أفاعي سلّوت في ولاية بهلا بسلطنة عُمان

معالم لمدينة أثرية وحصن ومعبد دُفنت تحت الرمال

5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان
5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان
TT
20

أفاعي سلّوت في ولاية بهلا بسلطنة عُمان

5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان
5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان

بدأ استكشاف تاريخ سلطنة عُمان الأثري في النصف الثاني من القرن الماضي، وأدّى إلى العثور على سلسلة من المواقع الأثرية تعود إلى أزمنة سحيقة، منها موقع سلُّوت التابع لولاية بهلا في محافظة الداخلية. خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى، منها مجموعة كبيرة من القطع البرونزية النذرية صيغت على شكل أفاع ملتوية، ومجموعة من القطع الفخارية زيّنت كذلك بأفاعٍ مشابهة، وفقاً لتقليد خاص شاع في منطقة شرق شبه الجزيرة العربية خلال العصر الحديدي.

يمتدّ موقع سلوت على سطح هضبة صخرية تحتلّ الجزء الغربي من بطحاء شاسعة في شمال مدينة بسيا، بين وادي بهلا ووادي سيفم. أشارت بعثة استطلاعية تابعة لجامعة هارفرد إلى هذا الموقع للمرة الأولى في تقرير نُشر سنة 1973، وبعد مرور ثلاثة عقود، عقد مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية اتفاقاً مع بعثة تابعة لجامعة بيزا الإيطالية يقضي بتنفيذ برنامج متكامل للمسح والتنقيب والصيانة الأثرية للموقع. تواصلت هذه المهمة على مدى سنتين، وتجدّدت في السنوات التالية، ومعها ظهرت معالم المدينة الأثرية المطمورة تحت الرمال، وتبيّن أنها تحتضن حصناً دفاعياً ومعبداً خُصص لمهام احتفالية ودينية.

أظهرت الدراسات المتواصلة أن الاستيطان في الموقع والمنطقة المحيطة بدأ في العصر البرونزي المبكر، خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد. تواصل هذا الاستيطان خلال العصر الحديدي بعدما توقف لفترة طويلة، ونما في الحقبة الممتدة من 1400 إلى 600 عام قبل الميلاد، وفيها تم استخدام نظام الأفلاج للريّ. كشفت حملات التنقيب عن مجموعات من اللقى تعود إلى العصر البرونزي، منها مجموعة من الجرار والأواني الفخارية، ومجموعة من الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني الأملس، ومجموعة من الأختام ضمّت ختماً مثيراً من بلاد السند. في المقابل، كشفت هذه الحملات عن مجموعات كبيرة مشابهة تعود إلى العصر الحديدي، برز حضور صورة الأفعى بشكل طاغٍ في مجموعة من القطع البرونزية وصلت بشكل كامل، كما في مجموعة مقابلة من القطع الفخارية، وصل مجملها بشكل كسور جزئية للأسف.

تحضر هذه الصورة الثعبانية في أشكال متعدّدة، تشهد لها 5 قطع يمثّل كلٌّ منها نموذجاً فنياً اتّبع في هذا الميدان. تظهر الأفعى في مجموعة كبيرة من القطع البرونزية، منها قطعة طولها 16.9 سنتيمتراً وعرضها 1.3 سنتيمتر، وتمثّل أفعى ملتوية مع قوسين في الوسط، تتميّز برأس مثلث وبشبكة من النقاط تلفّ مجمل القالب البرونزي الذي شكّل مادة لصياغتها. تختزل هذه القطعة نموذجاً شاع بشكل واسع في نواحٍ متعددة من شبه جزيرة عُمان خلال تلك الحقبة، كما تشهد قطع برونزية مماثلة خرجت من مواقع أثرية تعود في زمننا إلى الإمارات العربية المتّحدة وإلى سلطنة عُمان.

تتغيّر هذه الصورة الواحدة في قطعة أخرى من البرونز طولها 23 سنتيمتراً وعرضها 5.5 سنتيمترات، وفيها يبدو بدن هذه الأفعى أعرض وأسمك، وتكسوه شبكة من الدوائر الناتئة. يتكوّن الرأس هنا من 3 كتل، ويتميّز بعينين دائريتين وناتئتين بشكل طفيف. تمثّل هذه القطعة نموذجاً أقل شيوعاً، وتُماثلها قطع خرجت من موقع سيح القاع التابع لولاية الحمراء في محافظة الداخلية، منها قطعة احتلت صورتها ملصقاً خاصاً بمعرض خاص بآثار عُمان أقيم خلال خريف 2022 في متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية.

