أدونيس شاعر الشغف الجسدي واللغة الجامحة

قصيدته «تحولات العاشق» علامة فارقة في شعر الحب العربي

أدونيس
أدونيس
TT

أدونيس شاعر الشغف الجسدي واللغة الجامحة

أدونيس
أدونيس

يصعب الحديث عن الحب وتجلياته الرؤيوية والإبداعية في الشعر العربي الحديث، دون التوقف ملياً عند تجربة أدونيس، وما اتسمت به من فرادة وتجرؤ بالغين. وإذا كان اسم أدونيس ليس مُدرجاً بالمعنى الشائع في خانة الشعراء العشاق، كما هو حال عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني، فليس علينا أن نبذل كبير جهد لكي نتحقق من وقوع المرأة والحب في قلب المغامرة الأدونيسية وصميمها، سواء من حيث الرؤية والموقف، أو من حيث الأفق الدلالي والتعبيري.

وإذا كان في أعمال أدونيس الشعرية ما يُظهر الطبيعة الحقيقية لعلاقته بالمرأة، فإن في نثره وحواراته ما يؤكد على التلازم الوثيق بين تجربته الشعرية ومشروعه الفكري. فما نجده هنا نجده هناك، وإن بلغة مختلفة وأسلوب مغاير. فأدونيس إذ يرى في أحد حواراته أن على الحب ألا يتكرر، لأنه حين يتكرر يموت أو يصبح غزلاً، يرى في حوار آخر أن كل حب هو ترنح دائم بين اللقاء والفراق، الاتصال والانفصال. ثم يشير في حوار ثالث إلى كون الجسد ليس واحداً بل كثرة، وليس ثباتاً بل صيرورة، وأن كل جسد قارة، تصغر وتكبر.

وإذا كان من المتعذر الاستدلال بكل ما كتبه الشاعر في مجال الحب والعشق، فيكفي أن نتوقف ملياً عند قصيدته المميزة «تحولات العاشق»، المتضمنة في مجموعته «كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل»، لكي نتيقن من أن اعتناقه مبدأ التحول الهيروقليطي قد انعكس على نحوٍ واضح في ثنايا هذا السفْر الفريد ومناخاته. إضافة إلى احتفاء القصيدة بالجسد المعشوق، وتعبيراته الحسية التي تتعدى السطوح الظاهرة، لتتلمس طريقها التأويلي وسط غابة من الرموز والتعارضات المتداخلة.

ولعل في تمهيد أدونيس لقصيدته، عبر استشهاده بالآية الكريمة «هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ»، وبقول القديس بالاماس «الجسد قبة الروح»، ما يصيب هدفين اثنين في آن واحد. فهو يؤكد من جهة على تفاعله الإيجابي مع النص الديني بشقيه الإسلامي والمسيحي، ويلفتنا من جهة أخرى إلى أن الأديان في بعدها الأعمق، تحرص على التعامل مع الجسد الإنساني بوصفه وديعة الخالق في الأرض وصنيعته المثلى. وهي بالتالي لا ترذله بذاته، بل حين يصبح أداة للنزق الصرف، والانحلال الغرائزي الحيواني.

ولأن الكتابة عند أدونيس هي حالة تأرجحٍ خلاق بين اللاوعي والوعي، أو هي لاوعي يعي نفسه، فإن مقطع القصيدة الاستهلالي «كان اسمها يسير صامتاً في غابات الحروف، والحروف أقواس وحيوانات كالمخمل»، ليس عملاً من أعمال التداعي الحر. فهو إذ يشير إلى المرأة المعشوقة بوصفها اسماً، يبدو وكأنه يحرص على الخلط السحري، على طريقة البدائيين، بين الاسم والمسمى، ويحول الجسد وفعل الحب إلى رموز محقونة بأمصال شهوانية الطبيعة والمنشأ.

وإذ تحتشد القصيدة بأشكال من الثنائيات المتقابلة أو المتداخلة، مثل ثنائية الجسدي والروحي، الحسي والرؤيوي، التأليف الحاذق والتداعي الهذياني، وصولاً إلى ثنائية الحب والموت، لا يتأخر أدونيس في التركيز على الثنائية الأخيرة. فالزهر الذي يرقص في مطلع قصيدته «ناسياً قدميه وأليافه»، يأتي على نحو صادم «متحصناً بالكفن»، في حين يتخذ العالم شكل «بقايا وليمة لنهارٍ مرض ومات».

أما التقابل بين موكب الأفراس البيضاء التي تمتطي السماء، والثعبان الطويل كالنخلة الذي يطارد الشاعر العاجز عن الصراخ، وصولاً إلى الشيخ الجليل الذي بشّره بالوديعة التي ستجيره، والطفلة التي تجبر الثعبان على الهرب، فلا تمكن قراءته إلا في السياق الفرويدي لشفرات الأحلام، حيث الأفراس البيضاء ترمز إلى السمو الروحي، وحيث تتوزع رمزية الثعبان بين إغواء الشهوة والخوف من اقترافها، فيما شكّل النكوص باتجاه الطفولة الممر الإجباري لتجريد الحب من العقَد والشوائب.

ورغم أن جان طنوس يقدّم في كتابه «الوجه الآخر لأدونيس»، قراءة عميقة للقصيدة تعتمد على التأويل والتقصي النفسي، فإن ترجيحه لأن يكون الثعبان رمزاً «للأب الظالم الذي يلدغ طفله»، ليس في محله، خاصة أن علاقة الشاعر بأبيه، كما تكشف نصوصه وحواراته، كانت وثيقة جداً وأقرب إلى الصداقة منها إلى الهيمنة الأبوية. والأمر نفسه ينسحب على التأويل غير المقنع لرمزية الطفلة، التي رأى طنوس في نصرتها للأب الشاعر ما يرمز إلى تعلقها الآثم به، أو توجسها من الدخول معه في علاقة محرمة؛ ذلك أن من يكتب النص أو يسرد الرؤيا هو الشاعر وليس الطفلة، وأي تفسير للحلم ينبغي أن يُلقى على عاتق الحالم لا المحلوم به.

