كاميل كلوديل تتحرر من رودان في برلين

أعمالها تفرض قراءة نقدية جديدة لتاريخ النحت محل القراءة القديمة

كاميل كلوديل
كاميل كلوديل
TT

كاميل كلوديل تتحرر من رودان في برلين

كاميل كلوديل
كاميل كلوديل

في حين كنت أتأمل منحوتات كاميل كلوديل في المتحف الوطني القديم ببرلين، خُيل إليّ أن إيزابيل أدجاني تتجول هي الأخرى بين تلك الأعمال الفنية. عام 1988 تعرَّف العالم على كلوديل من خلال أدجاني في فيلم حمل اسم «النحاتة الفرنسية» التي كانت مجهولة قبله؛ بسبب وقوعها تحت سطوة شهرة عشيقها النحات أوغست رودان، الذي مثل جيرار دوبارديو دوره في الفيلم. الشقيقة الكبرى للشاعر بول كلوديل وكانت تكبره بـ4 سنوات قضت الـ30 سنة الأخيرة من عمرها في مصح بعيدة عن الأنظار؛ بسبب إصابتها بالجنون. لم تعرف الشهرة في حياتها على الرغم من أن بعض نقاد الفن يعتقد أن عدداً من منحوتات رودان تحمل بصماتها.

عام 1905 نظم يرجين بلو، وهو صاحب قاعة فنية بباريس، معرضاً مشتركا لكاميل كلوديل (1861 - 1939) ونحات ألماني شاب هو برنهارد هوننغر (1871 - 1949). لم ينل ذلك المعرض الطليعي حظه من الاهتمام الكافي؛ بسبب عصف التحول الذي كان يتعرَّض له تاريخ الفن في تلك المرحلة التي مهّدت لظهور مدارس فنية سيكون لها أثرها في صياغة الرؤية الفنية في القرن العشرين مثل، «الدادائية» و«التكعيبية» و«السريالية»، إضافة إلى ما نتج عن تأثير الرسام الفرنسي بول سيزان من انقلابات جذرية في الرؤية الفنية. بعد 120 سنة تتم استعادة ذلك المعرض ليكون مناسبةً لإنصاف المرأة التي غدر بها الحب ولم يعفها الجمال من جنونه.

من أعمالها

لم تفلت من قدرهاذهبتُ إلى المتحف الوطني ببرلين أملاً في رؤية أعمال كاميل كلوديل. لم أرَ لها منحوتة من قبل. رأيت عشرات من أعمال مُعلمها وحبيبها أوغست رودان، سواء في متحفه الشخصي بباريس أو في المتاحف الأوروبية الأخرى، وفي مقدمتها «متحف فيكتوريا وألبرت» بلندن. رغبتي الملحة في رؤية أعمال كلوديل حالت دون أن أقف مطولاً أمام منحوتات برنهارد هوننغر الذي لا تقل أعماله مستوى وقيمة عنها.

المرأة التي لم تتحرَّر من هيمنة النحات والرسام الانطباعي إلا عن طريق الجنون، نجحت في التحرُّر منه بوصفها فنانة. 12 عملاً من كلوديل تكفي لتأكيد مصداقية عنوان المعرض «التحرُّر من رودان». لقد بدت كلوديل في منحوتاتها فنانةً مستقلةً في موضوعاتها ومعالجاتها الشكلية ومفرداتها وتقنياتها. وكان منسقو المعرض قد لجأوا إلى عرض عدد من منحوتات رودان، وبالأخص منحوتته الشهيرة «المفكر» من غير أن يعلنوا أنهم يقومون بذلك من أجل تأكيد نظريتهم المستلهمة من شخصية كلوديل المستقلة.

انتمت كاميل، أو «كامي»، إلى محترف رودان لتتدرج من متدربة، إلى مساعدة، إلى عشيقة، إلى ملهمة. لم يكن في إمكانها أن تفلت من قدرها الذي سلّمها إلى الجنون. وعلى الرغم من إعجابها برودان فناناً وإنساناً، فإنها نجحت في صنع مسافة تفصلها عنه على المستوى الفني وقد يكون ذلك واحداً من أهم أسباب انهيار العلاقة العاطفية بينهما. كان رودان نحاتاً كلاسيكياً برؤى انطباعية، بينما حرصت كامي على أن تفلت بفنها من المعايير الكلاسيكية لتخلص لانطباعيتها في مشاهد، لم تكن من خلالها تستعرض مهاراتها التقنية كما كان يفعل مُعلمها. تفوَّقت بإنسانيتها عليه على الرغم من أن رودان نفسه كان قد حاول أن يفجّر عاطفته الإنسانية كما في تمثال «القبلة».

