطين».
وقد هاجم الجميع أحد نشطاء اليمين البارزين الذي كتب لإحدى الناشطات التي خطفت ابنتها: «أتمنى أن ينفذوا فيها اغتصاباً جماعياً، وتحمل وتلد لك ولداً من أب غزاوي».
استهداف أهالي الضحايا
وفي تظاهرات عائلات الأسرى التي تطالب حكومة بنيامين نتنياهو بإبرام صفقة مع «حماس»، فوراً، حتى لو كان الثمن إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين من السجون، يوجه نشطاء اليمين المتطرف الشتائم والتهديد باعتداءات جسدية.
ووفق تقرير لصحيفة «هآرتس» أعدته الكاتبة، شاني ليطمان، أكد معظم هؤلاء تمسكهم بطريقهم. وقال معوز ينون، الذي قُتل والداه المسنان في هجوم «حماس»، إنه يفهم الغضب الإسرائيلي على ما فعلته «حماس»، ويفهم حتى الرغبة في الانتقام التي تميز الحرب على غزة اليوم، لكنه يضيف: «أرى أيضاً إلى أين أوصلنا هذا الانتقام خلال المائة سنة الأخيرة. يجب أن نعيد المخطوفين، وأن ندفن الموتى، وأن نبكي، ثم أن نغيّر كل فرضيّاتنا الأساس».
ويضيف: «المصيبة الشخصية التي حلّت بي لم تغير موقفي، بل العكس هو الصحيح. أرى دولتنا، بعد سنوات من تحذيرنا بأننا على حافة هاوية، ها هي الكارثة الكبرى التي تنزل على الشعب اليهودي منذ الهولوكوست، في ظل حكم يمين خالص سيقودنا إلى الهلاك. أجندتي اليوم هي وقف الحرب، أولاً». ويشدد بقوله: «ممنوع الدخول إلى غزة. ممنوع فتح جبهة في لبنان. مُلزمون بإعادة المخطوفين، دفن موتانا والبكاء. أعيننا غارقة في الدم الآن، ونحن مُساقون للذبح. الذبح الذي تعرض له والداي وغيرهما، سيكون لا شيء مقارنة بالذبح الذي يمكن أن يحدث هنا. ينبغي لنا تغيير كل مصطلحاتنا وفرضيات الأساس التي تقول، إن أمن دولة إسرائيل يقوم على القوة العسكرية».
في الرثاء الذي ألقاه يوتام كيبنيس، عضو إدارة «زَزيم - حراك شعبي»، في مراسم تشييع جثمان والده، أفيتار كيبنيس، الذي قتله عناصر من «حماس»: «والدي التزم بالسلام. لن نصمت حينما تدوّي المدافع، ولن ننسى أن والدي كان يحب السلام. سنقدّس الحياة وليس الموت، لأن ثمة خيراً في العالم يستحق النضال من أجله، وليس من أجل الانتقام. والدي لم ينسَ أن في غزة أيضاً أشخاصاً أبرياء عالقين بين مطرقة الحكومة الإسرائيلية وسندان ديكتاتورية (حماس). (حماس) هي العدوّ وليس الفلسطينيين. (حماس)، التي دعمتها وقوتها عن وعي كامل، هذه الحكومة التي تؤمن بالحرب العِرقية. نحن أيضاً لن ننسى أن الحرب لن تنتهي فعلياً إلا بإحلال السلام».