مارغريت آتوود: مذكّراتٌ من نوعٍ ما

تستعرض فيها الروابط بين أحداث حياتها الخاصة وعملها الأدبي

مارغريت آتوود: مذكّراتٌ من نوعٍ ما
TT

مارغريت آتوود: مذكّراتٌ من نوعٍ ما

مارغريت آتوود: مذكّراتٌ من نوعٍ ما

أحبُّ مارغريت آتوود. أحبُّ سيرتها الأدبية وأعمالها. هي واحدةٌ ممّن ظلّت رفقتُهم لي - منذ بواكير انشغالي بالكتابة الإبداعية في مطلع ثمانينات القرن الماضي - أمراً طيّباً مكتنزاً بالثراء والمعرفة. دوماً حسبتها واحدةً من أضلاع خمسة أقمتُ عليها هيكلي المعرفي الروائي: دوستويفسكي، فيرجينيا وولف، نيكوس كازانتزاكي، هيرمان هسّه، ومعهم مارغريت آتوود. كنتُ أراها في كلّ العقود التي عرفتها أقرب لشخصية أفلاطونية الخواص في عصرنا هذا، وهذه خصيصة يتشاركها معها العمالقة الأربعة الذين ذكرتهم. هي تستحقُّ أن نصف أدبها - كما يطيبُ لي توصيفه - بِـ«الأدب الآتوودي» (Atwoodian Literature) بكلّ رؤاه المستقبلية الاستشرافية المشوبة بديستوبيا قد تكون غير مستحبّة لدى بعضنا. لكن ما العمل؟ هي ترى ما لا يراه الآخرون. أليس هذا بعضاً من وظيفة الكاتب الحقيقي؟ هي لم تنل جائزة نوبل حتى اليوم؛ لكن لنجرّبْ أن نضع قبالتها أيّاً من حملة نوبل الأدبية في العشرين سنة الماضية، أو ممّن لم ينالوها لكنّهم كُتّابٌ معترفٌ بريادتهم الأدبية وسمعتهم الطاغية. كيف تتخيلون النتيجة؟ هل سيصمد أحدٌ أمام مارغريت آتوود؟ ستطغى آتوود عليه بكلّ المقاييس.

مارغريت آتوود، الكاتبة الكندية، شخصية ريادية في الأدب المعاصر، وهي متعددة الأوجه والإمكانات. على مدى مسيرة مهنية امتدت عقوداً، لم تكتفِ آتوود بكتابة الروايات التي وَسَمَتْ حقبة كاملة؛ بل خاضت غمار الشعر والنقد الأدبي والقصة القصيرة، وحتى التأليف المسرحي والنشاط البيئي والنسوي. إنها قامة أدبية تجاوزت حدود النوع الأدبي المنفرد لتصبح رائية روائية تستشرف المخاطر الأخلاقية والاجتماعية في المستقبل، كما فعلت في روايتها الأيقونية «حكاية الجارية» (The Handmaid›s Tale).

سيكون سؤالاً يمتلك مشروعيته الكاملة لو تساءلنا: متى ستكتب آتوود سيرتها الذاتية أو مذكراتها؟ لِمَ لم تفعلْ حتى اليوم؟ لم تتغافل آتوود عن هذا التساؤل فنشرت مذكراتها يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، وقد سبق للصحافة العالمية أن نوّهت عن هذه المذكرات منذ بداية عام 2025؛ لكن من المفضّل قبل الغوص في مذكراتها الأخيرة أن نشير لعمل آتوود الذي يمكن اعتباره سيرتها الأدبية/الكتابية، وهو كتاب «مفاوضات مع الموتى: تأمّلات كاتبة حول الكتابة» (Negotiating with the Dead: A Writer on Writing). هذا العمل المترجم إلى العربية، الذي نشأ من سلسلة محاضرات ألقتها في جامعة كامبردج، ليس سيرة شخصية بالمعنى المتعارف عليه؛ بل هو تشريح عميق لعملية الكتابة ذاتها ولشخصية الكاتب. في هذا الكتاب، تطرح آتوود أسئلة جوهرية: لماذا يكتب الكاتب؟ وما الذي يجعله كاتباً؟ مستكشفة العلاقة الغامضة بين الكاتب وعمله، وبين العالَم الحي والعالم الموازي للأدب الذي يبقى بعد موت الكاتب، ومن هنا يأتي العنوان «مفاوضات مع الموتى»؛ أي الحوار المستمر بين الكاتب ومن سبقوه ومن سيأتون بعده. يُعدّ هذا الكتاب دليلاً فكرياً لكلّ من أراد فهم خفايا الحِرْفة الأدبية من منظور كاتبة مارست كل فنون الكتابة الأدبية.

