تقع جزيرة فيلكا في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، وتتبع في زمننا دولة الكويت، ولعلّها أشهر المواقع الأثرية الخاصة بهذه الدولة. بدأ استكشاف هذا الموقع في نهاية خمسينات القرن الماضي، حيث تولّت بعثة دنماركية عمليات المسح والتنقيب فيها على مدى خمسة مواسم، تواصلت بين عام 1958 وعام 1963. تبعتها بعثات أجنبية عدة، ساهمت أعمالها في إلقاء الضوء على تاريخ هذه الجزيرة التي شكّلت محطة من المحطات التجارية الكبيرة التي ازدهرت على ساحل الخليج العربي.
عُرفت هذه الجزيرة في العصر الهلنستي باسم إيكاروس، وهو اسم الجزيرة الشهيرة في خليج إيجة الممتد بين أوروبا وآسيا، وذكرها عدد كبير من المؤرخين والرحالة اليونانيين في مؤلفاتهم بهذا الاسم. تشكّل هذه المصادر الأدبية مرجعاً للبحث في تاريخ فيلكا الذي لم تتضح معالمه بعد، ويقابل هذا السند مرجع آخر يتمثّل في مجموعات متفرقة من القطع النقدية المسكوكة، عُثر عليها خلال أعمال التنقيب المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن. تُعرف دراسة العملة المعدنية المسكوكة بعلم المسكوكات، وتكمن أهميتها الأولى في نقوشها وما تحمله من صور وكتابات تشهد للمكانة الاقتصادية والعلاقات التجارية الخاصة بالموقع الذي خرجت منه. غير أن هذا العلم كثيراً ما يصطدم بعناصر تبدو أشبه بألغاز يصعب حلّها، كما يتّضح عند مراجعة الأبحاث التي تناولت المسكوكات التي خرجت من فيلكا.
كشفت أعمال التنقيب الأولى في نهاية الخمسينات عن مجموعة متفرقة من هذه القطع المسكوكة عُثر عليها في أماكن متفرّقة، أهمها ثلاث قطع نحاسية، سكّ إحداها سلوقس الأول باسم الإسكندر الكبير، وسلوقس هذا ملك يوناني ومقدوني من ملوك طوائف الإسكندر، ومؤسس الإمبراطورية المسماة بالسلوقية. تعود هذه القطعة على الأرجح إلى العقد الأول من القرن الرابع قبل المسيح. في المقابل، تعود القطعتان الأخريان إلى عهد أنطيوخوس الثالث، سادس حكام الإمبراطورية السلوقية الذي ساد بين عام 187 وعام 223.
في مارس (آذار) 1961، خرج المنقبون بكنز من المسكوكات تمثّل في كتلة معدنية مرصوصة، تبيّن أنها تحوي 13 قطعة فضية من العملة المعروفة يونانياً باسم تترادراخما. تتفرّد إحدى هذه القطع بحضور صورة أنطيوخوس الثالث على وجهها، وصورة المعبود أبولو، سيد الشمس والفنون، وسلف الأسرة السلوقية.
في المقابل، تتماثل القطع الأخرى، وتجمع بين صورة وجه البطل الإغريقي هيراكليس على وجهها، وصورة سيد السماء والأرض زيوس، جالساً على عرشه، وترافقها كتابة يونانية تذكر اسم الإسكندر، وفقاً لنموذج ثابت شاع في بقاع متعددة من العالم الهلنستي، كما في نواحٍ أخرى من شرق الجزيرة العربية، تمتد اليوم من دولة الكويت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.
تعدّدت القراءات في تحديد المصدر الأصلي الذي تمّ فيه سكّ هذه القطع، وظهرت مجموعات أخرى تحمل تفاصيل جديدة، منها كنز اكتُشف في عام 1984، في موقع يُعرف باسم تل خزنة، في الجهة الشمالية الشرقية من تل سع. يحوي هذا الكنز 27 قطعة فضية من نوع التترادراخما، قيل عند دراستها إنها تعود إلى 15 محترفاً مختلفاً. جُمعت هذه القطع في حاوية خلال سنة 285 قبل المسيح، على الأرجح، كما يقول التقرير الخاص بهذا الاكتشاف، وتمثّل أقدم عهود مسكوكات فيلكا، وهو عهد سيادة السلوقيين على الجزيرة، وفيه يتكرّر بشكل خاص النموذج التقليدي الذي يجمع بين رأس هيراكليس وقامة زيوس واسم الإسكندر، في قالب واحد جامع، يُعرف باسم «تترادراخما الإسكندر».
ظهرت علامات الوهن على هذا العهد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وسادت سلطة عربية محلية على الجزيرة، يشهد لها كنزان صغيران يحويان مسكوكات تستعيد نموذج تترادراخما الإسكندر، مع ظهور كتابة بلغة جنوب الجزيرة، تشير إلى «شمش»، وهو معبود الشمس وإله العدل في حضارات بلاد الرافدين، وقد بلغت عبادته الجزيرة العربية، وانتشرت في مناطق عديدة منها في الجزيرة العربية القديمة. هكذا يحل شمش مكان زيوس، غير أن الصورة تبقى ذاتها، وهذا التلاقح معروف في العالم الهلنستي، وشواهده لا تُحصى.
يحضر اسم الإسكندر باليونانية أفقياً على عدد من هذه العملات المحلية التي تحاكي «تترادراخما الإسكندر»، ويظهر على عدد آخر من العملات اسم «أبياتا» نُقش بالعربية، وهو اسم غامض يعود على الأرجح إلى ملك من سلالة عربية لم تُحدّد هويتّها بعد، يتكرّر على 11 قطعة نقدية وُجدت إلى جانب قطع تمثّل تترادراخما الإسكندر مع ذكر «شمش»، وثلاث قطع تحمل الطابع السلوقي.
لم يدم هذا العهد العربي طويلاً في فيلكا؛ إذ عاد السلوقيون إليها، وأنشأوا كما يبدو فيها مستوطنة ضمّت محترفاً صغيراً، خرجت منه مسبوكات ظهر منها إلى اليوم عدد محدود للغاية، وهي من نتاج فيلكا بين نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ لا نجد ما يماثلها في محيطها.
بعد تفكّك الإمبراطورية السلوقية، في عام 140 قبل المسيح، ضُمّت الجزيرة إلى مملكة ميسان الصغيرة التي أنشئت عند مصب دجلة والفرات، وشواهد هذا العهد قليلة للغاية، وقوامها أربع قطع مسكوكة فحسب.
