محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

الأديب التونسي تعلم بلاغة التدوين من أهازيج والدته

 محمد عيسى المؤدب
محمد عيسى المؤدب
TT

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

 محمد عيسى المؤدب
محمد عيسى المؤدب

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

وعبر رواياته الخمس السابقة «في المعتقل»، «جهاد ناعم»، «حمّام الذهب»، «حذاء إسباني»، «بلاص دِيسكا»، ينشغل المؤدب بقضية الهوية بعدّها مسألة وجودية تخص حاضر ومستقبل الأوطان، و«ليست ترفاً آيديولوجيا يمارسه بعض المثقفين في أوقات فراغهم؟

هنا حوار معه:

> رغم تنوّع حكايات الشخصيات في روايتك الأخيرة «الجندي المجهول» لكنها تلتقي في سمة واحدة عنوانها العريض الألم والفقد والوحدة في مواجهة مناخات قاسية إنسانيّاً... ألم تتخوّف من زيادة جرعة الحسّ المأساوي في النص؟

- في الحقيقة أتجنّب في رواياتي ما أعدّه «نكداً»، واستدعائي ذوات مُختلفة أو مُتنوّعة نفسياً وثقافيّاً يندرجُ في إطار تنوّع طرق مقاومة الألم بأشكاله المُختلفة. وما تُعالجه الرّواية هو التّناسق أو ما اُسمّيه التّعايش بين مقاومة ذوات شعبيّة مهمّشة ومقاومة بلد، هو تونس. هذا البلد ظلّ يتصدّى للحركات الاستعماريّة منذ القرن السّادس عشر ميلاديّاً: الإسبان، العثمانيّين، الفرنسيّين، والمتطرّفين، فكيف لا تنتصرُ هذه الذّوات في نهاية الأمر؟

من سيقرأ الرّواية فسيعرفُ أنّ حضور الحسّ المأساوي موظّف في سياق البناء العام، أو ما تتطلّبه الحبكة الفنيّة، فالحريّة ليست معطى جاهزاً، وإنّما هي تُفتكّ من فم العبوديّة، وكذلك السّعادة، لا يُمكن أن نتلذّذ بالسّعادة إلّا بعد رحلة مُقاومة للألم.

> تحوّل قبر الجندي المجهول في العمل إلى بطل يُطلّ من شرفة التّاريخ عبر تجارب وأجيال ومشاعر... ما المعنى الذي أردت توصيله من خلال ذلك القبر الذي حار البعض في تأويل رمزيته؟

- تطرحُ الرّواية سؤالاً مركزيّاً: من الجنديّ المجهول الذي تتحدّث عنه الرّواية، الذي يقبعُ قبره في قلب أحد أنهج المدينة العتيقة، ويتبارك به التجّار والسكّان، كما رفضوا إزالته رغم جهلهم بمن يكون؟ شخصيّاً حيّرني هذا القبر عندما كنتُ أمرُّ بسوق «السكّاجين» بتونس العاصمة، لم أعثر على مُدوّنة تاريخيّة تُعرّف به، وتُزيل الغموض حوله. كلّ ما صادفني مجرّد حكايات شفويّة مُتنوّعة لا تُقدّم معلومة أو شخصاً محدّداً، هي أقرب للخرافة وللأسطورة، وفي الرّواية تحوّل إلى بطلٍ فعلاً يُحرّك الأحداث عبر تجارب أجيال على امتداد مئات السّنين.

شخصيّاً أعجبني ما قاله الإعلامي والرّوائي التونسي ماهر عبد الرّحمن عن الجندي المجهول بعد أن قرأ الرّواية: «إنّه الجنديّ الرّمز رغم اختلاف الرّوايات حوله. فمع مسارد السّرد، نكتشف كلّ مرّة شخصيّة جديدة. وفي الأخير، نفهم أنّ ذاك الجندي المجهول، وبغضّ النّظر عمّن يكون حقيقة، ليس سوى ذاك المواطن التّونسيّ الذي يظلّ مجهولاً، لكنّه هو الذي كان ينتقم دائماً للشّرف التّونسي، والتّراب التّونسي من المستعمرين».