كما ذكرتُ أعلاه، نشرت آتوود مذكّراتها التي طال انتظارُها، واختارت لها عنوان «كتاب حَيَوات: مذكرات من نوع ما» (Book of Lives: A Memoir of Sorts). لن يخفى على القارئ أنّها اختارت لمذكراتها هذا العنوان الفرعي الذكي للدلالة على عدم التزامها بالصيغة النمطية للسيرة الذاتية. جاءت هذه المذكرات الضخمة (624 صفحة) لتضيء على حياة شخصية رغبت آتوود دائماً في أن تكون أعمالها هي المثابة الأبرز فيها. أشارت آتوود نفسها إلى حذرها من كتابة المذكرات خشية أن يتوقع القرّاء حكايات عن «الإفراط في شرب الكحول، والحفلات الماجنة، والتجاوزات السلوكية الصارخة، وأن يُفرط الكاتب في معاملة نفسه على أنّه ناتج ثانوي انبثق من كومة سماد سلوكي شائن لا لشيء سوى لإضفاء نمط من الواقعية الصارخة على حياته، والإشارة إلى أنّه لن يحجب شيئاً عن قرّائه من تفاصيل حياته»، مؤكدة في الوقت ذاته أنها «لم تعش هذا النوع من الحياة». أظنُّ أنّ هذه التفصيلة مثّلت هاجساً عظيماً لدى آتوود لأنّ القارئ المواظب على قراءة يعرف أنّ هذا النمط من الإنجاز الأدبي والفكري لن يتأتّى إلا بانضباط وجَلَد وحساسية تكاد تكون مَرَضية تجاه الزمن.

اختارت آتوود لكتابها مقدّمة مع تسعة وثلاثين فصلاً. لم تتقيّد الكاتبة بترتيب كرونولوجي زمني خطّي بل أرادت بقصدية كاملة أن تكون المذكرات ترتيباً كولاجياً لمواقف ورؤى وذكريات حسب أهميتها في حياتها. أسلوب الكتابة هو الأسلوب الآتوودي المعهود في كتبها السابقة: كتابة ساخرة تتخللها رؤى فلسفية هادئة من غير تمهيدات أو استطرادات. من أمثلة هذه الكتابة الآتوودية ما ورد في المقدّمة: «بذلت دماءً وعرقاً لكتابة هذا الكتاب؛ فقد كانت الحياة أكثر اكتظاظاً بالتفاصيل من أن تُحشر فيه، ولو أنني متُّ في الخامسة والعشرين - مثل جون كيتس - لكان الكتاب أقصر -. ضحكتُ كثيراً لهذه الفكرة: هل كنتُ حينها سأكتبُ الكتاب؟». ثمّ تضيف في المقدّمة ذاتها: «المذكرات هي ما يمكنك تذكّرُهُ، وأنت تتذكر غالباً الأشياء الغبية، والكوارث، وأفعال الانتقام، وأوقات الرعب السياسي؛ لذلك كتبتُ عن تلك الأشياء لكنني لم أكتفِ بها بل أضفت أيضاً لحظات الفرح والأحداث المفاجئة، وبالطبع الكثير من الكتب».

بعد المقدّمة المثيرة تتناول آتوود طفولتها غير التقليدية في براري شمال كيبك الكندية، حيث عمل والدها كعالم حشرات، وعاشت العائلة في عزلة شبه دائمة دون كهرباء أو ماء جارٍ. هذا الانغماس في الطبيعة والبراري كان بمثابة المعلم الأعظم لآتوود، وشكّل مصدر إلهام لاهتماماتها البيئية والأدب التأمّلي الذي اشتهرت به. بعد مرحلة الطفولة تتناول آتوود في فصول عدّة سنوات التكوين الأكاديمي: انتقالها إلى الحياة المدنية، وتجربتها في الجامعة بمدينة تورنتو ثم في هارفارد، وكيف غذت بيئتها الأكاديمية والاجتماعية الأولى عملها الروائي وبخاصة في روايات مثل «عين القطة» (Cat›s Eye) التي استلهمتها من تجربة التنمر في طفولتها.

