قائد «ثورة الفلاحين» طانيوس شاهين يعود إلى الحياة متمرداً

حسّان الزين قدّم بطله بلغة مشهدية

قائد «ثورة الفلاحين» طانيوس شاهين يعود إلى الحياة متمرداً
TT

قائد «ثورة الفلاحين» طانيوس شاهين يعود إلى الحياة متمرداً

قائد «ثورة الفلاحين» طانيوس شاهين يعود إلى الحياة متمرداً

بقدر ما يحاول الكاتب حسّان الزين أن يقنعك بأنك تقرأ رواية، وهو يبعث الحياة عفيّة في شخصية طانيوس شاهين، الثائر اللبناني الذي حمل لواء تحرير الفلاحين من ظلم الإقطاع وجور الحُكّام في القرن التاسع عشر، يصرّ على ان يبقيك متيقظاً؛ لأن ما تقرأه هو صفحات من التاريخ، سواء من خلال المقدمة التي كتبها خالد زيادة، أو توثيق بعض الأحداث، وتوضيح الوقائع والمسارات في نهاية الكتاب.

لعبة فنية متقنة، تجعل كتاب «طانيوس شاهين... ماذا فعلت لأستحق هذا؟» الصادر عن دار «رياض الريس» في بيروت، رواية تاريخية بحقٍّ تحترم الجانب التوثيقي، والخط الزمني للأحداث، لكن كاتبها يمنح نفسه حرية التخييل ورسم التفاصيل إلى أقصاها، مستفيداً من المراجع والرسائل التي عكست روح طانيوس شاهين، والملامح العامة لشخصيته الغضوب التوَّاقة إلى التحرر والتمرد. بالتالي فالكتاب يقدّم أكثر من مجرد تغليف أدبي للتاريخ، فهو يذهب إلى استبطان شخصية طانيوس، ومحاولة إعادة تركيب بنيته النفسية، ودوافعه الاجتماعية، ومكامنه المخبوءة، وتلك هي المهمة الصعبة.

من العدالة إلى الطائفية

تمكَّن الكاتب من تقمص شخصية إشكالية، لها رمزية كبرى في التاريخ اللبناني، ثمة من يمجدها، ومن يبقيها في حدود ضيقة، وهناك من يرى فيها عنفاً واستبداداً. لكن أهمية طانيوس أنه يختزل سيكولوجيا الشخصية اللبنانية، إن صح القول. كما أن الظروف التي واجهها والتي عاشها جبل لبنان في تلك الفترة، فيها ما يشبه إلى حدٍّ كبير الواقع الحالي، بأزماته وتعقيداته، وصعوبة فك خيوطه المتشابكة، وارتهان الطوائف كلٍّ لجهة دولية تؤمِّن لها الإحساس بالحماية والاستقواء.

طانيوس شاهين، ماروني من جبل لبنان، وتحديداً كسروان، عمل مكارياً، وبائعاً متنقلاً، وحدّاداً. قاد «ثورة الفلاحين» بين عامي 1859 و1861 غاضباً على الإقطاع والظلم. بدأت حركته اجتماعية خالصة من أجل العدالة والحرية، لكنها وبسبب التدخلات الخارجية والعصبيات المحلية، سرعان ما انقلبت طائفيةً صرفةً. استطاع أن يقيم كياناً سياسياً، وهزم جزءاً من الإقطاع، لكنه، وكما يقول في نهاية الرواية، «ما ترك لنفسه صاحباً»، وتخلى عنه الجميع باستثناء رجاله الذين أحبوه ولم يتمكنوا من نصرته.

اعترافات طانيوس

اختار الكاتب أن يُنهي مؤلفه بنصٍّ معبِّر أشبه باعتراف يناجي فيه طانيوس نفسه، متأملاً في سبب هزيمته النكراء بعد فوز ملأ قلبه بالرضا والغرور. يقول: «رغم أنني لا أشك في أن رفضي للظلم وحميّتي تجاه الأهالي المنداقين المعتّرين، هما ما دفعاني إلى العصيان والتيسنة، فإنه لا يمكنني أن أنكر أن في الأمر طمعاً شخصياً». هذا إضافةً إلى غواية السلطة وصعوبة التخلي عنها؛ «لقد عزّ عليّ أن أصير ضعيفاً، ما بيطلع بإيدي شي، بعدما تمشيخت وكنت أضرب بسيفي وآمر. قلقت على المكانة التي حققتها، وتمسكت بها بأسناني وأظافري».

واحدة من غوايات الرواية هي لغتها، التي اختار حسّان الزين أن يُطعِّمها بسخاء بعامية منطقة كسروان، في محاولةٍ لجعل الكلام أقرب ما يكون إلى ما تحدَّث به طانيوس في زمانه، مع شروحات في الهوامش لغير اللبنانيين الذين يصعب عليهم فهم عامية مُغرقة في محلِّيتها. وجاءت الأمثال الشعبية التي تدور على ألسن الشخصيات، لتُشعرنا بحيوية الحوارات وواقعيتها. وما يمنح الكتاب نبضه هو حرص المؤلّف على تصوير المشاهد كأنه يُعدّ لفيلم سينمائي، حتى يمكنك القول إن الكتاب جاهز ليصبح مصوَّراً. وقد يكون هذا مما دخل في حسابات الكاتب، وهو مُحقٌّ فيما رمى إليه، إذ إن طانيوس بما له من مكانة في السرديات اللبنانية، وما تحمله سيرته من شَبهٍ مع الحاضر، تكاد تتحول إلى مرآة يمكن فيها للمواطن أن يرى صورته ومجتمعه، وعلاقته مع السلطات والزعامات الطائفية، كما الخلافات السياسية الممتزجة بالحقن الطائفي المستمر. شخصية درامية توفرت لها كل الأبعاد اللازمة لتمثل التناقضات في أبرز تجلياتها. طفولة منكوبة بموت الأب قتلاً على يد أحد إقطاعيي المنطقة آنذاك من شيوخ آل الخازن، الذي لم يحتمل أن يلقي عليه فلاح بسيط التحية فاستحقَّ أن يشرب قهوة مسمومة تودي به. مات الأب وبقي طانيوس وإخوته؛ خمسة صبيان وبنت وأمه، يذوقون مرارة اليتم والترمّل.

