«نجمة أغسطس» و«أميركانلي»... قمع الفرد بين نظامين

مقاربة صنع الله إبراهيم للصدام الحضاري بين الشرق والغرب متميزة عما عداها

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم
TT

«نجمة أغسطس» و«أميركانلي»... قمع الفرد بين نظامين

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم

حين كنت مشغولاً بالبحث في موضوع تمثُّلات الغرب في الفكر العربي الحديث، خصوصاً في الفن الروائي، وهو البحث الذي نتج عنه كتاب لي في هذا الموضوع باللغة الإنجليزية، لاحظتُ مقاربة لصنع الله إبراهيم متميزة عن كل ما عداها فيما اطلعت عليه من عشرات المقاربات لموضوع اللقاء أو الصدام الحضاري بين الشرق والغرب في الرواية العربية، وهو الموضوع الذي يمكن أن نقول إن توفيق الحكيم أرسى قواعده في روايته الشهيرة «عصفور من الشرق» المنشورة سنة 1938. قام التقليد على أسس كنائية بحيث ترمز الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي عادة رجل إلى الشرق، بينما ترمز الشخصية الرئيسية النسائية إلى الغرب، ومن خلال التفاعل بينهما يصور الكاتب طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، ويبرز القيم المختلفة للحضارتين، كما تتبدى من سلوك الشخصيتين. وعلى هذا النسق اقتفى آثار الحكيم كثيرون من جيله ومن بعد جيله في مصر وفي غيرها. أما صنع الله إبراهيم فقد سلك مسلكاً مختلفاً تماماً في روايته «نجمة أغسطس».

نُشرت الرواية سنة 1974 وإن كان صنع الله إبراهيم يخبرنا أنه بدأ كتابتها في 1966 وإن لم يتمها حتى 1972 - 1973. تدور الأحداث في مدينة أسوان في جنوب مصر خلال سني تشييد السد العالي، معجزة الإنسان المصري المعاصر، حسب دعاية الدولة في ذلك الوقت، التي قارنت المشروع ببناء المصريين القدماء للأهرام. من الناحية السياسية كان بناء السد تحدياً للغرب بعد أن رفض البنك الدولي بإيعاز من أميركا تمويل المشروع عقاباً لمصر على تقاربها آنئذ مع دول الكتلة الشرقية في زمن الحرب الباردة. «نجمة أغسطس» هي في جزء كبير منها رواية وثائقية، وهو أسلوب في الكتابة أثير عند صنع الله إبراهيم. تسجل الرواية في شيء غير قليل من التفصيل وفي نثر يتسم بالحيدة التقريرية عمليةَ بناء السد في المرحلة الوسطى بعد تحويل مجرى النيل. ويُذكر أن الوصف قائم على معاينة شخصية للكاتب خلال زيارة قام بها للموقع في صيف 1965 وكان سبق له أن سجلها في كتاب غير قصصي بعنوان «إنسان السد العالي» اشترك في كتابته مع آخرين ونُشر سنة 1967.

على أن «نجمة أغسطس» ليست بحال من الأحوال رواية احتفائية. هي على العكس رواية مهمومة بالقمع السياسي، حيث نجد الكاتب يداول في فصولها بين وصف الإنجاز العظيم الجاري ومشاهد استرجاعية تصور الراوي، الذي هو أيضاً الشخصية الرئيسية وقناع للمؤلف، في سنوات السجن السياسي والتعذيب، وهو ما نعلم أنه وقع لصنع الله إبراهيم وكثيرين غيره في أواخر الخمسينات ضمن حملة «تطهير» ليساريّ مصر زمنَ عبد الناصر. ويلجأ الكاتب إلى رفد تيمة القمع السياسي عن طريق موازاة مستترة في النص بين فرعون قديم، رمسيس الثاني، الذي شكل الحرص على إنقاذ آثاره من الغرق في مياه السد جهداً مصاحباً للمشروع، وبين الفرعون أو الحاكم المطلق المعاصر، جمال عبد الناصر، الذي كان السد العالي بمثابة الصرح الجديد لتخليد ذكراه أسوة بتماثيل رمسيس الثاني ومعابده. هكذا تطرح الرواية علينا موضوعين متماثلين في القوة، وإن كانا يمثلان مفارقة. أحدهما هو تشييد السد العالي، ذلك الإنجاز العظيم، والآخر هو تقويض روح الإنسان المصري، باني السد، على يد الحكم الشمولي المستبد.