تحضر هذه الأفعى العريضة إلى جانب الأفعى النحيلة المعهودة بشكل نقش ناتئ على قطعة فخارية صغيرة مربّعة احتلّت صورتها غلاف كتاب مرجعي علمي خاص بموقع سلّوت الأثري، صدر عام 2015 في روما وحمل عنوان «في قب عُمان - قصر سلّوت». يبلغ طول هذه القطعة المربّعة نحو 7 سنتيمترات، وتشكّل في الأصل جزءاً صغيراً من آنية يصعب تحديد هويّتها اليوم. تتكرّر صورة الأفعى الملتوية على قطعة جزئية أخرى من الفخار يبلغ طولها 18 سنتيمتراً وعرضها 9 سنتيمترات، ويمثّل هذا النقش الناتئ نموذجاً اعتُمد بشكل واسع في صناعة الفخار، تعدّدت أشكاله وأنواعه في إقليم عُمان القديم بأقطابه المتعدّدة. يظهر رأس الأفعى استثنائياً بشكل مستقل في قطعة منمنمة من سلّوت، ويتميّز هذا الرأس بعينيه الضخمتين وبفمه المفتوح المقوّس.

خرج القسم الأكبر من هذه القطع من معابد، ممّا يشير إلى هويّتها النذرية، غير أن خصائص هذه الهوية تبقى سراً يصعب فكّه في غياب أي نصوص كتابية خاصة به.

ترمز هذه الأفعى على الأرجح إلى الخلود والتجدّد والانبعاث، كما نرى في بلاد ما بين النهرين وبلاد عيلام التي شكّلت امتداداً لها في بلاد إيران القديمة. في العالم السومري، ارتبطت الأفعى بسيّد الإنبات والشجر والعالم السفلي، نينجيشزيدا، ومعنى اسمه رب الشجرة الصالحة. بنى الملك غوديا معبداً خاصاً بهذا المعبود في لكش، ومن هذا المعبد خرج كوب بديع من محفوظات متحف اللوفر يحمل نقشاً يظهر فيه نينجيشزيدا على شكل أفعى، كما تؤكد الكتابة المرافقة لهذا النقش. كذلك ارتبطت الأفعى بصورة إنشوشيناك، المعبود الحامي لمدينة شوشان في عيلام، كما يشير اسمه السومري الأصل، ومعناه «سيد شوشان»، وهو كذلك سيّد العدالة والعالم السفلي، وتُعتبر الأفاعي رموزاً حيوانية له.

يشهد ختام ملحمة جلجامش لهذه الرمزية الخاصة بالأفعى، حيث حلّ هاجس الموت على البطل، فهام على وجهه في الصحراء وهو يقول: «لقد حل الحزن والأسى بجسمي. خفت من الموت، وها أنا أهيم في البوادي». أكمل الملك المفجوع مسيرته، وعبر بحر الأموات، وغاص في الأعماق، وعاد منها بعشبة الخلود، وفي طريق عودته، رأى «بركة ماء بارد، فنزل فيها واستحم بمائها، فتشممت أفعى رائحة النبتة، فتسللت خارجة من الماء وخطفتها، وبينما هي عائدة، تجدد جلدها».

«وهنا جلس جلجامش وبكى»، وقال: «ولمن بذلت دماء قلبي؟ لم أجن لنفسي نعمة ما، بل لحيّة لها التراب جنيت النعمة».


مقالات ذات صلة

استعادة الهوية الممحوة

ثقافة وفنون استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة

رواية «العائد من غفوته» للروائي جاسم عاصي، الصادرة عام 2024، رواية موجعة ومحتشدة بالمعاناة والفواجع الشخصية لبطلها سعيد الناصري، الذي تحول بطلاً تراجيدياً

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «مكتبة الكلمات المفقودة» للكاتبة ستيفاني باتلاند، ترجمة إيناس التركي، والتي تتناول حالة خاصة من الولع بالكتب من خلال شخصية…

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون هولدرلين

هولدرلين... كما في يوم عيد

هذا هو عنوان قصيدة من أشهر قصائد هولدرلين، أحد أكابر شعراء الألمانية الرومانسيين. كثير من القصائد اللاحقة لها تميَّزت بمسحة جنون أُصيب به الشاعر في 1802،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد العزيز المانع

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية

عبد الجليل الساعدي
ثقافة وفنون «أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

تصدر قريباً عن «دار نوفل - هاشيت أنطوان» رواية «أغالب مجرى النهر» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي. وفيها يصوّر الكاتب أناساً انتهتْ بهم الحياة أسرى أقدارهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب
TT
20

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

«مكتبة الكلمات المفقودة»... رواية إنجليزية عن الولع بالكتب

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «مكتبة الكلمات المفقودة» للكاتبة ستيفاني باتلاند، ترجمة إيناس التركي، والتي تتناول حالة خاصة من الولع بالكتب من خلال شخصية «لافداي» التي تجد عزاءها بين السطور والموضوعات والقصص والمشاعر المختزنة بين دفتي كل كتاب.

