«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا

بدر الرفاعي يستعيد تفاصيل حميمة في سيرته الذاتية

«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا
TT

«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا

«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا

رغم أن كتاب «حنين إلى الدائرة المغلقة» الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتب والمترجم بدر الرفاعي ينتمي إلى «أدب السيرة الذاتية»، فإنه يعد كذلك صفحة مدهشة من صفحات التأريخ الاجتماعي والنفسي الذي ينطلق مما هو ذاتي إلى ما هو عام، لا سيما على مستوى الانكسارات والانتصارات التي تعرض لها جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه المؤلف. هذا الجيل الذي خرج من عباءة هزيمة 67، وقدم مغامرة جمالية متميزة، ارتكزت على التجريب والبحث عن رؤى جديدة، تركت أثرها في الشعر والرواية والفن التشكيلي، والعمل الثقافي العام.

جاءت سيرة الحنين مكتوبة بلغة سلسة بسيطة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة التي تشكل نسيجاً متفرداً عن مصر في حقب زمنية سابقة مع نبرة شجية لا تخفي تأثرها بحالة عارمة من الحنين للماضي، ليس باعتباره الأفضل بالضرورة، ولكن كفضاء من الذكريات بالغة المعنى والدلالة يطل عليها الكتاب من خلال فتح نافذة جديدة لها.

وتنبع حالة الحنين كون الرفاعي عاش حياة حافلة اختفت أغلب التفاصيل التي يحكي عنها الآن، فجاءت سيرته توثيقاً وإعادة إحياء لزمن انتهى وأناس رحلوا، حيث ولد في عام النكبة 1948، الأب يساري نشط، يعمل سراً ومطلوب دوماً من البوليس ويختفي معظم الوقت، والأم من أسرة متواضعة وتعمل بأحد مصانع النسيج ونشطة في صفوف العمال.

تم طرد الأب من عمله كميكانيكي بسلاح الطيران بسبب نشاطه السياسي وأصبح يعيش على القليل الذي يمنحه له «التنظيم السري». اعتاد الابن منذ وقت مبكر من طفولته على زيارات البوليس السياسي التي كانت ليلية، ولم ير والده بوعي إلا وهو في المدرسة الإعدادية عندما أنهى الأب السنوات السبع الأخيرة في السجن.

يتذكر بدر بصورة ضبابية عندما زار والده وهو صغير «زيارة سلك» في سجن القناطر، حيث تفصل شبكة من السلك بين السجين وزائريه، وكان الأب يرتدي «البدلة الزرقاء». وفي زيارة أخرى، سمع صوته فقط وعن بعد من دون أن يراه، لكنه يتذكر جيداً كيف كان سجن الاستئناف محاطاً بمجموعة من بيوت الأهالي التي تطل على الزنازين مباشرة.

سرعان ما قامت ثورة 1952 ليرى المؤلف بعيني الطفل، ومن بين سيقان الكبار، موكب الرئيس اللواء محمد نجيب وهو يمر بالميدان المواجه لكوبري «الحلوة» الحديدي من ناحية حي «شبرا البلد» بالقاهرة، حيث كان أول رئيس للجمهورية واقفاً في سيارة مكشوفة يحيي الجماهير التي احتشدت لتحيته.

ومع الأيام وجد المؤلف نفسه يرتدي ثوب «المناضل ابن المناضل» وهو ليس كذلك، هو بطبعه لا يحب المسؤولية وليس مقاتلاً وينسحب عند أدنى صدام، لا يحب المواجهة، يهرب ويستسلم قبل أن تبدأ المعركة. هكذا يعترف في شجاعة نادرة، مؤكداً أنه يتعرض للهزيمة قبل أن تبدأ المعركة، لكن شعوره بالواجب يدفعه إلى تحمل تلك المسئولية حتى النهاية.

