سحر القارة السمراء بعيون صينية

سحر القارة السمراء بعيون صينية
TT
20

سحر القارة السمراء بعيون صينية

سحر القارة السمراء بعيون صينية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدر كتاب «الناس في أفريقيا» الذي تعيد فيه الكاتبة الصينية جيا تشى هونغ اكتشاف سحر القارة السمراء وما تتميز به من طبيعة خلابة وحياة نقية ومشاهد إنسانية عبر انطباعات عابرة وتأملات سريعة، على نحو يعكس وحدة البشر مهما تباعدت الفوارق اللغوية والعرقية.

ينتمي الكتاب الذي قامت بترجمته رضوى إمبابي، إلى أدب الرحلات، ويتميز بلغة سلسلة ذات حس شاعري ورؤية رومانتيكية للطبيعة والبشر، وهو ما يتضح منذ وصف المؤلفة مغادرتها وطنها في توقيت كانت مدينتها تفوح فيه برائحة الزهور في شهر أبريل (نيسان) متوجهةً إلى العمل في أفريقيا، حيث مكثت في بلد تحيط به أشجار الفاونيا الرائعة.

ورغم أن الكتاب يتطرق إلى انطباعات الكاتبة حول حياة السكان وطرق معيشتهم لا سيما على صعيد صناعة الزوارق الخشبية وصيد الأسماك، فإن اهتمامها الأساسي ينصبّ على الطبيعة والغابات والأشجار وفروق حرارة الجو وتعاملها كصينيّة مع الحر الشديد.

أصبحت جيا تفتح خريطة أفريقيا وتردد أسماء بعض الأماكن في روتين يجب فعله كل يوم قبل التحرك. لفتها أن معظم قارة أفريقيا يقع على الخريطة بين شمال خط الانحدار وجنوبه، يقطعها من المنتصف خط الاستواء. هذا يعني أن الحرارة المرتفعة أكثر ما يميز القارة، وهى حرارة لا تتغير بتغير المواسم، وقد حذَّرها زميل قديم يعمل هناك قائلاً: «لا ترتدي التنانير، واحرصي على ارتداء البنطال والأكمام الطويلة لمنع لدغات البعوض الذي يحمل طفيليات الملاريا».

هبطت المؤلفة في باكو، عاصمة مالي في غرب أفريقيا، بعد طيران استمر لأكثر من عشرين ساعة. عند الخروج من صالة الوصول لم تستطع فتح عينيها من شدة حرارة الشمس الساطعة. كانت الساعة الثانية ظهراً، أكثر وقت حار في اليوم خصوصاً في شهر أبريل.

تقول بحس فكاهي: «موجة الحر هنا تشبه عاشقاً انتظرني طويلاً وسرعان ما عانقني بشدة، بمرو الوقت أصبحتُ ألهث. سالت من تحت ملابسي الطويلة عشرات الجداول الصغيرة التي تشبه اليرقات، تتجمع وتتكاثف وتزحف بشكل مثير للحكة عبر الصدر والظهر، تندفع نحو خصر البنطال، ظلت الجداول تنسال كأن جسدي منبع لها وستتجمَّع معاً مكونةً نهراً».

وقعت جيا في غرام أشجار تلك الأرض الشاسعة بعد مرور عدة أيام، تقف شجرة أو اثنتان مستلقيتين بفخر في البرية، بينما الخلفية المقفرة تجعل اللون الأخضر المورق يكشف عن حيوية عنيدة، لا تتشابكان معاً بسهولة مشكّلتين غابة، وفي الوقت نفسه لا ينفران بعضهما من بعض، بل تقفان أمام متواجهتين لتستمتعا معاً بالشمس والمطر وسط الجفاف والجدب وموجة الحر المتدحرجة مثل موجة هائجة تأبى أن تنحسر لفترة طويلة.

