على الرغم من أن القانون الفرنسي ينص على فتح الأرشيف بعد فترة لا تتجاوز الثلاثين عاماً، فإن البحث في الأرشيف الوطني الفرنسي عما دار في المراسلات الدبلوماسية العسكرية بين سفراء في العواصم المعنية وبين الإدارة المركزية في باريس خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 لم يكن بالأمر السهل.
فمن جهة، ينقسم الأرشيف قسمين: دبلوماسي وعسكري، وصعوبة الجزء الأول أن الفترة التاريخية المعنية (أكتوبر/تشرين الأول 1973) ليست مؤرشفة إلكترونياً، وبالتالي يتعين البحث في آلاف الوثائق عن المعلومة التي تلقي ضوءاً جديداً على الحرب، غير أن المفاجأة التي تنتظر الباحث أنه حتى في إطار الأرشيف المفتوح ثمة جزء منه «غير متاح للمراجعة»؛ وهو ما يرجعه مسؤولون إلى «حساسية» بعض الوثائق التي لا يفرج عنها قبل مرور سبعين عاماً وربما أكثر من ذلك، واختصار المدة مرهون بالموافقة على طلب رسمي مُعلل قد يٌقبَل أو يُرفَض.
ووفق ما تبين لـ«الشرق الأوسط»، فإن كل ما يتناول الجوانب العسكرية والدفاعية «الحساسة»، مثل المبيعات العسكرية الفرنسية، وتقييمات المخابرات أو ما يمس شخصيات ما زالت حية ومتحفظاً عليها، فضلاً عن أن الأرشيف الخاص بوزارة الدفاع والجيش يرتع في قلعة «فانسان» الواقعة على مدخل العاصمة الشرقي، والوصول إليه يتطلب إذناً خاصاً من وزارة الدفاع، ورغم تقديم طلب بهذا المعنى، فإن الموافقة لم تأت.
ورغم الصعوبات، فإن «الشرق الأوسط» تمكنت من الوصول إلى مئات الوثائق التي تكشف جانباً مهماً من السياسة والمواقف الفرنسية والتي تُلقي ضوءاً كاشفاً على اهتمامات باريس.
كان جورج بومبيدو رئيساً للجمهورية الفرنسية، وبيار ميسمير رئيساً للحكومة، وميشال جوبير وزيراً للخارجية، عندما اندلعت المعارك، ومنذ 19 يونيو (حزيران) 1973، قرع جوبير نواقيس الخطر مُحذراً من حرب قادمة في كلمة له مدوية أمام النواب، حيث نبّه من «توافر الشروط كافة التي ستفضي إلى مأساة كبرى إذا ما استمر الوضع (في الشرق الأوسط) على حاله».
ويُظهر الأرشيف الفرنسي المتاح كماً هائلاً من المعلومات والتحليلات والتواصل مع عواصم العالم، وعلى رأسها واشنطن وموسكو، والمواكبة اليومية لتطورات الحرب منذ اندلاعها في السادس من أكتوبر 1973 وحتى توقف إطلاق النار وما بعده.
يتحدث تقرير سري بتاريخ 20 أكتوبر عن «وصول مجموعة من الضباط والجنود الجزائريين إلى جنوب لبنان من سوريا للقيام بعمليات عسكرية إلى جانب الفلسطينيين لإشغال القوات الإسرائيلية ولتخفيف الضغط عن الجبهة السورية».
لكن اللافت أيضاً «مضمون تقرير وصل إلى الخارجية الفرنسية، ومن مصادر لم تكشف هويتها عن اقتراح قدمه الزعيم الكردي مسعود بارزاني إلى الرئيس العراقي آنذاك (أحمد حسن البكر) بإرسال 2000 مقاتل كردي إلى الجبهة السورية». بيد أن هذا الاقتراح بقي حبراً على ورق ولم يتم الأخذ به.
تقييم النتائج
يسلط تقرير سري صادر عن الأمانة العامة لوزارة الدفاع الفرنسية، في 23 أكتوبر مع بدء انتهاء الأعمال القتالية، الضوء على «الخلاصات» الأولى التي يمكن رصدها من الحرب، وأولاها أن العرب (مصر وسوريا) هما «من اتخذتا المبادرة وتغلبتا على عقدة النقص ونجحتا في السنوات التي سبقت من التحضير لعمليات منسقة، وحافظتا على مسار انطلاق العمليات العسكرية. أما بالنسبة إلى إسرائيل، فإن التحليل أشار إلى أربع نقاط، أولها أن القوات العسكرية الموجودة على الخطوط الأولى في الجبهتين استطاعت، إلى حد ما، امتصاص الضربة الأولى. كما نجحت إسرائيل في تعبئة قوات الاحتياط المدربة تدريباً جيداً خلال ثلاثة أيام، وعملت بقوة من أجل استعادة المبادرة كما أفلحت في نقل ثقل قواتها سريعاً من جبهة الجولان إلى سيناء».
