فيروز التي يعيد صوتها اختراع العالم

«سفيرتنا إلى النجوم » في عيد ميلادها التسعين

فيروز خلال حفلة في بيروت عام 2010 (أ.ف.ب)
فيروز خلال حفلة في بيروت عام 2010 (أ.ف.ب)
TT

فيروز التي يعيد صوتها اختراع العالم

فيروز خلال حفلة في بيروت عام 2010 (أ.ف.ب)
فيروز خلال حفلة في بيروت عام 2010 (أ.ف.ب)

فيروز في التسعين. هكذا تقول بطاقة الهوية، ولكنها جملة لا تقول شيئاً بمعيار الإبداع. فمنذ متى كان العباقرة الكبار قابلين للاختزال في وثيقة ولادة أو بطاقة تعريف، وهم الذين تظل هوياتهم أبداً قيد الإنجاز، ولا يكفون عن استيلاد أنفسهم يوماً بيوم وعملاً بعد آخر. ومن أين لعناصر الجملة أن تستقيم، إذا كان الخبر لا يشبه مبتدأه بشيء، وإذا كانت المرأة المعنية به، لا تجيد من الأدوار أو المهن، أكثر من مهنة التحليق فوق الزمن، والتحالف الوثيق مع الخلود.

فيروز في التسعين. لكن كل شيء يخصها يقول عكس ذلك: جبينها الوضاء الذي لا يني يزداد علواً، عيناها المنصرفتان عن وحول الكوكب الأرضي وموبقات سكانه، صوتها المستل رنينه من تفتح صباحاتٍ ياسمينية المنشأ، وأعقاب صحارى وتنهدات، وصداح بلابل مكتومة القيد، ومظلات من الفرح المنسي تنتظر بلا هوادة عشاقها الغائبين.

وهل كان يعلم حليم الرومي بأنه إذ يسّر للموسيقي الفذ عاصي الرحباني، وللمغنية الذهبية نهاد حداد، سبل اللقاء في استوديوهات إذاعة لبنان، وصولاً إلى الحب والزواج اللاحقين، إنما كان بالمنظور الأوسع يوفر للمثلث الذهبي المؤلف من الصوت واللحن والكلمة، حاجته إلى التحقق على أفضل صورة ومثال. لقد بدا الرومي وكأنه يوفر للتاريخ الذريعة التي يحتاجها لكي يحول المصادفة البحتة إلى منعطف دراماتيكي، ينقل صورة الفن اللبناني من طور إلى طور، مستدرجاً إلى ساحته براءة الريف وجماليات الفولكلور وأطياف الأزمنة الغابرة، ومؤالفاً بين التراث الشعبي وبين رياح الحداثة الوافدة.

وإذ استطاع لبنان في الحقبة التي تبعت الاستقلال أن ينعم بشيء من البحبوحة والحرية والأمان، فقد تمكن صوت فيروز المزود بكل ما تحتاجه الينابيع من عذوبة، أن يرسم للكيان الذي ينتمي إليه، صورة رومانسية طوباوية منتزعة من أجمل مشهديات الريف اللبناني وعاداته وتقاليده. الأمر الذي تمثل في أعمال مبكرة من مثل «حكاية الإسوارة» و«الليل والقنديل» و«جسر القمر»، حيث وجدت هذه الأعمال في مهرجانات بعلبك منصتها النموذجية. وهو ما تصفه خالدة سعيد بقولها: «لقد تجلت الرومانسية في غناء فيروز وموسيقى وشعر الرحبانيين في ذلك التصور لعالم جنيني يشفّ ويضيء بحزن نظيف لا يشوبه نواح، وعبر شخصيات تنتمي إلى فردوس يوشك بسبب التطور الاجتماعي على الزوال».

وإذ بدأت هذه الصورة الزاهية للوطن الصغير تتراجع إلى الخلف، مفسحة المجال لأعاصير وزلازل من كل نوع، تمكنت فيروز في «ناطورة المفاتيح» و«أيام فخرالدين» و«جبال الصوان»، وصولاً إلى «بترا»، من استثمار حنجرتها النادرة في إطلاق نفير العصيان والتمرد على الظلم، ومقارعة الاستبداد، والتبشير بالحرية، وإرساء عدالة المقهورين.

ومع ذلك فإن التجربة برمتها لم تكن لتصيب هذا القدر من النجاح لو لم يذهب الرحبانيان بعيداً في المغامرة والتجريب، ولو لم تكن فيروز قادرة على مجاراة تلك المغامرة الإبداعية والإنسانية، سواء من خلال وعيها العميق بمآلات الواقع والتاريخ، أو ثرائها الروحي والإشراقي، أو قدرة صوتها على التكيف مع كل مهمة أوكلت اليه. فقد تكفل هذا الصوت بأداء الأغنيات العاطفية والوطنية والبدوية، وهدهدة الأطفال، والموشح، والنشيد الحماسي، والابتهال الصوفي، دون أن يصاب بالتعثر أو الوهن.

ومع أن الأبراج لا تصدق دائماً في قراءة الطوالع أو رسم خرائط الأعمار، فإن لولادة فيروز التي خرجت إلى العالم في مثل هذه الأيام من عام 1935، وكأنها تولد من حاجة لبنان إلى ظهير أسطوري يوسّع مساحة الوطن الصغير، ويعزز في الوقت ذاته دوره الريادي في إطلاق نهضته الثانية، بعد عقود من النهضة الأولى التي انطلقت مع مارون النقاش والشدياق واليازجيين والبساتنة، وصولاً إلى الأدب المهجري الذي تسلم لواءه التجديدي كل من جبران خليل جبران وأبو شبكة ونعيمة والريحاني وآخرين.

