بعد نصف قرن يقدم لنا الكاتب الألماني دانييل كيلمان (1975- ) معالجة ذكية لموضوع العنف اليساري بالضد من عنف الدولة في مسرحية حملت عنوان «ليلة الميلاد»، وصورت في فيلم ناجح بعنوان «تحقيق منتصف الليل».
جرت المعالجة الأولى لهذا الموضوع سينمائياً عام 1975، وهو العام الذي شهد ولادة كيلمان، في فيلم «شرف كاتارينا بلوم الضائع»، الذي استند لرواية تحمل الاسم نفسه للألماني الحائز «نوبل» هاينريش بول. انتقد فيها عنف الدولة المنفلت، في قوانين الطوارئ الألمانية، التي سنتها بالضد من نشاط التنظيم اليساري المتشدد «بادر ماينهوف» ووريثه الشرعي «جناح الجيش الأحمر».
يضيع شرف الشابة «كاتارينا» في دهاليز وأقبية جهاز مكافحة الإرهاب الألماني بسبب ليلة قضتها مع شاب وسيم تعرفت عليه للمرة الأولى في مرقص، ويتضح، من دون علمها، أنه من ناشطي «الجيش الأحمر». لكن «يوديت»، أستاذة الفلسفة في الجامعة، ذات الميول اليسارية المتطرفة، تُختطف من قبل رجال الأمن في الوقت الحاضر، وتخضع في ليلة الكريسماس لتحقيق ماراثوني بحثاً عن قنبلة لم ولن ينطلق عنها، طيلة المسرحية (أو الفيلم)، دخان.
تناول بول موضوع العنف اليساري والعنف المضاد قبل خمسة عقود حينما كان المد اليساري المتطرف يشغل العالم من اليابان، عبر لبنان، إلى ألمانيا ونيكاراغوا. لكن كيلمان اختار موضوع العنف اليساري في زمن ينتشر فيه العنف الإسلاموي المتشدد وعنف اليمين المتطرف، خصوصاً في ألمانيا. وبرر هذا الخيار في مقابلة صحافية بالقول إنه أراد متهماً ذكياً يقابل رجل الأمن، والدواعش والنازيون لا يتميزون كثيراً بالذكاء.
يجري انتزاع «يوديت» من التاكسي (في المسرحية/ عرضت سنة 2017)، في حين تحاصر بغرفتها في الفندق في الفيلم. قام الممثل المعروف شارلي هوبنر بدور محقق الأمن المتمرس «توماس»، وأدت صوفي فان كيسل دور «يوديت». والفيلم من إخراج ماتي غيشونيك، وكتب دانييل كيلمان السيناريو بنفسه.
تهيأ «توماس» للتحقيق بشكل كامل، وكشف أنه يعرف كل شيء عن حياة «يوديت» العائلية وطليقها «يوليان» ونشاطها السياسي طوال سنوات. قرأ أطروحة الدكتوراه التي كتبتها بعنوان «العنف في فلسفة فرانتز فانون» ويعرف مواعيد وعناوين محاضراتها في الجامعة، وأنها وزوجها زارا كولومبيا وتشيلي والتقيا قبل عشرين سنة بتنظيمات محلية هناك.
بعد الأسئلة التقليدية حول الفلسفة والحياة اليومية وكلب العائلة يفاجئ «توماس» الأستاذة الجامعية بسؤال «أين القنبلة»، ومتى ستنفجر. تنفي «يوديت» علمها بالموضوع وتنفي وجود قنبلة، لكن «توماس» يواجهها بنص مأخوذ من حاسوبها يعتقد أنها تتبنى عملية التفجير المزعومة فيه. وترد بأنه نص من إحدى محاضراتها لا غير ولا وجود لعملية تفجير. تقول إنها تتحدث في النص عن الفعل الثوري في فكر فانون، ويرد عليها بأنها تحن لأيام شبابها الثوري وأن الانفجار عبارة عن «تمرين عملي لنظريتها في العنف الثوري».
يتضح أيضاً أن رجال الأمن اعتقلوا زوجها السابق ويحققون معه قبل يوم من اعتقالها. يحاول المحقق إضعاف موقفها بالكشف عن نشاط زوجها (أستاذ في الجامعة أيضاً) وعلاقاته بالطالبات وعدم ارتياح والديها له، ويذكرها كيف تركها على سفح صخري عال مرة، وكانا في رحلة تسلق جبال في محاولة واضحة لانتزاع اعتراف منها عن «يوليان».
