في كتابه الصغير الجميل «فجر القصة المصرية» (1959)، يذكر يحيى حقي أنه وأبناء جيله من كُتاب الأقصوصة والرواية في العقود الأولى من القرن العشرين فُتنوا بالأدب الروسي؛ لأنهم وجدوا فيه ما يجاوب المزاج الشرقي مشبوب العواطف: فهو أدب يتحدث عن الشهوة والتطهر، الخطيئة والتوبة، الشياطين والملائكة، الإثم والغفران، الإيمان والشك.
وغدت أسماء مثل راسكولينكوف، بطل رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب»، وبطلات رواياته الأخرى وشخصيات تولستوي، مثل سونيا، وناتاشا، وآنا كارنينا وماسلوفا أيقونات رومانسية تستدر الدمع من أعين القراء والقارئات.
وفي عقود لاحقة تُرجمت نماذج كثيرة من الأدب الروسي إلى اللغة العربية: رواية سانين لأرتز باشيف (إبراهيم المازني)، وروايات دوستويفسكي (ترجمة الدبلوماسي السوري سامي الدروبي)، الأجزاء الأولى من «الحرب والسلام» لتولستوي (إدوار الخراط)، و«دخان» لتورجنيف (شكري عياد)، أقاصيص تشيخوف (محمد القصاص)، مسرحية تشيخوف «الشقيقات الثلاث»، علي الراعي (مع مقدمة ممتازة بقلم المترجم)، قصائد باسترناك (أدونيس)، قصائد يفتشنكو (صلاح عبد الصبور)، «غيمة في بنطلون» لمايا كوفسكى (رفعت سلام). وتزامنت هذه الترجمات مع كتب كاملة وفصول ومقالات عن أعلام الأدب الروسي بأقلام نقاد وباحثين من مختلف البلاد العربية، خاصةً في فترة صعود المد الاشتراكي في خمسينات القرن الماضي وستيناته.
والأعمال المذكورة أعلاه أمثلة لثراء الأدب الروسي قصاً وشعراً ومسرحاً ونقداً منذ العصور الوسطى حتى يومنا هذا.
وهذا الأدب موضوع سفر ضخم في أكثر من تسعمائة صفحة (لا عجب أن يكون ثمنه مائة وعشرين جنيهاً إسترلينياً!)، صدر في الفترة الأخيرة عن مطبعة جامعة كمبردج تحت عنوان «تاريخ كمبردج الجديد للأدب الروسي»، وشارك في تحريره سيمون فرانكلين، وربيكا ريتش، وج. ويديس Simon Franklin، Rebecca Reich، G. Widdis (eds.)، The New Cambridge History of Russian Literature
الكتاب، كما يقول دراليول في ملحق «التايمز» الأدبي (2 مايو/أيار 2025) أول كتاب عن تاريخ الأدب الروسي باللغة الإنجليزية في القرن الحادي والعشرين. لقد سبقه في أواخر القرن الماضي كتاب عنوانه «تاريخ كمبردج للأدب الروسي» (1989) حرَّره تشارلز موزر. والفرق بين الكتابين هو ما يلي: مضت ثلاثة عقود على ظهور كتاب موزر، وهى فترة جرت فيها أمور مثل غزو روسيا لأوكرانيا في 2022، وظهرت أصوات أدبية جديدة، وتغيرت تقنيات الكتابة والطباعة والنشر. كان كتاب موزر يتبع مساراً زمنياً، ويقسم الأدب إلى حقب: الجذور الدينية والفلكلورية للأدب، ثم الأدب السوفياتي الخاضع لسيطرة آيديولوجية الدولة. أما هذا الكتاب الجديد، فيؤكد أن الأدب الروسي ليس معطى ثابتاً محدداً زمنياً، وإنما هو أشبه بفضاء متغير الحدود وقابل لأكثر من تعريف، وينبغي النظر إليه من زوايا متعددة يكمل بعضها بعضاً.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام رئيسة، كل قسم منها يشتمل على عدد من المقالات الطويلة، بالإضافة إلى ثلاثين مقالة قصيرة.
القسم الأول يحمل عنوان «حركات»، ويوضح أن الطابع الديني للأدب الروسي في العصور الوسطى كان قاسماً مشتركاً بين روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء.