أنوثة جرى تغييبها

تعلمت كامي التقنيات الخفية لفن النحت من مُعلمها رودان، هل كان مسموحاً لها بأن تتفوَّق عليه نحتياً؟ كان ذلك السؤال الهدام جزءاً غير معترف به من العلاقة العاطفية الملتبسة التي أفقدتها عقلها. لقد قاومت المتدربة تأثيرات مُعلمها، الذي كانت وما زالت ملهمته، وهوما أوحى له بأن يدفع بها إلى المنطقة التي تتخلى فيها عن فنها. كان الجنون بسبب الحب الفاشل مصيرها. غير أن التاريخ يثبت أن الفن يبقى. ما لم يكن يفكر رودان فيه أن يُقام احتفال لكامي في المتحف الوطني ببرلين. ولا أظن أن كلوديل نفسها كانت قد فكَّرت في إمكانية وقوع حدث من هذا النوع بعد أكثر من 90 سنة من وفاتها. وليس من باب المبالغة القول إن كامي كانت قد انفردت في سنٍّ مبكرة بفنها بعيداً عن رودان. وهو ما كان مسكوتاً عنه، وبالأخص حين عُرضت أعمالها في باريس عام 1905. كان رودان يومها مهيمناً على عالم النحت بمنحوتته «عالم البرونز». أما في الأعوام التالية فقد طوى النسيان كاميل وفنها، بحيث إن مؤرخي فن النحت في القرن العشرين لم يذكروها إلا بشكل عابر. المرأة التي أضفت على قوة التعبير وصلابته نوعاً من الرقة، واستلهمت الشهوة الخفية التي تسيل في شرايين كائناتها في بناء عالم إنساني بملامح أنثوية جرى تغييبها في سياق رؤية ذكورية كان رودان بقبلته الشهيرة وتمثاليه «المفكر» و«بلزاك» عنوانها. اليوم إذ يُعاد الاعتبار إلى كاميل كلوديل فإن قراءة نقدية جديدة لتاريخ النحت تحل محل القراءة القديمة.

يؤكد المؤرخون أن هناك تمثالين على الأقل وقّعهما رودان نحو عام 1885 كانا من صنع كلوديل

هل نحتت كاميل أعمالاً لرودان؟

لم تكن مدرسة الفنون الجميلة تقبل النساء بين منتسبيها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لذلك انتسبت كاميل إلى «أكاديمية كولاروسي»، التي كان يشرف عليها النحات بوشيه ولكنه بعد فوزه بجائزة «صالون باريس»، اضطر للسفر إلى إيطاليا عام 1882 فبحث عن بديل له. يومها عهد بتلاميذه الصغار إلى رودان، الذي أُعجب بالأعمال الأولى التي عرضتها عليه كاميل كلوديل. صارت واحدة من مساعداته، ويُقال إنها أبدعت في نحت الأيادي والأقدام التي صارت جزءاً من عالم رودان، وهي في ذلك لم تقف عند حدود تأثيره. كان إعجابها بأعمال دوناتيلو وسواه من نحاتي عصر النهضة قد قادها إلى العثور على مصادر إلهام بعيدة.

عام 1889 كتبت رسالةً إلى وزير التعليم العام والفنون الجميلة تقول فيها: «لقد كنت أصنع المنحوتات لمدة 7 سنوات وأنا تلميذة السيد رودان». الخلط بين مهارتَي كاميل ورودان كان محتملاً نظراً لتشابه حساسيتهما وتقاربهما الأسلوبي. يؤكد المؤرخون أن هناك تمثالين على الأقل وقّعهما رودان نحو عام 1885 كانا من صنعها. مع ذلك فقد ظُلمت كلوديل حين جرى حصرها في مجال المقارنة برودان. في نهاية حياتها الفنية انصبَّ اهتمامها على سرد تفاصيل سيرتها العاطفية التي أدركت أنها في طريقها إلى النهاية. تلك هي المرحلة التي استقلت فيها، وهي ذاتها التي بدأ فيها انهيارها العقلي.

لا يزال «الفالس» مسموعاً

في لحظة ما شعرت كاميل بأن رودان كان يتآمر عليها فنياً. عام 1893 قدَّمت عمل «الفالس» في «الصالون الوطني للفنون الجميلة». كان ذلك العمل يصوّر زوجين راقصين، يدوران معاً على محور قطري في عناق وثيق. ويبرز الشعور بالحركة من خلال الستارة التي تبدأ من وركي التمثال وتمتد إلى أحد جانبيه. للوهلة الأولى يبدو التمثال غير متوازن، غير أن ذلك لم يكن سبباً لرفض عرضه في الصالون. فالعضلات القوية للرجل وجسد شريكته المتين يتركان انطباعاً بإثارة حسية شديدة كانت هي السبب. لقد انتقدت السلطات «الفالس» «إحساسَه العنيفَ بالواقعية» وعدّته غير مناسب للعرض في معرض مفتوح للجمهور. كان رفض التمثال الذي هو واحد من أهم أعمالها ضربةً قاسيةً ألقت بظلالها على علاقتها برودان الذي كان على علاقة وثيقة بأعضاء اللجان الحكومية.

وقفتُ أمام «الفالس» الذي تم عرضه باهتمام لافت، وشعرت بقوة ما انطوى عليه من تعبير ومن مهارة نحتية، جسّدت الفنانة من خلالها استقلالها عن أسلوب رودان وتحرُّرها من معالجاته التقنية وأسلوبه في النظر إلى موضوعاته. فبالإضافة إلى الجرأة الحسية التي كانت سبباً في منع عرضه فإن التمثال لا يزال ينطق بجماليات قل نظيرها في تاريخ النحت العالمي.

في هذا المعرض تستعيد كاميل كلوديل مكانتها المستقلة في تاريخ النحت على الرغم من أن حياتها المضطربة تظل تذكر بعلاقتها المتشنجة بواحد من أعظم النحاتين عبر العصور.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.