ارتدى الرفاعي «ثوب النضال» واستمرأه لفترة حتى تعثر وضاق به وعندما قرر خلعه لم يصدقه أحد حتى والده نفسه والذي ظل يحرضه لآخر وقت كي يكون مثله مناضلاً. لم يتصور أنه من الممكن أن يكون لابنه اختيار آخر. الحياة عنده تعني النضال في سبيل القضية، فكيف يخون الابن القضية؟

كان والده يتعامل مع مصيره كقضية مسلم بها بحكم قوانين الوراثة، والنضال في سبيل القضية عنده يعني العمل السري. وفكرة الوالد عن العمل السري كانت مثالية، فهو يقول لابنه طيلة الوقت إن أهم شيء الإخلاص وإنه لو وجد اثنين مخلصين فمن الممكن أن ينشئ تنظيماً قوياً «يقيم الدنيا ويقعدها». أما الابن فقد كان على النقيض، حيث نمت معه الشكوك في كل شيء وكان بطبيعته عندما يُعرض على عقله شيء يظهر نقيضه على الفور وتبدأ دوامة من الصراع العقلي.

يشير الرفاعي إلى أن النضال لم يكن الثوب الوحيد الذي ألبسه إياه الأب والآخرون، وإنما كذلك «ثوب المثقف»، فاليساري يحوز لقب «مثقف» بالتبعية حتى إنه كان يوجد قول شائع يؤكد أن «داخل كل يساري شاعر فاشل». ويوضح أن زاده من القراءة قليل، حتى إنه لا يتذكر متى كان آخر كتاب قرأه حتى نهايته. ومصدره الثقافي الأكبر هو ما ترجمه من كتب، فضلاً عن التأمل في البشر والحياة.

ويعترف المؤلف أنه لا تستهويه الأفكار العميقة، ليس تعالياً وإنما كسل وعدم قدرة، فقد عاش الدنيا بعين الطائر وفاتته التفاصيل وأدرك الأشياء بالكاد، لكنه وعلى الرغم من ذلك وصل مع تقدم العمر ومعايشة الحياة إلى بعض الاستنتاجات؛ منها أن الماضوية كارثتنا الحقيقية وأكبر عائق بيننا وبين الغد، فكل أبواب عقلنا مغلقة ما عدا ذاك الباب المؤدي إلى الماضي، فكيف لشعب أن يصنع مستقبله وهو يتطلع إلى الماضي المجيد؟

ومن تلك الاستنتاجات أن الآيديولوجيا داء يستوجب العلاج، فهي تعني ضمن ما تعنيه التعصب الفكري الذي كان دائماً ما يحذر منه ولديه وابنته قائلاً: «إياكما والتعصب لفكرة مهما كان نبلها».

ويشير الرفاعي إلى العديد من «القفزات» التاريخية والحضارية التي كان شاهد عيان عليها، فقد عاش أيام المرحاض «البلدي» والصرف غير الصحي عبر «الطرنشات» وتسخين الماء للاستحمام باستخدام «الكوز» المصنوع من الألمنيوم ثم دخل بيتهم «التواليت الإفرنجي» و«الدُش» منتصف الستينيات. ورأى «العفاريت» وغيرها من مظاهر الخرافات الشعبية وهي تختفي من حياتهم بعد أن دخلت الكهرباء منزلهم.

تابع صور إرسال أول كائن حي «الكلبة لاكي» إلى الفضاء وكذلك أول إنسان «رائد الفضاء الروسي غاغارين» واختفاء الزي الشعبي النسائي الشهير المتمثل في «الملاءة السوداء» التي تلفها المرأة لتغطي جسمها بالكامل، وهى خارج المنزل ثم تنزعها عنها بسهولة حين تعود للبيت.

نما وعيه على حرب فيتنام وشهد مآسيها وتعاطفت مع شعبها، كما شاهد على الهواء مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي وحائط برلين، ثم إسقاط تمثال صدام حسين وإعدامه واختراق الطائرات لبرجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وقبل ذلك، وصلته أصداء ثورة 1968 في فرنسا وتداعياتها وظهور «البيتلز» و«الهيبيز» و«زوربا اليوناني». عايش حلم عبد الناصر وتعايش معه وشهد انكساره ونكوصه ومعه أحلام القومية العربية وبناء مجتمع الاشتراكية والعدل، كما انتحب وسار في وداعه مع الملايين.

ومن المواقف المثيرة للشجن تلك الكلمات المؤثرة التي تشبه اعترافاً مريراً يسوقه المؤلف قائلاً: «لم أدر متى فقدت هدوء السر وطمأنينة النفس، متى فقدت القدرة على الاستمتاع، فأنا ومنذ زمن طويل لم أعد أستمتع بشيء ولا أرى وجهي حين أنظر في المرآة. صرت أعيش بداخلي منفياً، عرفت كثيرين ولم أعرفهم. عاينت الكثير من الآيديولوجيات والقليل من الأفكار، أدركت بالعقل أن للحقيقة أكثر من وجه، لكني ما زلت أبحث عن يقين مع إدراكي أنه ليس هناك ما يسمى باليقين».