في الحوار يقدم لنا كيلمان صراعاً نظرياً غير متكافئ بين أستاذة متعلمة وعارفة بحقوقها، وبين محقق محدود الثقافة، مؤمن بالنظام الذي يدافع عنه، وبين يسارية تبرر عنف اليسار بعنف الدولة. لنقل إنه تعارض الأمن والديمقراطية أو موضوع المراقِبين ضد المراقَبين، أو الأثرياء ضد الفقراء أو الحرية الشخصية بالضد من الإجراءات الأمنية والكاميرات المنتشرة في كل مكان.
تقول «يوديت» للمحقق:
حينما ينظر المرء إلى ذلك من وجهة نظر أفريقية. إن الصادر الأهم لبلد صغير مثل النيجر هو اليورانيوم. تستخرجه الشركات الأوروبية، ولهذا فإن الإشعاعات حالياً عالية إلى حد يعجز فيه الناس عن شرب الماء في بعض أنحاء البلد. مساحات شاسعة يتعذر زراعتها، الصحراء تتسع، والبشر يفرون، يدفعون كل مدخراتهم من أجل الحصول على مكان في زورق. هذا، إذا عاشوا مخاطر الرحلة، ووصلوا إلينا. ونحن نسميهم «لاجئين اقتصاديين»، لأن النيجر ليست في حالة حرب.
لم يعد رجال الأمن بحاجة إلى زرع الميكرفونات في بيوت الناس، حسب حوار «توماس»، لأن الناس يحملون أجهزة التنصت إلى البيوت بأنفسهم مشيراً إلى جوال «يوديت». لا يحتاجون إلى أكثر من ثلاث دقائق لاستنساخ القرص الصلب في أي كومبيوتر، ولا ينافسهم أي لص في فتح الأبواب، ويستطيعون تتبع مصير جوال «يوديت» الذي رمته قبل عشر سنوات.
يثير كيلمان في نصه الكثير من الدخان بدلاً من نيران الانفجارات، والكثير من الأسئلة المعلقة بدلاً من الأجوبة. ولا يعرف المشاهد، أو القارئ، من يصدق: المحقق و«المؤشرات» التي يوردها أم الأستاذة بردودها المفحمة. تقول له: «انظر جيداً هل أبدو كقاتلة تصنع المتفجرات بحسب وصفات الإنترنت»، وهي باعترافه لا تعرف كيف تبدل مصباحاً كهربائياً عاطلاً. ويتساءل المشاهد:
هل التهمة باطلة، أم أن المحقق على حق؟
والسؤال الرئيس الذي يبقى مفتوحاً هو: أين القنبلة؟ تنتهي المسرحية وليس للقنبلة أي وجود عدا وجودها الافتراضي.
يعترف «يوليان» في النهاية بأنها صاحبة فكرة التفجير «لتحريك الوضع السياسي» ويضطر المحققون لإطلاق سراحه بعد 24 ساعة من اعتقاله. يتفاجأ «توماس» بالاعتراف ويتفاجأ أكثر حينما تتحمل «يوديت» المسؤولية عن التحضير للقنبلة. ولكن السؤال يطرح نفسه بإلحاح: أين القنبلة؟
تقول «يوديت» ما لا يصدقه المحقق
ولا الجمهور.
توماس: من أين حصلت على أجزاء القنبلة؟
يوديت (غير مبالية): طلبتها على الإنترنت.
توماس: أين بالضبط؟
يوديت: نسيت.
توماس: حاولي على الأقل أن تكوني مقنعة.
من أي مواد؟
يوديت: نسيت.
توماس: طريقة التحضير؟
يوديت: إنترنت.
توماس: على أي صفحة؟
يوديت: نسيت.
توماس: أين المواد؟
يوديت: تخلصت منها.
توماس: أين؟
يوديت: في مكب النفايات.
توماس: أيها؟
يوديت: نسيت.
هل هي خطة للضحك على «هيئة حماية الدستور» (الأمن الألماني) باعتراف غامض؟
إليكم ما تقوله «يوديت» قبل إطلاق سراح «يوليان».
يوديت: عليكم الآن إطلاق سراحه. سرعان ما ستنقضي 25 ساعة على اتفاقه معكم. عليه أن يتهمني ثم يخلى سبيله. هكذا يعمل نظامنا القانوني، أليس كذلك؟ لكن إذا لم تطلقوا سراحه في الحال سينهار نصف تحقيقكم. سيعمل محاموه على ذلك. ولديه محام جيد، وإذا لم تعتمد إفادته، لأنكم احتجزتموه طويلاً دون محام، وتكونون قد خرقتم الاتفاق، سأسحب اعترافي، ولا يبقى أي شيء بين أيديكم.
والمحقق توماس لا يزال يزعق: أين القنبلة؟