عقب التكوين الأكاديمي تتناول آتوود العلاقة بين الحياة والفن؛ إذْ تستعرض بذكاء وحسّ دعابة بالغَيْن الروابط بين أحداث حياتها الخاصة وعملها الأدبي، رافضة التفسير التبسيطي الذي يرى أعمالها سيرة ذاتية مباشرة. لا تنسى آتوود في هذا السياق أن تلقي الضوء على كيفية نشأة أفكار أعمال كبرى لها مثل «حكاية الجارية»، مستمدة أفكارها من فترات تاريخية محدّدة وقواعد اجتماعية شاخصة. تفرِدُ آتوود جزءاً مهمّاً من مذكراتها للحديث عن حياتها وعلاقتها مع غريم غيبسون: زوجها وشريكها الأدبي الراحل، كاشفة عن شراكة إبداعية وعاطفية عميقة. ينتهي حديثها عن زوجها الراحل بلمسة حزينة - لكنْ قوية - تتناول سنوات تدهوره الصحي ووفاته، مؤكّدة على ضرورة الاستمرار في العمل والحياة.

عندما يقرأ القارئ الشغوف هذه المذكّرات لا بد أن يقف عند شواخص ماثلة تكشفُ عن ثراء فكري وتجربة حياتية مكتنزة

قلتُ إنّ آتوود كاتبةٌ منغمسة عضوياً في عملها الإبداعي؛ لذا ليس غريباً أن تختصّ كثرةً من فصول كتابها لأعمالها حدّ أنّ عناوين هذه الفصول هي عناوين أعمالها المنشورة ذاتها. عندما يقرأ القارئ الشغوف هذه المذكّرات فليس بمستطاعه سوى الوقوف عند شواخص ماثلة من عبارات آتوود التي تكشفُ عن ثراء فكري وتجربة حياتية مكتنزة. لا بأس من بعض الأمثلة: عن ازدواجية شخصية الكاتب وجوهر الكتابة تكتب آتوود: «كلُّ كاتب هو على الأقل كائنان: الذي يعيش، والذي يكتب... وهما ليسا الشخص نفسه». كذلك عن الذاكرة والحقيقة تكتب آتوود: «هل ما أتذكّرُهُ هو نفس الأشياء التي حدثت بالفعل؟ الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها كتابة الحقيقة هي أن تفترض أنّ ما تكتبه لن يُقرأ أبداً... لا من قبل أي شخص آخر، ولا حتى من قبلك أنت في وقت لاحق؛ وإلا فإنك تشرعُ في تبرير نفسك» من جانب آخر بعيد عن الذاتية المكرّسة، وفي سياق بيان أهمية العصر الحالي للمرأة الكاتبة مثلها تكتب آتوود: «سألني الناس على مر السنين: إذا كان بإمكانك اختيارُ قرن آخر لتعيشي فيه؛ فأيُّ قرن ستختارين؟ أجبْت: هذا سؤال عام جداً ويتناولُ تفاصيل مفروضة علينا. هو شبيه بأسئلة من نوع: ما هو جنسك؟ ما هو عمرك؟ ما هو بلدك؟ ما هي طبقتك الاجتماعية؟ هل كنتِ تفضلين أن تكوني أميرة من النبلاء أم حفَّارة خنادق؟ لم يكن لدي أدنى شك لولا عصر الطباعة لكنت أغسل الأرضيات». لا يخلو كتاب مذكّرات آتوود من مداعبة فلسفية عُرِفت بها الكاتبة؛ فحَوْل تحدّيات الجسد والوجود تكتب قائلة: «بعد أن يفرض الجسد نفسه علينا كنرجسيٍّ أنانيٍّ فإنّ حيلته الأخيرة هي -ببساطة- أن يغيب عن المشهد!!».

كتابُ مذكّرات آتوود ليس تجميعة عشوائية للذكريات؛ بل هو احتفالٌ بمسيرة حافلة بالإنجاز، وإطلالةٌ على العقل المبدع لواحدة من أهم الروائيات في عصرنا- روائية استطاعت أن تحوّل تجاربها الشخصية، مهما كانت عادية أو استثنائية، إلى نبع إلهام أدبي عالمي.


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.