كان هناك بعض الأشجار، وما دامت توجد الأشجار فستظل الحياة مستمرة تحتها، توجد منازل منخفضة من الطوب مستندةً إلى الأشجار ومخازن حبوب ذات قباب وساحات صغيرة ذات أسوار خشبية، ودجاجات رفيعة تقفز برشاقة على الأسوار، وماشية وأغنام تتجول ببطء على طريق القرية المتعرج. أما المرأة التي تسحب الماء من البئر، فتنظر نحو جيا بشغف، فيما أطفال شبه عرايا ينظرون إليها بأعين صافية تحت جدار الفناء المتهدم.

وحين تغرب الشمس أخيراً على مضض، تنحني الأشجار لأسفل، ليعانق الكون القرية الصغيرة المهمشة كأنه يعانق طفلاً غارقاً في نوم عميق. يسطع فجر آخر فتدفعها الشمس للاستيقاظ، فيما النعاس لا يزال يغالبها.

وتذهب المؤلفة في زيارة إلى إحدى الجزر، حيث ينشر تاج الشجرة المستدير الكبير ظله الأخضر الغني كأنه مظلة، ثم ترى على الجزيرة كراسي ثقيلة غير متقنة الصنع وأسرَّة خشبية مربوط بعضها ببعض وشاياً يغلي على موقد الفحم الصغير مخرجاً دخاناً أبيض، وأغاني ذات إيقاع مثير تصدر عن الراديو. يرتعش قلب جيا، فما دامت هناك شجرة مانجو خضراء تقف بفخر في البرية فلن تتردد في طرح ثمارها على الأغصان، ثمرةً تلو الأخرى، مثل المرأة التي تظل تنجب أطفالاً.

تشعر فجأة بأنها هي نفسها شجرة أخرى تنبت في هذا المكان، وتفكر أن هذا بالتأكيد أمر جميل يدعو إلى الفخر، فأنت لا تحتاج إلا أن تقف ببساطة في البرية وجذورك العميقة ممتدة في التربة، فيما تداعب الرياح والأمطار فروعك التي تنتصب في اتجاه السماء بكل حرّية وتدعو طائراً صغيراً متعباً بكل فخر وتقول له: «أنت أيها الصغير... تعالَ وخذْ قسطاً من الراحة بين ذراعيّ».


مقالات ذات صلة

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

ثقافة وفنون العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون آنيتان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت  مصدرهما مقبرة سار الأثرية في البحرين

آنيتان من مقبرة سار الأثرية في البحرين

خرجت من مقبرة سار الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من الأواني، منها وعاءان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، يتميّزان بنقوشهما التصويريّة المتقنة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

أقدار البحر المتوسط

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس،

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

صدر حديثاً العدد (66) من مجلة «المسرح» عن دائرة الثقافة في الشارقة لشهر مارس (آذار) 2025، ويضم مجموعة متنوعة من المقالات والحوارات والمتابعات والقراءات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

تتساءل الباحثة والأكاديمية د. إكرام طلعت البدوي في كتابها «الفلسفة السياسية النسوية - تاريخ من العدالة المراوغة»، الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

أقدار البحر المتوسط

لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
TT
20

أقدار البحر المتوسط

لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان
لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس، عبارة تتبادر إلى الذهن في كل مرة تلفظ فيها شواطئ المتوسط جثث المتطلعين للفرار واللجوء وتبديل الأوطان من طنجة إلى بيروت ومن الجزائر إلى الإسكندرية... وحين التأم قبل سنوات في «معهد العالم العربي» بباريس معرض «مغامرو البحار» كان القصد هو إعادة تركيب حكاية العبور المتقاطع بين الضفاف المتباعدة، والمتنابذة، لذلك الحوض المسكون بنوازع المغامرة؛ صور ووثائق، لوحات وأفلام، لقى ومنحوتات تؤرخ لروح مستترة مأخوذة بالبحر الذي وسمه عجوز كازانتزاكيس بمخرب البيوت.