ويشير التقرير إلى أنه «لم يكن بوسع أي من الطرفين أن يقوم بعمليات واسعة النطاق إلا في فترة زمنية محدودة «بسبب الاستهلاك السريع للأسلحة الحديثة» وصعوبة استبداله في وقت قياسي، فضلاً عن النقص في العسكريين ذوي المؤهلات العالية كالطيارين وقادة الدبابات... والخلاصة اللاحقة تفيد بأن أياً من الطرفين ما كان مؤهلاً لهذه الحرب من غير مشاركة الدولتين الكبريين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) وأن وقف الحرب كان أيضاً بين أيديهما»، وفق التقييم الفرنسي.
واختم التقييم بأن «الخاسرين طرفان: الفلسطينيون لأنهم سيدفعون ثمن الترتيبات اللاحقة، والأوروبيون الذين أبقوا على الهامش وعانوا من الصدمة البترولية الأولى».
مخاوف باريسية
في برقية تحمل الرقم 1664/1668موجهة من السفير الفرنسي في القاهرة إلى الإدارة المركزية بتاريخ 24 أكتوبر، عقب التصويت على القرار 338 في مجلس الأمن الدولي الذي وضع حداً للحرب الذي تم التفاهم حوله بين واشنطن وموسكو، عبّر الأخير عن القلق من أن «يعمد والروس والأميركيون، باستناد كل جانب إلى (زبائنه)، إلى تحويل الشرق الأوسط منطقة مطلقة لتقاسم النفوذ بينهما» واستبعاد أوروبا.
وجاء في البرقية، أن مصر، عندما أطلقت الأعمال القتالية، «كانت تعي أنها غير قادرة بقواتها العسكرية وحدها على تحرير أراضيها، وأنها كانت تسعى إلى دفع الدولتين إلى الاهتمام بالشرق الأوسط بعد الخيبة التي أصابتها من غياب الاهتمام بنزاع عمره 25 عاماً إبان القمة التي عُقدت (بين نيكسون وبريجنيف) في شهر أبريل (نيسان)».
وتضيف البرقية، أن «دعوة الدول الكبرى للحلول محل الأطراف المعنية يعني التخلي طوعاً عن الاستقلال الحقيقي». وخلاصة البرقية، أن ما حصل قد تم على حساب الأوروبيين «حيث لم يتم التشاور معنا في موضوع وقف إطلاق النار؛ ولذا علينا أن نقوم بكل ما هو ممكن حتى نكون جزءاً من مفاوضات (السلام) من خلال التأكيد على أن شيئاً يمكن أن يتم خارج الأمم المتحدة ومن غير تدخل مجلس الأمن».
هذا التخوف من التهميش يُعدّ إحدى علامات الديبلوماسية الفرنسية، حيث إن باريس سعت دوماً ليكون لها دور في منطقة تعدّ جوارها القريب. ففي تقرير بتاريخ 9 أكتوبر عن الاجتماع الذي ضم في باريس الرئيسين الفرنسي بومبيدو والإيطالي ألدو مورو، جاء أن الأول عبّر عن شيء من الخيبة في أن تكون الأمور محصورة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي من غير أن ينسى إسرائيل التي قال عنها: إنها «لا تتراجع حتى في حال ممارسة الضغوط عليها». وليس سراً أن علاقة الرئيس الفرنسي بإسرائيل كانت بالغة السوء؛ كون أن بومبيدو واصل سياسة الجنرال ديغول الذي فرض حظراً صارماً على مبيعات الأسلحة لإسرائيل بعد مهاجمتها مطار بيروت الدولي في عام 1968.
ما سبق غيض من فيض، والإحاطة بكل ما يتضمنه الأرشيف الفرنسي من معلومات وتحليلات تتناول الجوانب السياسية والديبلوماسية والعسكرية يحتاج إلى مؤلفات. لكن، رغم ذلك، وفي ما خص فرنسا تحديداً، ثمة كثير من النقاط ما زالت طي الكتمان وهي محفوظة، حتى اليوم، بعيداً عن أعين الصحافة والباحثين. بيد أن الاطلاع على الأرشيف بالغ الإفادة؛ لأنه يبين ما يحصل في اجتماعات الغرف المغلقة، حيث تقال الأمور بصراحة متناهية بعيداً عن التصريحات العلنية التي تخفي أكثر مما تكشف.