> تتّخذ بعض الشخصيّات من الحكي والتّدوين وسيلة لمواجهة الحزن... إلى أي حدّ ترى في الأمر استراتيجيّة ناجعة، وهل تفعل الأمر نفسه في حياتك مؤلّفاً؟

- في ذاكرتي صورة أمّي رحمها الله تُدير الرّحى التّقليديّة لطحن الحبوب وهي تُردّدُ بعض المواويل والأهازيج الشّعبيّة، كنتُ أُتابعها بشغفٍ وأحفظ الكثير ممّا كانت تُردّده، ثمّ عرفتُ أنّها كانت تتخفّفُ من تعبها وأحزانها بذاك الغناء الشّعبي الذي وظّفتُه في العديد من قصصي القصيرة. أنا نفسي وجدتُ مع الكتب، ثمّ مع الكتابة شرفةً، أو شرفاتٍ، لمواجهة الأحزان وتعكّرات الحياة.

لا أدري ماذا كنت سأفعل خارج عالم الكتب، أو خارج عوالم الخيال، أو الحيوات البديلة التي تُسعفنا بالكثير من الحلول. تُقدّم لنا الكثير من الشّخصيّات أيضاً جرعات سعادة حقيقيّة، وفعلاً أعيش هذا مع شخصيّاتٍ من داخل رواياتي، مع نساء، أو مع أبطال خاضوا تجارب ومغامرات، مثل شخصيّة الضّابط الإسباني مانويل قريقوري في روايتي «حذاء إسباني»، فقد هرب من ديكتاتوريّة فرانكو ومن أهوال الحرب الأهليّة الإسبانيّة عام 1939، واستطاع هذا البحّار أن ينتصر على الخوف والموت بالفنّ والكتب وقصائد غارسيا لوركا وكذلك بالحبّ.

> يبدو التاريخ التونسي حاضراً بقوّة في أعمالك ويلقي بظلاله، بشكلٍ أو بآخر، على الحاضر...

- فى رواياتي الستّ اشتغلتُ على مواضيع شائكة وخطيرة، تاريخيّاً وجغرافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. كتبتُ عن آفات عميقة مُتغوّلة تمزّق نسيج الهويّة التونسيّة لتُكرّس الجهل والتخلّف والعنف والكراهية. هناك كراهية غريبة لمفاهيم الدّولة والمواطنة والحريّة والمرأة وجنوح إلى تعميم التطرّف والعنف. نحن أمام خطر حقيقي، خطر تدمير الهُويّة والمصير، لذلك فإنّ التاريخ حاضر بقوة في أعمالي.

> إلى أيّ حدّ تأثّرت أدبيّاً بنشأتك في بلدة «صاحب الجبل» القريبة من «الهوارية» التي حظيت بأهميّة لافتة في عهد الإمبراطوريّة الرومانيّة، كما أنّها لا تبعد كثيراً عن جزيرة صقليّة الإيطاليّة وتتمتّع بخصوصيّة نادرة من حيث الطبيعة؟

- بالفعل تتمتع المنطقة بخصوصيّة نادرة، فبالإضافة إلى المغاور البونيقيّة وصخورها التي نُقلت عبر البحر لتشييد مدينة قرطاج، هناك البحر والجبل والغابة، هذا الثّلاثي يشكّل ملحمة طبيعيّة نادرة في شمال الوطن القبلي التّونسي. وكنت قد وثّقت الكثير من مواطن السّحر والجمال والأسرار تلك في روايتي «جهاد ناعم» التي صدرت عام 2017... والواقع أنّني تأثّرتُ أدبيّاً أكثر بمدينة «قليبية» القريبة من الهوارية، فهي مدينة ساحرة وعظيمة بتاريخها وثقافتها وطيبة أهلها المتنوّعين، ولعلّي خلّدتُ كلّ ذلك في رواية «حذاء إسباني» التي صدرت عام 2021.

> جاءت بدايتك الواعدة في التّسعينات عبر مجموعتين قصصيّتين هما «عرس النّار» و«أية امرأة أكون؟»، لكنّك توقّفت فجأة عن النّشر لمدة 14سنة... ما السبب؟