مقالات ذات صلة

شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان

ثقافة وفنون شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان

شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان

أصدرت وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، في سلسلة «نقد» طبعة جديدة وموسّعة من كتاب «مجنون المجاز- أو نبيل سليمان مبدعاً وناقداً»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون «حشرات سوداء»... قصص ترصد هموم النساء

«حشرات سوداء»... قصص ترصد هموم النساء

اختار الكاتب المصري علي حسن طريقاً غير تقليدية في مجموعته القصصية الجديدة «حشرات سوداء» الصادرة عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، حين جعل محور قصصها العشر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون محمد أركون

ماذا تبقى من أركون؟

لطالما طُرِح عليّ هذا السؤال: ماذا تبقى من أركون؟ وفي كل مرة كنت أشعر بالضيق والانزعاج الشديد. في كل مرة كنت أشعر بالحاجة لكي أرد فوراً قائلاً: لقد بقي منه كل ش

هاشم صالح
ثقافة وفنون تمثيلات سردية لتاريخ مصر في 5 قرون

تمثيلات سردية لتاريخ مصر في 5 قرون

في روايته الأحدث «ملحمة المطاريد»، يقدم الروائي والباحث المصري، الدكتور عمار علي حسن، جدارية روائية وحكائية ضخمة، عن عائلة مصرية تنتمي إلى صعيد مصر،

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون محمد الفولي

محمد الفولي يروي تجربته في النقل عن الإسبانية

يروي المترجم محمد الفولي في كتابه «النص الأصلي - عن الترجمة ومسارات الحياة» الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة فصولاً من كواليس وخفايا الترجمة الأدبية

رشا أحمد (القاهرة)

شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان

شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان
TT

شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان

شهادات كُتاب ونقاد عرب على أعمال نبيل سليمان

أصدرت وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، في سلسلة «نقد» طبعة جديدة وموسّعة من كتاب «مجنون المجاز- أو نبيل سليمان مبدعاً وناقداً» من إعداد وتقديم الناقد السوري نذير جعفر. وقد ضمّ الكتاب أربعاً وأربعين مساهمة، توزعت بين شهادات على تجربة نبيل سليمان الروائية، ودراسات لعدد من أعماله الروائية والنقدية.

جاء الكتاب في 456 صفحة من القطع الكبير، وصمم الغلاف هادي أبو الماس. وكانت الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت عن «دار الحوار» في سوريا عام 2008 في 294 صفحة من القطع المتوسط.

في مقدمة الكتاب نقرأ أن «لغة الرواية عند نبيل سليمان هي محفل متنوع بمستوياتها المجازية والإبلاغية والجمالية، وأنه (ورشة) إبداعية، لا تكلّ ولا تملّ. وقد أضحى بيته في مدينة الرقة ثم بيته في حلب، وأخيراً في اللاذقية وبلدته (البودي)، منتدى لأجيال من الكتاب والمثقفين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والآيديولوجية والإثنية، منذ سبعينيات القرن الماضي حتى وقتنا الراهن».

غلاف كتاب مجنون المجاز

تناولت الدراسات التي ضمّها الكتاب سبع عشرة رواية من روايات نبيل سليمان، وستة من كتبه النقدية. ومن هذه الدراسات، كما من الشهادات، ما ضمته الطبعة الأولى من الكتاب، ومنها ما هو جديد في الطبعة العراقية.

في الشهادات، اختار إدوار الخراط لنبيل سليمان لقب «الإنسان الجوهري»، وعدّه عبد الرحمن منيف من المؤسسين للرواية في سوريا، كما وصفه بالمهجوس بتطوير فن الرواية. أما يمنى العيد فكتبت أن سيرة نبيل سليمان في كتابة الرواية العربية هي سيرة البحث عن «بنى لأشكال تروي حكايتنا، وتبدع لغة لمتعة القراءة». وقد وصف خليل صويلح رواية نبيل سليمان «تاريخ العيون المطفأة» بالسجادة السردية. كما قارن نزار العاني بين هذه الرواية وبين رواية «العمى»، وخلص إلى أن عميان نبيل سليمان غير عميان جوزيه سارماغو. وعن «تاريخ العيون المطفأة» كتب فيصل دراج أنها «قدمت اقتراحاً فنياً متميزاً في مجال الرواية السياسية العربية».

