هل الجمال ترجيع فردوسي أم نبتة شيطانية؟

هويته الملتبسة والعصية على التعريف تتوزع بين الطبيعة والفن

شوبنهاور
شوبنهاور
TT

هل الجمال ترجيع فردوسي أم نبتة شيطانية؟

شوبنهاور
شوبنهاور

قلّ أنْ شغل موضوع أو هاجس أو قضية عقول البشر وقلوبهم ومشاعرهم، كما هو الحال مع الجمال وتمظهراته الشائكة في الحياة والفن. لا بل إنه، إضافة إلى القضايا الكبرى المتصلة بالحياة والموت والحب والحرية، يكاد يكون المنجم الأكثر ثراءً لذهب الحيرة والشكوك وللأسئلة الفلسفية واللاهوتية. فهو إذ يؤْثر الإقامة في الجهة غير اليقينية من العالم، يوزع بهاءه الساحر بين ماضي الوجود الفردوسي الذي تتعذر استعادته، ومستقبل غامض يصعب الركون إلى وعوده المواربة ومحصوله الخلبي.

لكن البعد الهانئ للجمال لا يحتل من الحقيقة سوى نصفها المبهج. فمقابل نسائمه الأكثر طراوة التي تنعش أرواح طالبيه الظمأى، ثمة مخالب شديدة الفتك مخبأة تحت سطح نعومته الظاهرة، ومهيأة في حالات الغيرة أو الخيانة أو نزعة الامتلاك، للاقتصاص من ضحاياه والرازحين تحت سطوته، بما حوّله عبر التاريخ إلى محرك دائم للعصف الشهواني وغرائز القتل والتدمير والاستحواذ. هكذا بدا جمال هيلين الفاتن الوجه الآخر لحرب طروادة الضروس، وأسهم جمال كليوباترا المماثل في تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى شطرين متصارعين، وأشعلت امرأة تسمى البسوس حرباً لا هوادة فيها بين بكر وتغلب، وتصارع الفرسان الهلاليون حول الأحقية في امتلاك السبايا الجميلات.

فولتير

ومع أن الجمال هو أحد أبرز تجليات الخالق، ووجه من وجوه تكريمه للإنسان الذي خُلق في أحسن تقويم، كما تشير الآية الكريمة، فهو إذ يسبّح الخالق باعثاً على الطمأنينة ودعة القلب، يتصل من جهة أخرى ببلبلة النفس وهياج الدم وصيحات الانتقام من الآخر المنافس. وليس من قبيل الصدفة أن تتركز نعوته بمعظمها على ما يشل الجسد والروح ويحرك زلازل الداخل، زارعاً في دواخل البشر بذرة الضغينة والبغض والغيرة السوداء. وكما هو الحال مع الحب، فإن الجمال يُنعت بالآسر والطاغي والصاعق والفاتن والفاتك والخلاب والعاصف والصارخ، وكل ما يشير إلى تصديع نفس الناظر إليه واختبال عقله وخلخلة كيانه.

كما أن صلة الجمال الوثيقة بالفردوس وسائر تجليات المقدس الديني، لم تحل دون تحالفه الموازي مع الدنس الدنيوي ووساوس الشيطان، وهو الذي وقف وراء جريمة قابيل، وأوقف كلاً من يوسف الصدّيق وزليخة على شفير المعصية، قبل ظهور البرهان الإلهي، وظهر لبوذا المتعبد في غابة التأمل، على شكل نساء ساحرات الملامح، وأوحى لسالومي بألا ترضى بثمن لرقصها الأفعواني، أقل من رأس يوحنا المعمدان المحمول على طبق من ذهب، ودفع ديك الجن إلى إعمال السكين في عنق ورد، والتضحية بها على مذبح الغيرة القاتلة.

والجمال في «لسان العرب» هو البهاء والحسن، اللذان يمكن أن يتجليا في الفعل كما في الخَلْق. وهو قد يقع، وفق ابن الأثير، على الصور كما على المعاني. ومنه الحديث النبوي «إن الله جميل يحب الجمال»، أي هو حسَنُ الأفعال كامل الأوصاف. ومع أن تمثلاته وأطيافه لا تنحصر بالبشر وحدهم، بل تنسحب على الطبيعة والجمادات وسائر المخلوقات، فاللافت أن لفظة الجمال، بمعنى الحسْن، لم ترد في القرآن الكريم إلا في معرض نعت الأنعام، حيث ورد في سورة النحل «ولكم فيها جَمالٌ حين تريحون وحين تسرحون». وهو ما لا يحصر دلالته بالأشكال الظاهرة، بل يجعله مرتبطاً بالرزق والمنفعة في الآن ذاته.

وإذ تكتسب لفظة الجميل في بعض الآيات دلالات مجازية متصلة بالأخلاق وقواعد السلوك، كأن تتحول إلى نعت للصبر أو الهجر أو الصفح، يتم في آيات أخرى استبدال الحسن بالجمال، كما في قوله تعالى «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، أو قوله «وصوّركم فأحسن صوَركم ورزقكم من الطيبات».

وقد احتفى اليونانيون بالجمال أيما احتفاء، وجعلوا له إلهة خاصة به هي أفروديت، وأحاطوها بالتقدير والتمجيد وقدموا لها النذور والقرابين والطقوس الاحتفالية. كما ميز فلاسفتهم بين أفروديت الأرضية ذات الجمال الحسي الشهواني، وأفروديت السماوية التي يتصل جمالها بينابيع روحية وأثيرية المنشأ والدلالة. ولعل في بعض نماذج فن النحت الإغريقي، ما يؤكد التلازم التام بين الحب والجمال من جهة، وبينهما وبين الفن من جهة أخرى. أما النموذج السائل لأفروديت فهو يحاكي بدوره «نموذج الجمال الانسيابي الهادئ» لربة الجمال التي ولدتها الأمواج.