الحقد محرك الثورة

ستبقى هذه الحادثة محركاً في حياة طانيوس: «لم أكن ناقصاً هذا الحقد. الحقد كان يملأني ونما معي. سكن بدني ولبسته. كان أنا وكنت هو. كان يشتعل في عيني ويوقد غضبي، ينبض في صدري وعروقي وزندي وقبضتي، غيَّرني وكبّرني سنين. ولأعوام طويلة اعتقدت أنه هو ما كبّر بدني وجعلني عتراً (قوياً)».

تريده أمه متعلماً لأنه «أذكى أبناء الضيعة» غير أنه منشغل ومبتهج بتزعّم رفاقه. إذ كيف للفلاحين أن يتجاوزوا طبقتهم دون تعليم، لكنه لا يريد. عمل كوالده مكارياً، وقرر أن يصبح رجلاً، وهكذا كان، لا بل أصبح بطلاً وزعيماً. أحبه الأهالي بقدر ما أبغضه الآخرون الذين أراد أن يكون ندّاً لهم. قرر أن يستغني عن الجميع، لكنه في النهاية انتظر نجدة فرنسا «مين إلنا غير فرنسا؟ مين بقى لنا غيرها؟». لكنها لم تأتِ، مع أن المتداول حينها «أن الملك الفرنساوي سيرسل عماير لنقلنا إلى بلاد بعيدة هي الجزائر». عاش بلا أب، ولم يتمكن من أن ينجب ولداً. بقدر ما نراه قاسياً صنديداً عنيداً، نشعر بعاطفته الفياضة في لحظات الضعف والسكينة. أرادها حركة لتحرير الفقراء من جور الإقطاع، وانتهى حبيس طائفته، مارونياً يلجأ إلى الكنيسة فلا تغيثه، وتصبح ثورته من أسباب اندلاع أسوأ وأشرس حرب طائفية بين الموارنة والدروز شهدها جبل لبنان وامتدت نيرانها إلى سوريا، بل ربما إنها أسَّست لطائفية لا تزال تلتهم أبناءها إلى اليوم.

ما أشبه اليوم بالبارحة

يريد الكاتب أن يُرينا كم يشبه اليوم البارحة رغم مرور 170 سنة. إذ بمقدور كل مواطن لبناني أن يسأل نفسه، كما طانيوس: ماذا فعلت لأستحقَّ هذا؟ فمن استبداد أصحاب النفوذ بمن هم دونهم، إلى النزاعات الطائفية المرتبطة بسلطوية طاغية، وتبدل التحالفات بلمح البصر وتقلّب المصالح وانعكاساتها التي يدفع ثمنها البسطاء، حين يحاولون تغيير قواعد اللعبة... لا تزال المأساة نفسها قائمة. والأهم حضور النفوذ الأجنبي، حيث نرى القوى الكبرى تحرك بأصابعها الأحداث وتُشعل الفتن من فرنسا وبريطانيا إلى روسيا والنمسا، وبالطبع الدولة العثمانية التي بدأت تشيخ وتتسلل الدول الأجنبية بكل قواها؛ خصوصاً حين يُفسح لها المجال.

الحرية وثمنها الباهظ

كتاب يُقرأ بمتعة رغم أن موضوعه مركَّب، ويتحدث عن مرحلة غاية في التعقيد، وتفاصيله الكثيرة تحتاج إلى تركيز. الإحساس بالثقل يتلاشى وأنت تتحسس كم أن طانيوس مهمٌّ استرجاعه كشخصية حرَّكت المياه الراكدة، وَسَعَتْ إلى التغيير، بكل أخطائه وانفعالاته واندفاعاته. تراه يحتجّ على الاستخفاف به وبما يستطيع إنجازه في لحظة خطر يمكنه فيها أن يكون منقذاً ويتزعم جيشاً يوحِّد الموارنة المنقسمين. يقول للبطريرك: «شقفة مأمور بكسروان ما خليتوني أعمل، بدّكن تقبلوا أتزعم جيش الموارنة؟ وليش؟ كرمال ما يزعل الأُمرا والمشايخ والبكوات والأعيان والتجار والسماسرة والمطارين الموارنة. وهودي شو فارقة معن؟ نُصُّن أصحاب الأُمرا والمشايخ الدروز وبيمسحوا جوخ للباشا (العثماني)». أكثر من ذلك، هؤلاء «لا بيقاتلوا ولا بيلموا حجار» وعلى أهبة الاستعداد للهرب بثرواتهم والاختباء، حيث تتسع لهم أماكن كثيرة. وبينما تسيل الدماء ويُذبح الفقراء، ينتظرون المراكب الفرنسية أو العثمانية التي تحملهم حيث يريدون.

قد تكون الحرية هي الفكرة الأكثر إلحاحاً في الكتاب، يسعى إليها طانيوس بكل ما أوتي من عزيمة: «أباهي بأني حرّ، أنفّذ ما في رأسي، وسأبقى حراً حتى آخر يوم في حياتي، وأدفع الآن ثمن ذلك».


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.