في سنة 1612 ميلادية، أمر الملك الإسباني فيليب الثالث، صاحب القرار الشهير بطرد المورسكيين من شبه الجزيرة الإبيرية، نائبه تلمركيز دو كاراسينا بانتخاب صفوة من الفنانين الإسبان لتخليد لحظة «الترحيل القسري» عبر البحر المتوسط إلى الضفاف الجنوبية، فتوجه هذا الأخير إلى عدد من رسامي مقاطعة بلنسية، التي شهدت مرافئها أكبر عملية تهجير، من مثل الأب أوروميغ وخيرونيمو اسبينوزا وفرانسيسكو بيرالتا وآخرين... بطلب تصميم أعمال تخلد الواقعة، التي لم تكن عملاً يسيراً، بقدر ما كانت حرباً كاملةً، استنفرت لها جيوش المملكة، وأساطيلها البحرية، ورافقتها أعمال نهب ومصادرة وانتزاع للأملاك، ومصادرة للأطفال ما دون السابعة، وفظائع إنسانية دون حد، قبل إيصال ما تبقى من العائلات المنكوبة إلى الشواطئ الأفريقية، وتركهم في العراء لمواجهة قدرهم الدامي.

يوسف شاهين
يوسف شاهين

كان فيليب الثالث في حاجة إلى وثيقة بصرية تدون الحادثة التاريخية وتحفظها كمأثرة من مآثر الدولة القومية المنتصرة، وجاءت تلك الأعمال السبعة التي ترسم مئات المراكب مكتظة بالناس، وسلاسل طويلة من الراجلين تلوح في الأفق منتظرة دورها، يحرسها فرسان الجيش الإمبراطوري. وتبدو وجوه المنكوبين في تلك اللوحات متشابهة، دون ملامح ولا قسمات على غرار معظم أعمال المنمنمات والتصاوير الكلاسيكية، لكن هذه الأعمال، الموجودة اليوم بمؤسسة «بانكاخا» ببلنسية، تحكي فقط ما جرى، تصوره بإيجاز وحياد، لا توحي ببطولة ولا بمأساة، تنقل يوميات التهجير عبر البحر المتوسط، تنفيذاً لتعليمات الملك.

لكن في النهاية، هل المتوسط مجرد قدر دامٍ، أو هو انتماء؟ أم أنه مجرد وهم؟ حين نتحدث عن عقائد انبثقت من حوضه، وأساطير، وأطعمة وموسيقى، ورحلات وثروات، ونكبات وأهواء متقاطبة للتوسع والاستكشاف، تتبدد الذكرى الأليمة ضمن حاضنة عاطفية أوسع. تختصر الموانئ قصص متوسط بصيغ متعددة متعارضة دوماً، مغرية على نحو مدوخ، لكن الماء منح حياة أخرى لمعتزلات ومنابذ وجزر مغمورة، وقوارب هجرات أوديسية، كما منح الحياة لخيالات ملتبسة في أذهان ساكني الضفتين عن بعضهما البعض، في تواتر لا ينتهي.

ولقد كانت نوازع عبور الضفاف المتوسطية، المتخذة إهابات متباعدة، مولدة لمفردات ومجازات ومعانٍ شتى نابعة من التباس الحاجز المائي، من الهجرة للنزوح للغزو للاحتلال، لمجرد السفر والترحل بين المرافئ المتناظرة، إنها الخلفية الذي أنتجت مدونة «الغيرية» في حقول الأدب والجماليات والسياسة والآيديولوجيا؛ من «الكراهية» لـ«العنف» لـ«الألم» لـ«المنفى» لـ«الهامش» لـ«العنصرية» لـ«الرغبة» لـ«الاحتضان» و«التسامح» و«الاعتراف»...، عبور عبر الماء أنتج سرديات روائية وسينمائية ومسرحية وشعرية وتشكيلية تستهدف التأمل في المشاعر الرافدة لها، وفهم نوازع الخيبة والغبطة المتأتية عنها. ذلك على الأقل ما تجليه نصوص متوسطيين أثيلين، وجوابي آفاق، من غوغان إلى ماتيس وفورتوني، ومن كازانتزاكيس إلى ألبير قصيري وحيدر حيدر، ومن لويس برلانكا إلى يوسف شاهين... روايات ولوحات وأفلام عن التحول من المراتع المصرية واليونانية واللبنانية والفرنسية والإسبانية والسورية إلى ضفاف بديلة، من مدن وعمائر وبيوتات أليفة ولغات وأطعمة وأنغام مسكوبة في ذاكرة اليفاعة، إلى الانتماء المركب وأقدار مساراته.