تصاحب تيمة القمع السياسي تيمة أخرى هي الحرمان الجنسي. وليس من المبالغة القول بأن وجيف الرغبة الجنسية المكبوتة لا تكاد تفلت منه صفحة من صفحات الرواية، حيث يبدو الراوي وكل الذكور في الرواية مثل ضوارٍ جنسية تبحث عن فرائس أنثوية بين السائحات في المناطق الأثرية والروسيات العاملات ضمن المشروع الذي قام على الخبرة والمعدّات السوفياتية. ومن هنا يمكن أن نتطرق إلى إسهام الرواية في التقليد الروائي القائم على تصوير اللقاء بين الذات والآخر الذي أشرت إليه آنفاً. الآخر عادة ما يكون امرأة أوروبية غربية لكنه هنا امرأة روسية سوفياتية، ومن ناحية أخرى يمثل الذات الراوي الصحافي الذي يقوم بتغطيةٍ ما في المنطقة لإحدى المجلات. يتسم اللقاء هنا بصبغة جنسية بحتة ويحيط به القلق والخوف، فلا بد أن تبقى العلاقة في الخفاء لأن اكتشافها سيقضي على مستقبل المرأة الروسية ويعني ترحيلها إلى روسيا، وقد لا يخلو من عواقب للراوي أيضاً. هذا هو الموضع الذي عنده تتقاطع تيمة القمع السياسي مع تيمة القمع الجنسي، والذي عنده تتلاقى الثقافة الشمولية السوفياتية (الآخر) مع مثيلتها المصرية (الذات) فتتحدان في حَجْر حرية الفرد. ولا يحدث اللقاء الجنسي بين الراوي والموظفة الروسية سوى مرة واحدة، إذ يتغلب الخوف عندها على الرغبة. أما عبقرية السرد عند صنع الله إبراهيم فتتجلى في تصويره للحظة الفعل الحميم بين الشخصيتين. فهو يزامن بينه وبين العمليات الهندسية الجارية في موقع العمل الجبلي، مستخدماً تعابير رمزية موظّفة ببراعة تحوّل الفعل الحميم إلى عملية ميكانيكية خالية من العطف الإنساني. هي تجرد «فعل الحب» من الحب وتدمجه في المنظومة الشمولية الأكبر التي ينتمي إليها كلا النظامين، النظام السوفياتي والنظام المصري في عصر عبد الناصر، وكأن الاتحاد الآلي بين الرجل والمرأة ليس إلا جزءاً من التعاون الهندسي في المشروع الكبير بين النظامين.

على خلاف نماذج اللقاء الحضاري في الأعمال الروائية السابقة على صنع الله إبراهيم، مثل «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، حيث يرمز الرجل المصري إلى الشرق وتقاليده الروحية وترمز المرأة الأوروبية إلى الغرب وحضارته المادية مما يجعل الذات والآخر في حالة تضاد وتنافر، فإن الأمر ليس كذلك في مقاربة الروائي للموضوع في «نجمة أغسطس». اللقاء بين الذات والآخر ليس هنا بين المصري والأوروبي الغربي الديمقراطي الحر، ولكن بين الذات المقهورة تحت حكم سلطوي شمولي في مصر والآخر الروسي الخاضع أيضاً لحكم شمولي سلطوي في الاتحاد السوفياتي، حيث الفرد في كلا النظامين مقموع والحرية السياسية مفقودة، والسجون والمعتقلات مفتوحة للمخالفين. المفارقة هنا أنه بدلاً من التنافر بين الذات والآخر، كما رأينا في أعمال السابقين على صنع الله إبراهيم، فإن الاضطهاد المشترك هنا يصبح عنصر مؤالفة بين الفردين. يصبح وسيلة لإدراكهما إنسانيتهما المشتركة عبر الاختلاف الثقافي.