- أنا مدين للرّوسيّيْن مكسيم غوركي وأنطوان تشيخوف، فقد قادتني الصّدفة إلى أعمالهما العظيمة بمكتبة كتب قديمة بـ«نهج زرقون» بتونس العاصمة، وانطلاقاً من ذلك شغفتُ بالقصّة القصيرة، وزاد هذا الشّغف أيّام دراستي عند أستاذي الجليل توفيق بكّار بكليّة الآداب، فقد كان يدرّسنا قصص علي الدّوعاجي الذي أعدّه أبا القصّة القصيرة في تونس. وبالفعلِ نشرتُ مجموعتين قصصيّتين، وكانت رغبتي في أن أُواصل الكتابة في هذا الفنّ، لكنّ مُحاولة «تدجين» مجموعتي القصصيّة الثّالثة وعنوانها «هِيلينا» نفّرني من الكتابة والنّشر، وكان من المفروض أن تُنشر عام 2000، لكنّها لم تُنشر. فكيف أكتبُ وأنشرُ في ظروف نفسيّة وسياسيّة خانقة؟

> هل دفعك كل هذا إلى اللّجوء للرّواية فيما بعد؟

- في الواقع لم تكن القصّة القصيرة في تجربتي مجرّد محطّة عبور، الأمر مُرتبطٌ أساساً بتغيّر القناعاتِ وتطوّرها في ظلّ مُتغيّرات العالم، ومُرتبطٌ بمشروع الكتابةِ أيضاً، أعتقدُ أنّ القضايا المُتفجّرة بعد ثورة 14 يناير(كانون الثاني) 2011 في تونس، وبعد ذلك في الكثير من البلدان العربيّة، لا يُمكن أن تستوعبها القصّة القصيرة، لذلك كانت الرّواية ملاذي.

> بعد توالي أعمالك الروائيّة تباعاً وسط احتفاء نقديّ وإعلاميّ... برأيك، ما الهاجس الذي كان المحرّك الأوّل لديك في إنتاج كلّ تلك الأعمال؟

- لعلّ الهاجس الأكبر هو المشروع في حدّ ذاته، وأعني مشروع الكتابة الرّوائيّة الذي طرحتُ من خلاله سؤال الهوية التّالي: من أنا ومن نحن بعد الثّورات العربيّة؟ لقد سعى «المشروع الإخواني» في تونس ومصر وغيرهما من البلدان العربيّة إلى طمس معالم الهويّة وتكريس ثقافة بديلة تقوم على العنف والتطرّف ومحو الشّخصيّة. صدمني الواقع التّونسي والعربي بعد تلك الثّورات وكان لا بدّ من تفجير الأسئلة الحارقة في الكتابة الرّوائيّة.

> تمارس أيضاً النّقد الأدبي إلى جوار الكتابة الرّوائية... ألا تخشى من أن تؤثّر تلك الممارسة سلباً على إبداعك الأدبي؟

- انشغلتُ بالنّقد الأدبي طوال سنوات، وكانت قناعتي ألّا أُطيل في تعايشي معه، لذلك اكتفيتُ بإصدار كتابٍ واحدٍ عنوانه «نصوص منسيّة في الأدب التّونسي الحديث». وبالفعل، علينا أن نختار، بين مُطاردة تطوّر الأطروحات النّقديّة، والكتابة الرّوائيّة، واخترتُ الكتابة بتعميق أسئلتها داخل مشروع روائي يقوم أساساً على فكرة الهوية.

> كيف ترى تجلّيات فن الرّواية على السّاحة التّونسية حاليّاً، بما له وما عليه، وهل نال برأيك الأدب التّونسي المعاصر ما يستحقّه من تقدير واحتفاء... أو أنّه «ضحيّة» ابتعاده الجغرافي عمّا يُسمّى «مراكز الثّقافة المشرقيّة التّقليدية» مثل القاهرة وبيروت؟

- الرّواية التّونسيّة شهدتْ انفجاراً كبيراً بعد ثورة 14 يناير 2011، لم تُسقط الثّورة نظاماً سياسيّاً فقط وإنّما أسقطتْ كذلك «تابوهات» كثيرة ظلّت جدراناً سميكة أمّام الإبداع والفنّ بشكل عام. في الحقيقة، لا أُومن بمفهومِ «الضحيّة» في الأدب، الأدب الجيّد والمُكتمل والرّاقي يصل إلى الجميع. طُرحتْ هذه المسألة في القديم، مع بداية القرن العشرين، لكنّنا اليوم إزاء ثورة اتصالات تُلغي كلّ الحدود والمسافات، والرّواية التّونسيّة خرجت من ضيقها، وصارت تُنشر بدور نشر معروفة، بالقاهرة وبيروت.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.