ولم يكن عبوراً واقعياً ولا تخييلياً فقط عبر النصوص والصور ذلك الذي احتضنه البحر العريق، وإنما كان عبوراً للغات والعقائد، إنه ما يفسر نشأة الكتابات الروائية والشعرية والمسرحية لمبدعي الجنوب بلغات الشمال الفرنسية والإسبانية والإيطالية... واستيطان لغات المرافئ الجديدة وتحويل لكناتها، ومضامينها، وهيئات ناطقيها وطبائعهم وألوانهم، وأحلامهم في الحياة، ولأهواء أمزجتهم ونهمهم الطعامي. في مقطع من حوار لعبد اللطيف اللعبي مع ليونيل بور، متحدثاً عن كتاباته المتنامية خارج مداراتها الأصلية، مستعملاً معجماً بحرياً في مجمل توسلاته المجازية: «إني داخل هذا المحيط المنعدم الضفاف لمغامرة الكتابة، لأبحر متحسباً كل شيء. وما أضفر به من تلك الرحلة، ليس بالضرورة ما قد هجست به أو رغبت فيه في المنطلق. إن هي إلا أشتات رؤى، وحدوس مما انتزعته انتزاعاً من غامض الكون، أو مما تنازل عنه ذاك الخفاء لصالحي» (من كتاب: الهوية شاعر، ص 7) والشيء الأكيد أن الكتابة تعيش حيوات متبدلة حين تفارق مراتعها الأولى، تبني لنفسها صيغاً تعبيرية جديدة، وامتدادات تتجاور فيها الكلمة مع الصورة والنغم واللون والبنيان، تلك التي تمنحها الانتماءات المتوسطية امتدادات شتى... وكأنها تعيد التفكير في موضوعاتها مجدداً، أو تنسلخ عن زمنيتها المحدودة لتعانق رحابة أوسع، وجمهوراً مختلفاً.

كازاتزاكيس
كازاتزاكيس

وبقدر ما كان الانتماء المتوسطي تماهياً مع المعابر المائية، وما حفلت به من مجازات الانكسار والأمل، فقد كانت انتماء إلى الجسر اليومي مع الآخرين، لذا كان التواصل طعامي، في القلب منه، تتناظر فيه مطاعم وحانات المرافئ المتباعدة، التي تولّعت بها الأخيلة والصور، فالطعام الساكن لتفاصيل الروايات والأفلام واللوحات سمة متوسطية غير قابلة للتجاوز، وحين تجعله المعارف والثقافات محوراً للتأمل والتمثيل فلتجاوز لحاءاته الحسية، لهذا لا يمكن الانحياز للرواشم الخطابية التي تجعله في عداء مع الكتابة والتشكيل، ولا لتلك المأثورات التي تعارض بين الذهنيات والكؤوس والصحون، وبين الذكاء والتولع بالوصفات الرفيعة. صحيح أن الغواية الطعامية هنا ليست موضوعاً أثيراً لذاته، فالمثير هو ما يقترن بها من غرائز وفتن وزيغ سلوكي؛ ذلك أن لحظات الجلوس إلى الموائد، والتقطيع والتناول، لم تسترع اهتمام الروائيين والسينمائيين والمسرحيين الفرنسيين واليونانيين والإيطاليين واللبنانيين والمغاربة... بوصفها تفاصيل إنسانية مقيمة، إلا في اقترانها بالسجايا الأخلاقية، أي بما هي سند لتخييل كياسة أو توحش، وتسويغ طبع أو تصرف... بيد أن الشيء الأكيد أن علاقة الفرد المقيم في ضفاف هذا الحوض المائي بما قد يوضع أمامه في مأدبة، أو يقدمه للآخرين الضيوف، هو أجلّ من مجرد استعراض لمهارة وذوق، إلى استبطان كنه العلاقة برمزيات الجامد المثير والضامن للحياة.