والقسم الثاني «آليات»، يوضح دور المؤسسات التي ساهمت في صياغة الأدب، مثل الدير والبلاط القيصري وآليات النشر منذ المطبعة حتى الشبكة العنكبوتية ودور الرقابة والسوق.
والقسمان الثالث «أشكال» والرابع «أبطال»، وهما دراسة معمقة لأهم تيارات الأدب الروسي نثراً ونظماً والأنماط البشرية المتواترة فيه، وما تثيره الهجرة من مشكلات لغوية وثقافية وحضارية.
وأهم المحطات التي يتوقف عندها الكتاب أربعة أدباء: نقولاي غوغول، وألكسندر بوشكين، وليو تولستوي وفيودور دوستويفسكي.
فغوغول صاحب قصة «المعطف»، وهو الروائي الذي قيل إن كل الأدباء الروس خرجوا من تحت معطفه مثلما قيل إن كل الأدب الأميركي خرج من تحت معطف مارك توين صاحب رواية «هكلبري فين». وولد غوغول في أوكرانيا، وعمل موظفاً كتابياً، وكذلك - لفترة قصيرة - أستاذاً للتاريخ بجامعة بطرسبرغ. وقد أدان الفساد البيروقراطي في مسرحيته «المفتش الحكومي»، وصور الاضطرابات النفسية والعقلية «مذكرات مجنون»، وجنح إلى الإغراب الفانتازي الذي يكاد يكون سيريالياً في قصته «الأنف».
أما بوشكين، فهو أعظم شعراء اللغة الروسية وكان غزير الإنتاج شعراً ونثراً، واسع الاطلاع على أدباء أوروبا مثل شكسبير وبايرون وولتر سكوت. ومن أهم أعماله «يوجين أونيجين» (رواية منظومة)، و«الفارس البرونزي»، و«نافورة الدموع» (ترجمت الدكتورة مكارم الغمري، أستاذة اللغة الروسية بكلية الألسن بالقاهرة، هذا العمل الأخير إلى اللغة العربية).
ويتقاسم تولستوي ودوستويفسكي عرش الرواية في عصرهما. الثاني يمثل الرواية الدرامية حتى ليُعدّ من بعض الوجوه مرهصاً بالوجودية المعذبة بقضايا الهوية، والعلاقة بالآخر، والإيمان والإلحاد.
وتتمثل هذه الاهتمامات على أوضح الأنحاء في رواياته «الجريمة والعقاب» و«الإخوة كارامازوف» و«مذكرات من تحت الأرض».
أما تولستوي، فهو ممثل الرواية الملحمية التي تنبسط زماناً ومكاناً لتغطي رقعة واسعة من المواقف والشخصيات وكأنه هوميروس العصر الحديث. وأهم أعماله «الحرب والسلام» وهي ملحمة تاريخية عن الحروب النابوليونية، و«آنا كارنينا» التي تصور حب امرأة متزوجة لضابط شاب ونهايتها الفاجعة انتحاراً تحت عجلات قطار. وقد استوحى تولستوي هذه الرواية الأخيرة من حادثة واقعية لم تكن تبعد عن منزله إلا بأميال قليلة.
وليس من قبيل المصادفة أن ينتمي هؤلاء العمالقة الأربعة إلى قرن واحد هو القرن التاسع عشر. فقد كان ذلك القرن هو العصر الذهبي للأدب الروسي. وقد اقترن – كما يقول ماهر نسيم في كتابه «لمحات من الأدب الروسي» (1958) - بإلغاء نظام الإقطاع، والشغف بالعلم، والإقبال على العمل، والرغبة في الارتقاء، والإفادة من منجزات الغرب الأوروبي علماً وفكراً وفناً.
وإذ يدنو القارئ من ختام هذا السفر الضخم لا يملك إلا الشعور بأن الأدب الروسي اليوم في مرحلة أفول، ويكاد يخلو من أي إنجاز عظيم خاصةً بعد عقود من الديكتاتورية الشيوعية التي خنقت كل فكر حر وكل تجريب في الشكل الفني.
وفي ظل الأوضاع السياسية القلقة الراهنة – الحرب مع أوكرانيا بعد الحرب في أفغانستان - يحتمل، كما يقول دراليول، أن يزداد عدد الكُتَّاب الروس الذين يتركون بلدهم ليعيشوا في بلاد أخرى. ولكن هذا كله يظل من قبيل الرجم بالظنون.
وقد نشهد مولد عبقرية أدبية مفاجئة من حيث لا نحتسب.