الروائي الكويتي طالب الرفاعي استذكر الاعتداء الذي تعرض له نبيل سليمان في 31/01/2001، وذلك بينما كتب عن رواية «سمر الليالي»، فرأى أنها لا تشبه إلا نفسها، وأنها تخوض في المسكوت عنه، وقال: «وإذا بدا صوت المؤلف أعلى نبرة ووضوحاً في فصول الرواية الأخيرة، فربما لهذا السبب أو لغيره ناله ما ناله من اعتداء غادر كاد يودي بحياته». وقد حددت شيرين أبو النجا موقف نبيل سليمان بأنه ينبذ العنف والظلم والطائفية. واعتمدت في ذلك على رواية «مدائن الأرجوان» التي وصفتها بالكتابة الصعبة في زمن أصعب، وبالكتابة المستحيلة.

في مساهمة واسيني الأعرج في هذا الكتاب، رأى أن نبيل سليمان لجأ في رواياته الأربع (أطياف العرش- سمر الليالي– في غيابها– مجاز العشق) إلى تاريخ الحواشي «التاريخ الداخلي للأفراد والجماعات الذي تتضح من خلاله الانكسارات والتاريخ الهش الصادق». ووصف رواية «دلعون» بأنها «نصّ الحافات بين متعة حكي الليالي وقسوة الموضوع الذي ينز دماً». وتساءل: هل هذه الرواية هي رواية الخيبات والتسلط المستمر؟ ورأى أنها سيرة جيل من الثوار والزبانية على حد سواء، وصلت إلى أقصى حدودها. وعدَّ واسيني الأعرج أن رواية «حجر السرائر» هي «رواية دمشقية بامتياز». وقد أجمل الروائي الجزائري الكبير قوله في نبيل سليمان، فرأى فيه علامة ثقافية عربية، ناهيك من كونه روائياً كبيراً يصنع في كل نص عالماً جديداً. وما يميزه هو وقوفه على كل الحواف الخطيرة، وفي أعماله ما يوحي باتساع الرؤية وباتساع المشروع الروائي وتنوعه.

عن رواية «في غيابها» رأى إبراهيم خليل أنها منسجمة مع ما بعد الحداثة. وشبَّه صبحي حديدي عمل نبيل سليمان في هذه الرواية بإدارة لعبة شطرنج مفتوحة بين أحجار المكان ومربعات الزمان. وشبه تقنيات السرد فيها بالمدرسة النقطية في الرسم. وعن روايات (مجاز العشق– دَرَج الليل.. دَرَج النهار– سمر الليالي– في غيابها) كتب عزت القمحاوي أن العناق بين السِّيَري والروائي يُكتمل بها. وعن أحدث روايات نبيل سليمان، وهي «تحولات الإنسان الذهبي– 2022» كتب سعيد يقطين أن نبيل سليمان من الروائيين العرب القلائل الذين تختزل حياتهم في كتابة الرواية.

على الرغم من أن لنبيل سليمان اثنين وثلاثين كتاباً في النقد الأدبي، فإن نصيبها من كتاب «مجنون المجاز» كان 6 دراسات فقط، منها ما كتبته سميحة خريس عن كتاب «بمثابة البيان الروائي» ونادين باخص عن كتاب «أخيولات روائية للقمع والطائفية». وفي غير الرواية والنقد كتب وفيق سليطين عن كتاب نبيل سليمان «الماركسية والتراث العربي الإسلامي» الذي صدر في طبعة وحيدة عام 1988، كما كتب أحمد عمر عن كتاب «الثقافة بين الظلام والسلام» فوصفه بأنه «يتميز بالمساجلة الديمقراطية التي ندرت في هذه الأيام» وقد صدر الكتاب عام 1996.

في ختام كتاب «مجنون المجاز» جاءت قائمة بالكتب المنشورة عن أعمال نبيل سليمان، وهي أربعة عشر كتاباً، وقائمة بالدراسات التي تناولت أعمال نبيل سليمان ضمت واحدًا وأربعين كتاباً. ولعل «مجنون المجاز» -بكل ما تقدم- يكون إضافة مهمة للمكتبة العربية.