ولعل ما يبدو لافتاً للانتباه منذ الوهلة الأولى في اللوحات التي سعت لتمثيل لحظة «التناول»، وهي من أكثر الصور تداولاً في الفن المتوسطي الحديث، أنها لم تستهدف تمثيل التواصل الطعامي فحسب، وإنما سعت في أغلب نماذجها الفنية الشهيرة منذ ليوناردو دافنشي إلى تشخيص لحظة انتقال الطعام من الماهية الجسدية إلى الروحية، وتبعاً لذلك كفت عن قرن الأكل بحسية مبتذلة، وشحنته بإيحاءات عاطفية ملغزة، تلك التي سترتقي بعد ذلك لتجعل الخبز والخمر والجبن والفاكهة ألغازاً حياتية لا تكف عن تصدير المعاني المبتكرة.

الكتابة تبني لنفسها امتدادات تتجاور فيها الكلمة مع الصورة والنغم واللون والبنيان، تلك التي تمنحها الانتماءات المتوسطية امتدادات شتى

لكن سرعان ما سنكتشف مع تواتر روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الضفاف الشمالية للمتوسط أن الغواية الطعامية شيء مختلف عن الفتنة الجنسية التي تسبر لذاتها، ولما تستنفره من سجايا أسلوبية متغايرة، وستتجلى لحظات الأكل غالباً بوصفها فرصة لتصوير الاختلال، وما يفضي إليه من مآرب السخرية والهجاء والتمثيل التهكمي. بينما سيختصر الطعام السينمائي منذ النصف الأول من القرن الماضي بما هو فجوة توتر كلامي وانفعالي عابر، فالطعام لا يوضع إلا ليكون جسر تواصل رمزي، كما في الفيلم الفرنسي - الإيطالي الأشهر «الوليمة الكبرى» لماركو فيريري، حيث يتحول الأكل إلى معبر للموت السعيد.

وغير بعيد عن مبدأ التواصل الذي شكلته الوساطة الطعامية، يتجلى الخروج عن الثبات الجغرافي، وما يقترن به من حدود، إلى هوية المشترك المائي، بوصفه ارتقاءً في سلم الانتماء، وما لبث أن بات اللجوء إليها بوصفها انعتاقاً من الارتهان للمنبت، من هنا يمكن فهم ذلك الوازع الذي جعل الإبداع الفني والشعري والروائي مولعاً بالمرافئ المتعددة المبثوثة في ضفاف هذا الماء، وكأنما اليابسة ومدنها أضحت مرادفة للعقم. في الفصل المعنون بـ«حين أثمرت بداخلي ثمرة الأوديسة» من النص السيري لنيكوس كازانتزاكيس «تقرير إلى غريكو»، ترد العبارة التالية: «ما نسميه... الخلود والنعمى يستقل قاربنا ويبحر معنا» (ص 577)، إنها التعبير الأبلغ عن استعادة الإحساس بالمطلق، والانفصال عن العرضي، المتمثل في العمائر والمدن والرطانات والأهواء المحلية. ولربما ذاك ما منح مدن الإسكندرية ومارسيليا وطنجة وبيروت وغيرها تماثلات شتى، هي المسكونة بخليط غير صاف، والمدينة للبحر وحده بقدرتها على العيش ومنح شهوة السفر.