تطرح «نجمة أغسطس» موضوعين متماثلين في القوة أحدهما تشييد السد العالي والآخر تقويض روح الإنسان المصري

على أننا نجد الكاتب يعود بعد أكثر من ثلاثين سنة إلى موضوع اللقاء الحضاري في روايته «أميركانلي» (2003)، حيث الآخر الآن هو الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفياتي الذي كان قد انحلَّ ككيان سياسي في 1991 مفسحاً المجال للهيمنة الأميركية على العالم بلا منازع. يدور الحدث الروائي في مدينة سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، وتصطبغ الرواية الخالية من الحبكة التقليدية بصبغة وثائقية مثلها في ذلك مثل «نجمة أغسطس» والعديد من أعمال الكاتب الأخرى. ينتهج الروائي هنا أيضاً وجهة النظر المفضّلة عنده حيث يكتب الرواية في صيغة المتكلِّم الذي هو أيضاً الشخصية الرئيسية، فضلاً عن كونه قناعاً شفّافاً للمؤلف، الذي يقضي فصلاً دراسياً في إحدى جامعات المدينة بصفة أستاذ زائر، وهي خبرة تتوازى تماماً مع تجربة الكاتب الشخصية الذي استضافته جامعة كاليفورنيا في بركلي لستة شهور في سنة 2001. في الرواية يجري الأستاذ الزائر سلسلة حلقات بحثية يستعرض فيها التاريخ السياسي الاجتماعي لمصر المعاصرة من خلال تناول نشأته والتعليم الذي تلقّاه وحياته الشخصية والمهنية. ومن خلال النقاشات والعروض البحثية التي يقدمها الطلبة حول موضوعات بعينها إلى جانب التعرض لما يدور من أحداث وقتها خارج قاعة الدرس يبرز مشهد موازٍ لتاريخ الولايات المتحدة وحاضرها في تسعينات القرن العشرين. ومن خلال ذلك كله تتشكل ملامح السيناريو الدولي المعقّد في عصر العولمة وتسلط الشركات الكبرى والسيطرة الأميركية على النظام العالمي، مما يخنق حرية الفرد، سواءً في أميركا أو مصر أو بقية العالم. هذا نوع من الشمولية الشاملة، شديدة التعقيد وبعيدة الأثر والأكثر تغلغلاً من أي نظام سابق في التاريخ. وهو ما يحيلنا إلى التورية الكامنة في عنوان الرواية، «أميركانلي» وهي صيغة تعني «أميركيّ» مشيرة إلى السيطرة الأميركية في الشرق الأوسط وسائر العالم. لكنها أيضاً يمكن فرطها لتصبح «أمري كان لي»، أي كان بيدي ولكنه لم يعد كذلك في ظل الهيمنة الأميركية.

على قدر ما تختلف رواية «أميركانلي» عن «نجمة أغسطس» وعلى الرغم من السنوات الثلاثين التي تفصل بينهما، فإنه من المشغف أن نلاحظ أن قضية حرية الفرد أو بالأحرى قمع الفرد تبقى في مقدمة اهتمام الكاتب، كما هي في مجمل إنتاجه، وأنه في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي حيث تقول الدعاية الغربية أن قيمة «الحرية» قد انتصرت على الشمولية الشيوعية حول العالم، يبقى هو على قناعة لا تلين بأن نوعاً آخر من الشمولية المتغلغلة على نحو أشد قد حلّ محلها في ظل التسيُّد الأميركي على العالم.


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل،

ندى حطيط
ثقافة وفنون من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

«حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «حافة رطبة» للكاتبة المصرية عزة سلطان. وهي تتناول في عمومها المعاناة بصورها المختلفة التي تتكبدها المرأة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  محمد عيسى المؤدب

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «بوتكس» اللغة!

«بوتكس» اللغة!

تعرفت عليه للتوّ، وأنا أجتاز باب مكتبة فرانز فانون بوسط الجزائر العاصمة.

د. ربيعة جلطي

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)
TT

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.