على أن أدونيس الذي رأى إلى الشعر بوصفه تموجاً في أوقيانوس اللغة الشاسعة، كان يدرك أن قصيدته الملحمية لا يمكن أن تدور على محور واحد أو حالة رتيبة ومكررة. وهو ما يفسر التفاوت الواضح بين المستويات البنائية والنفسية للتعبير، إضافة إلى توزع الخطاب العشقي بين ضمير الغائب «كان اسمها يسير صامتاً»، وضمير المخاطب «تكبرين في الجهات كلها»، إضافة بالطبع إلى ضمير المتكلم الذي يرسم حدود مقامات العشق وأحواله، ويوزع الأدوار.

كما أن توزيع القصيدة إلى مقاطع مرقمة، يدور كل منها في فلك منفصل ومتصل في الآن ذاته، يأتي مترافقاً مع تعدد أزمنة الكتابة، تفاعُلاً قلقاً مع اللحظة الهاربة، أو تقدماً إلى الأمام، وتراجعاً إلى الوراء. وهو ما طبع بعض المقاطع بطابع سردي، قوامه استدعاء اللحظات القادمة من الماضي، لرفد الحاضر بما يحتاج إليه من النيران:

رافقتكِ إلى المدرسة

سرقتْ خطواتنا أجراس العتبة

جلستُ إلى يساركِ في الصف

نمتُ بين أهدابكِ وما رأيتك

ثيابكِ الأقاليم والفصول دربكِ إلي

وخلافاً لما عهدناه في معظم قصائد العشق العربي، التي كانت تمر تلميحاً على الجوانب الحميمية من علاقات الحب، لا يتردد أدونيس في الكشف عن تلك الجوانب، حيث يبدو التناغم على أشدّه بين عصب اللغة ومنسوب التوتر العاطفي. وفي إطار الازدواجية القائمة بين النصين اللغوي والجسدي، يمكن لنا أن نفهم قول الشاعر:

كتبتكِ على شفتيَّ وأصابعي

حفرتكِ على جبيني ونوَّعتُ الحرف والتهجيةَ

وأكثرتُ القراءات

أيتها المرأة المكتوبة بقلم العاشق

سيري حيث تشائين بين أطرافي

وفي إطار التناص الجلي بين اللغة والجسد، يمكننا تعقُّب الدورة المتجهة صعوداً لفعل الحب وطقوسه، حيث يتم التعامل مع الآخر بوصفه القارة المجهولة التي ترغب أنا العاشق في اكتشافها. وإذ يهتف العاشق بمعشوقته «أحكمي عقدة الجفون»، فلأن في كل حب حقيقي، ما يخترق الحواس نفسها لتتكفل البصيرة بمهمة البصر، وليصبح المرئي طريقاً لغير المرئي، وصولاً إلى المماهاة الكاملة بين منتهى العناق ومنتهى اللغة:

اغتربَ الجسد، مسَّه التحول وجع المفاصل نبض الأطراف

هندسة العضل وأبّهة الفعل، الانقباض التقلص الانفساح،

مهابط الجسد مصاعده سهوله ومدارجه،

أرض الخاصرة المليئة بالنجوم وأنصافها...

أما عبارة «هكذا يقول السيد الجسد» التي تتكرر في نهاية كل مقطع، فهي بمثابة تأكيد إضافي على ما بين الجسد واللغة من وشائج، وعلى أن جسد العاشق هو «أبجديته الأولى» السابقة على الكتابة. وقد تكون الرغبة في الإنجاب هي إحدى هذه الرسائل، خاصة أن ثمة إشارات إلى «الغيوم الحبلى التي تموت وتترك أطفالاً»، وإلى الاستعارة المتكررة لصورة الرجل الماء والمرأة الأرض. وفيما تتصل الرسالة الأخرى بكون العشق لقاء ندّياً بين شخصين متحابين، تتنامى القصيدة في مناخ من الجدل التفاعلي بين الحضور والغياب، العاطفة والرغبة، المسافة والانصهار.

ولأن العاشق في نصوص الحب هو الحاضر بفاعلية، والممسك بزمام السرد، فيما يلازم المعشوق خانة الغياب، فإن الحوار الذي أقامه أدونيس بين طرفي المعادلة، والمتمثل بالسؤال المتبادل «لماذا تزوجتني»، يبدو بمثابة محاولة رمزية لإشراك الطرف الصامت في لعبة السرد، وللتأكيد على مقولة رامبو «أنا آخر»، في الوقت ذاته.

ولا بد من أن نلاحظ أخيراً أن في «تحولات العاشق» من الطبقات التعبيرية والنفسية المتغايرة ما يجعلها مزيجاً متفاوت المقادير من العصف الداخلي الديونيزي، والهندسة الأسلوبية الأبولونية. وهي في محصلتها النهائية محاولة مضنية لاكتشاف «قارة الأعماق»، عبر لغة كثيفة ومحتشدة بالرموز، وفوق مسرح من التوله العشقي، تحدّه الأنوثة المطلقة من جهة، والموت من جهة أخرى. وهو ما يختزله أدونيس بالقول:

الحلم شجرة

الشجرة امرأةٌ ومستقبل امرأة

تنقصني أرض ثانية لأضيف إلى لغتي كلمات جديدة

ينقصني الموت

(عدم إغفال ثنائية العاشق المتكلم والمعشوقة الصامتة، أو الدمج بين الديونيزي والأبولوني).


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.