وإن لولادة فيروز في شهر خريفي، ما أكسب صوتها رغم احتفائه بالحياة، نبرة من الشجن والحزن المريمي غير قابلة للاضمحلال. ثمة في صوتها ما يزيح القشرة الظاهرة عن سطوح الأشياء، ويعري الفرح من غلالته، منقباً عن الطبيعة الحزينة للعالم، ومدلاً على شطره المفقود، كما يدل السراب على غياب الماء. كما يبدو الحزن الفيروزي أقرب إلى الحزن الأنيق الذي يبجل معنى وجود الإنسان على الأرض. ومع ذلك فإن هذا الصوت لم يكن منذوراً لفصل واحد أو طقس بعينه، بل كان يهب نفسه للفصول الأربعة، ويقبض على ناصية كل منها وانعكاساته على الداخل الإنساني. فكما انعكس الخريف بشاعريته الحزينة وترجيعاته المذهبة بالحنين في أغنية «ورقو الأصفر شهر أيلول»، التي كتبها جوزف حرب، منحت فيروز الشتاء هويات وأحوالاً متباينة، سواء عبر سردية الحب والفراق في أغنية «بليل وشتي»، أو الربط الاحتفالي بين المطر والحب في «رجعت الشتوية»، أو البحث في أغنية «وحدن بيبقوا»، التي كتبها طلال حيدر، عن عشاق شتويين ضائعين في برية العالم، أو الاحتفاء ببذرة الخصب الأدونيسي التي يعمل الشتاء على استنهاضها من باطن الأرض في «شتي يا دنيا»، أو الحديث في «تحت الشتي حبّوا بعضن» عن العاشقين اللذين ولد حبهما في شتاءٍ ما، وفي شتاء آخر افترقا إلى الأبد.

وإذا لم ينل الربيع الحظوة نفسها التي نالها أقرانه، فلأنه يجسد الجمال في حالة التحقق، في حين أن الفن في جوهره هو رديف النقصان والوعود المؤجلة. ومع ذلك فثمة وجوه للحياة بهية التفتح وربيعية الظلال في أغنيات غير معروفة من مثل «الربيع زار هذه الديار» التي غنتها فيروز عام 1955، أو أخرى أكثر شهرة مثل «طلّ وسألني إذا نيسان دق الباب». وإذا كان للصيف نصيبه الوافر من صوت فيروز، فلأنه الفصل الذي يتيح لروح الجماعة الأهلية في الريف اللبناني أن تظهر في أبهى صورها وتجلياتها، سواء عبر التقاليد الفولكلورية والأعراس وسهرات السمر، أو في طقوس العونة ومواسم القطاف والحصاد.

الحديث عن فيروز لا يمكن له أن يستقيم من دون التوقف ملياً عند احتفائها بالحب بوجوهه وأحواله المختلفة

على أن الحديث عن فيروز لا يمكن له أن يستقيم، دون التوقف ملياً عند احتفائها بالحب بوجوهه وأحواله المختلفة. لا بل إن هذا الصوت الذي يندلع من أعمق ما في الروح من عذوبة يكاد يكون الحب نفسه، وهو يتسلق حبال اللهفة والابتهال والشغف الجسدي والروحي بالآخر المعشوق. والحب في الأغنية الفيروزية يحتل الزمن بأبعاده الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، بقدر ما يحتل الفصول والطبائع والعناصر. وهو إذ يعلن عن نفسه بقوة وجرأة عبر أدوات النداء والمخاطبة، في «حبيتك بالصيف»، أو يعلن بوحه الشهواني في سردية «قالوا غمرني مرتين وشدّ»، إلا أنه يعرف بالمقابل كيف يتفيأ ظلال النصوص التراثية والدينية في أغنية «أنا لحبيبي وحبيبي إلي»، المستلهمة من «نشيد الأناشيد».

وقد لا يكون ممكناً التحدث عن صوت فيروز دون التوقف عند علاقته بالطفولة والزمن. ذلك أن أكثر ما أكسب العالم الفيروزي طابعه السحري، هو التصاقه الدائم بلحظة التكوين الأولى والتفتح البرعمي للكائنات والعناصر. وهو ما تظهر شواهده النموذجية في أغنيات من مثل «شادي»، الطفل المسمر أبداً على ثلوج الزمن، أو «يا دارة دوري فينا»، حيث تتم الدعوة إلى الاختباء من درب الأعمار، وتلافي التقدم في السن بداعي النسيان. لا بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، ليدعو الزمن إلى التقهقر، صارخاً بالأزمنة المنقضية «يا سنين اللي رح ترجعيلي، ارجعيلي شي مرة ارجعيلي»، ومحاكياً بشكل مضمر نظرية «العوْد الأبدي» عند نيتشه.

ولعل انصهار فيروز الطفولي بالوجود، فضلاً عما تملكه حنجرتها الفريدة من جرْس ينبوعي غير قابل للنفاد، وثمل ابتهالي بجمال العالم، هو ما جعل صوتها كنفاً وحرزاً لملايين البشر، اللائذين بحباله من وهدة الشيخوخة ووطأة الحرمان والقهر وهاجس الموت. وإذ نحتفي بها في عامها التسعين، ونتمنى لها المزيد من السنوات، لا أجد ما أختم به هذه المقالة أفضل من قول أنسي الحاج «صوتها الذي أسمعه، كأنه هو الذي يسمعني، بل كأنه أحسن من يصغي إلي كما أصغي إليه. صوتها الساقط فينا كالشهيد، والمخْمد حولنا كالعواصف، صوتها الملهب فينا غرائز البراءة والوحشية، صوتها كمصابيح في المذبح، وكزهرة جديدة حمراء في حديقة قديمة».


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.