وصفت الكاتبة جولي كوهين، مؤلفة الكتاب الأكثر مبيعاً «عزيزي الشيء» لافداي بأنها «شخصية رائعة تأسر القلوب منذ الصفحة الأولى ومكتبتها هي مكتبة أحلام القراء». وعدَّت ليندا جرين مؤلفة الكتاب الأكثر مبيعاً «بينما كانت عيناي مغمضتين» أن الرواية «ملهمة بالحب والألم، كما أن لافداي كاردو شخصية تثب من بين الصفحات إلى داخل قلوبنا».

وتبدو الشخصية النسائية الرئيسية في النص محبة حقيقية للأدب، بل إنها تفضّل الكتب على البشر، حيث تتعرض لأزمة عاصفة لا تخطر ببال تؤدي إلى فقدانها كل ما كانت تملكه وتحبه في ليلة واحدة مصيرية وتقودها تلك الأزمة إلى أن تحول المكتبة التي تعمل فيها إلى ملجأها الوحيد. لكن يصبح كل شيء على وشك التغيير عندما يصل إلى المكتبة التي تعمل بها شاعر وحبيب سابق وثلاثة صناديق غامضة ممتلئة بالكتب، يبدو أن شخصاً ما يعرف ماضيها المبهم ويحاول أن يرسل إليها رسالة وبالتالي لم يعد بوسعها الاختباء بعد الآن.

يتعين على لافداي أن تقرر من يمكنها أن تمنحه ثقتها، هل تستطيع تجاوز ماضيها، وهل يمكنها أن تجد الشجاعة لتصحيح خطأ مفجع، وهل ستجد الكلمات لتحكي قصتها الخاصة؟ إنها تساؤلات محورية تحدد إيقاع الأحداث وطبيعة التحديات التي تتوالى عبر حبكة تجمع بين التشويق والخط الرومانسي، لنصبح في النهاية أمام نص مختلف حول الأسرة والحب والخسارة وتقبل الماضي من خلال سحر الأدب.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«يقول آرتشي إن الكتب هي أفضل عشاقنا وأكثر أصدقائنا إثارة وهو على حق، لكني محقة أيضاً؛ إذ يمكن للكتب أن تؤذيك حقاً. اعتقدت أنني أعرف هذا في اليوم الذي التقطت فيه ذلك الكتاب، من تأليف براين باتن، لكن اتضح أنه لا يزال هناك الكثير لأتعلمه. عادة ما أترجل عن دراجتي وأدفعها إلى جانبي الطريق في الجزء الأخير من رحلتي إلى العمل، فبمجرد تجاوز محطة الحافلات يضيق الطريق المرصوف بالأحجار، وكذلك يضيق الرصيف في هذا الجزء من يورك؛ لذا يصير الأمر أسهل كثيراً بهذه الطريقة. وفي صباح ذلك اليوم من شهر فبراير (شباط)، كنت أحاول أن أدور حول امرأة ما معها عربة أطفال أوقفتها وعجلاتها الأمامية على الطريق بينما العجلات الخلفية على الرصيف، عندما رأيت الكتاب.

كان ملقى على الأرض بجوار سلة المهملات، كما لو كان أحدهم حاول أن يرميه، لكنه لم يكترث بما يكفي حتى كي يتوقف ويصوّب على نحو صحيح. على أي حال توقفت بالطبع، فمن عساه ألا ينقذ كتاباً؟ تفوهت المرأة صاحبة العربة بشيء ما على سبيل الاستنكار على الرغم من أنني لم أسبب لها أي ضرر، بدت من ذلك النوع الذي يقضي أيامه في التفوه باللسان مثل آلة استنكار تعمل بضغط الهواء. تجاهلتها والتقطتُ الكتاب الذي يحمل عنوان «جاك الباسم»، كان سليماً وإن كان غلافه الخلفي رطباً بعض الشيء؛ نظراً إلى وجوده على الرصيف، لكن بخلاف ذلك كانت حالته جيدة.

كانت به زاويتا صفحتين مطويتين إلى الأسفل بعناية على هيئة مثلث قائم الزاوية على سبيل العلامة التي تحدد موضع القراءة. نظرت حولي لأرى ما إذا كان هناك شخص قريب قد أسقط للتو كتاباً لشاعر من ليفربول ويعود أدراجه وعيناه على الأرض.

كانت هناك امرأة تقف خارج المتجر تفتش في حقيبتها بتعجل وكنت على وشك الاقتراب منها عندما أخرجت هاتفها الذي يرن وأجابته. ليست هى إذن، لا أثر لأي شخص يبحث عن كتاب.