وإذ تناوله الفلاسفة القدماء بالقراءة والتمحيص، فقد اعتبر أفلاطون أن الجمال المطلق موجود في عالم ما بعد أرضي هو «عالم المثل»، وبأن ما تعكسه الطبيعة والواقع ليس سوى نوع من المحاكاة للنماذج الجمالية العليا التي يختزنها ذلك العالم بين طياته. وقد ميز أفلاطون بين نوعين من الجمال، يتصل أولهما بالرغبة والانجذاب الشهواني الذي يدفع إلى الامتلاك، فيما يتصل الثاني بالتأمل والإعجاب البريء، كأن تأسرنا ملامح طفل صغير قمري الوجه، أو شيخ مسن لم تستطع تجاعيد وجهه أن تقلل من وسامته المكتنهة بالأسرار. فالجمال في هذه الحالة ليس دعوة إلى الرغبة، بل دعوة إلى التخلي عنها، لمصلحة مثال أعلى يستهدف النفس المتعالية في مجالها الحيوي المتحالف مع الأبدية. كما ميز إيمانويل كانط بين الجميل والجليل، معتبراً أن المشهد الطبيعي الجميل يحثنا على إطلاق حكم ذوقي، فيما يدعونا الجليل إلى أحكام مغايرة، نقيس من خلالها وجودنا الضئيل إزاء اللانهائية المدهشة للعالم.

في ظل الحضور الهش والمتبدل للجمال الواقعي وحده الجمال الفني والروحي يملك القدرة على القفز من «تايتانيك» الوجود

وقد أكد فولتير على الطبيعة النسبية للجمال والبشاعة، ليخلص إلى القول بنبرة ساخرة «إن من يسأل ضفدعاً عما هو الجمال الأسمى في نظره، فلا بد أن يجيبه الأخير بأنه يراه في ضفدعته الأثيرة، بعينيها الكبيرتين المستديرتين وفمها الواسع المسطح وبطنها الأصفر. ومن يطرح على رجل أسود من غينيا السؤال نفسه، فسيجيبه بأن الجمال بالنسبة له هو البشرة السوداء الزيتية والعينان الغائرتان والأنف المسطح». كما أن النظرة إلى الجمال وماهيته وتأثيراته، ظلت تختلف باختلاف الناظرين إليه من الكتاب والفنانين. فهو إذ بدا لبعضهم باعثاً على الدعة والسكينة والتحليق الأثيري فوق العالم، رأى فيه البعض الآخر، وبخاصة في شقه المتعذر وغير المتاح، مصدراً للخوف والوساوس المؤرقة، وخطاً للتماس مع المرض والجنون والموت.

والأرجح أن الصورة السوداء التي رسمها بعض الكتاب والفلاسفة للجمال الأنثوي كانت مرتبطة بظروف نشأتهم القاسية أو بتجاربهم الفاشلة مع النساء، كما كان حال شوبنهاور ونيتشه، على سبيل المثال لا الحصر. فالعلاقة المعقدة والصعبة لشوبنهاور مع المرأة، هي التي حكمت موقفه السلبي منها، ودفعته إلى القول «من الخطأ بمكان أن نعتبر المرأة مخلوقاً جميلاً، بل هي مخلوق شبيه بسمك الحبّار، تطلق حبرها الداكن لتحيل الماء من حولها إلى سائل حارق، وتستخدم الخداع لكي توقع بالرجل».

وإذا كان التنقيب عن الجمال بتجلياته المتنوعة هو أحد الأغراض الأكثر نجاعة التي تستبطنها كتابات غاستون باشلار، فإن الفيلسوف الفرنسي قد عمل بدأب بالغ على محو الحدود الفاصلة بين العالم الخارجي والعالم الباطني، كما بين ثنائيات الذات والموضوع، والفن والعلم. فحيث المجاز هو الأرضية المشتركة لكل ابتكار إنساني، يمكن لجمال الرياضيات البارد والمتقن أن يحاكي الروح الحقيقية لنشوة الحب أو الخلق الشعري. وإذا كان الوعي بالوجود مديناً لتناوب الصور والتصورات، فينبغي علينا وفق صاحب «جماليات الصورة»، أن نحب القطبين المذكر والمؤنث للنفس البشرية، أي العقل والمخيلة.

ومع أن كلاً من الجمال الطبيعي والفني لا يخضع لمعايير مطلقة ونهائية، بل يظل في دائرة الأحكام النسبية والمتبدلة، فإن الفن بتجلياته العليا هو وحده القادر على ترويض الزمن والإمساك بناصية الأبدية. صحيح أن في الجمال الواقعي ما يثير البهجة وطرب النفس، إلا أنه جمال مؤقت ومتحول وقابل للزوال. فهو بشقّيه البشري والطبيعي قابل للتحلل الحتمي، حيث يتصدع الأول تحت المطرقة البطيئة للمرض والشيخوخة، فيما يتعرض الثاني للتشوه والتلف، بفعل التغيرات المناخية والبيئية التي تضرب الكوكب الأرضي.

وفي ظل هذا الحضور الهش والمتبدل للجمال الواقعي، وحده الجمال الفني والروحي يملك القدرة على القفز من «تايتانيك» الوجود العابر، والنجاة بنفسه من الغرق. وهو إذ يجتاز بنجاح امتحان الزمن، فلأنه مصنوع من مواد غير قابلة للتلف، وقادر على استيلاد نفسه باستمرار، وعلى التحليق الدائم فوق هشاشة العالم وتشوهاته وأعطابه.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.