ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟

كل الفلاسفة مؤسسين ومتأخرين «نسوا» الوجود

ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟
TT

ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟

ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟

لكي نفهم بقدر كافٍ ما يُمكن أن تعنيه هذه الجملة الخالدة، لا بد من الرجوع إلى خلفية هذا السؤال الوجودي. فقد اعتادت الفلسفة التقليدية، من أفلاطون إلى ديكارت إلى كانط، أن تتعامل مع الإنسان من زوايا متعدّدة: مرة، بوصفه كائناً عاقلاً، ومرة بوصفه حيواناً ناطقاً، ومرة ذاتاً معرفية تدرك العالم من خارجه. لكن الألمعي العبقري هايدغر رأى أن كل هذه الرؤى تفصل الإنسان عن عالمه، وتختزله في وظيفة أو خاصية، بينما تتجاهل السؤال الأكثر جذرية: ما معنى أن يكون الإنسان موجوداً في العالم؟ هنا يطرح هايدغر مشروعه البديل، ويجيب عن هذا السؤال من خلال تحليل كينونة الإنسان ككل، لا بوصفه نوعاً بيولوجياً أو ذهناً مفكراً.

كل الفلاسفة «نسوا» الوجود وهذا ينطبق على المؤسسين من أمثال أفلاطون وأرسطو، وعلى عظماء المتأخرين من أمثال ديكارت وكانط وهيغل، ونيتشه نسي الوجود بدوره، رغم أنه كان قاب قوسين أو أدنى من لمسه. المقصود بنسيان الوجود عند هايدغر هو أن الفلسفة الغربية، منذ أفلاطون وحتى نيتشه، انشغلت بالكائنات (الأشياء) لا بالكينونة، أي أنها ركزت على «ما هو موجود» الأشياء، الأجسام، الأفكار، الله، النفس، الطبيعة، لكنها لم تسأل عن معنى أن يكون الشيء موجوداً أصلاً.

الفلاسفة كانوا يسألون: ما هو الحق؟ ما هو الخير؟ ما هو الجسد؟ ما هي النفس؟ لكنهم لم يسألوا السؤال الأسبق: ما هو «أن يكون»؟ أو ما معنى الكينونة التي تسمح لتلك الأشياء بالظهور والوجود؟ بهذا المعنى، الوجود لم يُنفَ أو يُنكَر، بل تم افتراضه ضمنياً دون أن يُسأل عنه. وهذا هو «نسيانه»: الوجود ظلّ الخلفية الصامتة التي تقف عليها كل أسئلة الفلسفة، دون أن تصبح هي نفسها موضوعاً للسؤال.

هايدغر يرى أن هذا النسيان ليس مجرد سهو تاريخي، بل هو طريقة في الوجود نفسه، أي أن الكينونة تُخفي نفسها، وتدع الموجودات تتصدر المشهد، ولهذا ظنّ الإنسان أن فهم الأشياء يغنيه عن مساءلة الوجود. لكن نتيجة هذا النسيان هي أننا أصبحنا نتحرك داخل عالم من المعاني الجاهزة، والأنظمة التقنية، والمفاهيم الثابتة، دون أي انفتاح حقيقي على الكينونة بوصفها إمكاناً لا يُختزل.

هايدغر لا يريد أن يردّنا إلى ماضٍ ميتافيزيقي، بل يريد أن نستيقظ من نسياننا الطويل، ونطرح من جديد السؤال الذي نسيه التاريخ: ما معنى أن يكون هناك وجود؟ لماذا لم يكن عدماً بدلاً من الوجود؟ وكيف يكون الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن ينفتح على هذا السؤال؟

«الإنسان المهموم بوجوده»، هو الوحيد القادر على الانفتاح على الكينونة، وأن يطرح سؤال: ما معنى أن يكون هناك كائن أصلاً؟ هذا الإنسان لديه مزايا تختلف عن بقية الكائنات، فهو راعي الوجود، وهو من يسكن العالم بطريقة فريدة.

الإنسان لا يوجد «إلى جانب» العالم كما يوجد الحجر أو الحيوان، بل يعيش في العالم كعالم له. ألقي به من دون رغبته في عالم مليء بالأشياء والآخرين واللغة. يتفاعل مع العالم بما يسميه هايدغر: «الاهتمام»، وهذا «الاهتمام» هو ليس مجرد علاقة عقلية، بل علاقة وجودية: العالم ليس أمامي فقط، بل أنا منخرط فيه، منشغل به، معنيٌ به. هذا الإنسان يعيش الإمكان لا الثبات. من صفة هذا المهموم بوجوده ألا يكون هو/ هو في لحظة معينة، بل هو دائماً مشروع مفتوح على المستقبل. في فكر هايدغر، الإنسان ليس ما هو، بل ما يمكن أن يكونه. يسير نحو ذاته الممكنة، نحو ما يستطيع أن يكونه. إنه ليس كتلة موجودة، بل سيرورة وجودية نحو الإمكان. هذا المهموم بوجوده، عليه أن يكون ذاته دائماً. ما الذي يكشف معنى الإنسان؟ إنه الموت.

في مركز تحليل هايدغر للوجود، يقف الموت لا كحادثة في نهاية حكاية الحياة، بل كإمكان دائم يرافق الإنسان منذ لحظة وجوده. الإنسان يعرف أنه سيموت، وهذه المعرفة تفرده عن كل الكائنات. عليه أن يعترف بموته كأفق لحريته. ألا يهرب من القلق، بل يجعله طريقاً للمعنى. هذه المعرفة ليست نظرية فقط، بل تفتح أمامه الأبواب مشرعة ليظهر عمق حريته. الوعي بالموت يجعله مسؤولاً عن اختياراته، عن أن يكون ذاته بصدق.

هذا الإنسان يمكن أن يوجد بطريقتين: وجود أصيل، عندما يواجه موته، ويعيش إمكاناته بصدق، ويتخذ موقفاً من وجوده. ووجود مزيف «سقوط» عندما يذوب في الناس، ويعيش حياتهم، ويهرب من قلق الموت والمسؤولية. هذا هو «الانغماس في القطيع». هل رأيت ثيران الساقية يوماً؟ يدور الواحد منها ويدور، ثم في النهاية يموت، لم يرَ من الدنيا الشاسعة إلا قفا أخيه، لم يذهب لحظة ليرى ما وراء الأفق، لم يغامر قط باستكشاف ما وراء تلك التلال، ولم يسر يوماً صوب الشمس.

الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن يسأل عن معنى الوجود في النهاية، خصوصية الإنسان تكمن في أنه الكائن الذي، لا يكتفي بأن يوجد، بل يتساءل عن وجوده. يحمل الهمّ الوجودي، ويعيش القلق. ينفتح على الكينونة ولا يكتفي بالكائنات. وكلما انفتح على معنى الكينونة، أصبح أكثر إنسانية.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل،

ندى حطيط
ثقافة وفنون من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

«حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «حافة رطبة» للكاتبة المصرية عزة سلطان. وهي تتناول في عمومها المعاناة بصورها المختلفة التي تتكبدها المرأة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  محمد عيسى المؤدب

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «بوتكس» اللغة!

«بوتكس» اللغة!

تعرفت عليه للتوّ، وأنا أجتاز باب مكتبة فرانز فانون بوسط الجزائر العاصمة.

د. ربيعة جلطي

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)
TT

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.