«رؤيا ملجأ العامرية»... الملحمة والأسطورة

قراءة في قصيدة حميد سعيد الأخيرة

حميد سعيد
حميد سعيد
TT
20

«رؤيا ملجأ العامرية»... الملحمة والأسطورة

حميد سعيد
حميد سعيد

ما زلنا نتعلم الكثير من شعر حميد سعيد الذي يفتح لنا آفاقاً جديدة في الكتابة والرؤية، كما في قصيدته الأخيرة «رؤيا ملجأ العامرية»، التي تستدعي فضاءً ملحمياً مشحوناً بالإرث البابلي والسومري، حيث يتماهى الخراب التاريخي مع الخراب المعاصر. يستعيد حميد سعيد سرديات الوعود والحرائق، ويربط مأساة ملجأ العامرية بتراجيديات الأساطير الرافدينية، كما يستحضر أنانا، الإلهة الأم والمعبودة الخصبة، ليعكس مفارقة العقم والموت التي جلبتها الحرب. هذه التناصات مع الميثولوجيا القديمة تجعل النص ملحمة حداثية، تسرد الخراب لا بوصفه حادثاً منفصلاً، بل كقدر متجدد ومتكرر.

والقصيدة لا تسير وفق نسق خطيّ، بل تتشظى بين الحاضر والماضي، بين ملجأ العامرية وأساطير بابل، بين حروب الجنود وصرخات الأطفال، بين الجحيم الأرضي والجنات الضائعة. هذا التشظي الزمني يخلق إحساساً باللازمنية، وكأن الدمار كيان ثابت يتنقل عبر العصور.

اللغة والصور الشعرية:

لغة القصيدة تفيض برمزية ثقيلة، تزاوج بين الواقع الحسي والأسطوري، فتصبح القنابل «شوْكَ القبور»، والدماء «زينات» الملجأ، والعواصف «تقطع أرحام البابليات». هذا التوظيف الكثيف للمجاز يجعل من الصور الشعرية حمولة دلالية عالية التأثير، تُحيل القارئ إلى تأمل المأساة عبر وسيط شعري يكثف الفاجعة دون أن يغرق في المباشرة الخطابية.

وتستخدم القصيدة ثنائية المقدس والمدنس بطريقة تناقضية، حيث تتداخل رموز الطهارة (المساجد، الصلاة، الأرحام، الطلع، وضوء أم البنين) مع أفعال الخراب والقتل والحرائق. وهذه الثنائية تعكس مأساة العصر الحديث، حيث تصبح الإيمان والطقوس بلا فاعلية أمام وحشية القوة العمياء.

ويبدو الشاعر في هذه القصيدة واعياً تماماً بالإرث الثقافي العالمي، حيث يُحيل إلى أعمال رامبو، وشكسبير، وماتيس، وفان جوخ، وموزارت، ودالي، وغيرهم. لكنه يضع هذه الرموز ضمن سياق من الشك، متسائلاً عن جدوى الحضارة الغربية التي أنتجت هذا الفن لكنها أيضاً أنتجت الحروب والدمار. هذه المقاربة تمنح القصيدة أفقاً فلسفياً يتجاوز البكائيات التقليدية إلى نقد حضاري شامل.

تقنيات الحداثة الشعرية:

تعتمد القصيدة على تقنيات الحداثة الشعرية مثل: التناص التاريخي والأسطوري: استحضار الميثولوجيا والتاريخ بطريقة جديدة، والتكرار الإيقاعي: كالتكرار المتواتر لعبارة «للبابليات وعد الحرائق»، مما يرسخ الإيقاع الكارثي، التشظي السردي: حيث تتداخل الأزمنة والأحداث دون تتابع خطي، التقابل بين المأساة والجمال: مثل الجمع بين رمزية الموت والألوان الفنية، والتأثير العاطفي والتلقي النقدي.

كذلك تمتلك القصيدة قوة وجدانية عميقة، فهي لا تقدم المأساة فقط كخبر أو سرد، بل تغمر القارئ في تفاصيلها الحسية، مما يجعلها تجربة جمالية مفعمة بالألم. نقدياً، يمكن وضعها ضمن الشعر الحداثي الذي يستلهم الملحمية ولكن بصياغة جديدة تخرجها من القوالب التقليدية إلى فضاء أكثر تجريبية وتأملاً.

الموسيقى الداخلية والإيقاع المتغير:

لم يلتزم حميد سعيد في هذه القصيدة ببحر واحد، بل انتقل بين أوزان مختلفة، وهو أسلوب يُستخدم في القصائد الطويلة ذات الطابع الملحمي، حيث يسمح التنويع الوزني بالتنقل بين المشاهد والتصاوير المختلفة، مما يخلق تناغماً موسيقياً يتناسب مع تدفق العواطف والأحداث. واستخدم الشاعر التكرار الإيقاعي، كما في «للبابليات وعد الحرائق»، وهو ما يعزز النغم الداخلي ويضفي بُعداً نشيدياً قريباً من الترانيم القديمة أو الأناشيد الدينية.

كما أن هناك تنوعاً في التفعيلات، حيث يبدأ أحياناً بإيقاع ثقيل حزين، ثم ينتقل إلى إيقاع أسرع أو أكثر حدّة، كأنه يحاكي وقع القنابل أو أنفاس الناجين المتقطعة، إضافة إلى استخدام الألفاظ الصوتية القوية التي تعزز الموسيقى، مثل «الجحيم»، «العواصف»، «النار»، «الخراب»، مما يجعل الإيقاع أكثر تأثيراً وقوة. وخلقت الوقفات العروضية غير المنتظمة توتراً موسيقياً، وهو ما ينسجم مع طبيعة القصيدة التي تصف حدثاً كارثياً يتسم بالتشظي والتوتر.

التأثير الموسيقي في التجربة الشعورية:

لا يمكن قراءة القصيدة دون الشعور بأن الموسيقى ليست مجرد زينة، بل هي عنصر جوهري في البناء الدرامي، فهي تعكس الصدمة، الألم، الحنين، وحتى السخرية أحياناً. هذه الموسيقى المتغيرة تجعل القارئ يعيش التجربة وكأنه يسمع صوت القنابل، صراخ الأطفال، أو حتى همسات الأمهات وهن يجمعن أشلاء أطفالهن. وهذا الأسلوب الموسيقي يقترب من القصائد الملحمية البابلية والسومرية، التي كانت تُنشد بتكرار عبارات معينة وبإيقاع متغير يتناسب مع طبيعة السرد، مما يعزز البعد الغنائي للقصيدة، وكأنها تُحاكي التراتيل الحزينة أو مراثي المدن الضائعة.

إجمالاً، الشاعر هنا لا يوظف الوزن والإيقاع كإطار خارجي فحسب، بل كمكوّن داخلي يعزز البنية الدلالية، ليجعل القارئ ليس فقط يقرأ المأساة، بل يسمعها ويشعر بها على مستوى موسيقي وروحي عميق.

الخاتمة:

قصيدة «رؤيا ملجأ العامرية» ليست مجرد رثاء لمأساة تاريخية، بل هي عمل شعري يتجاوز التوثيق إلى تأسيس رؤية فلسفية وأسطورية للمأساة. إنها قصيدة ملحمية بامتياز، تحمل صدى النواح البابلي وتراجيديات الشعوب المقهورة، لكنها في الوقت نفسه تُعيد مساءلة الحضارة برمتها، واضعة الفن والحرب في مواجهة ساخرة ومأساوية في آنٍ واحد.


مقالات ذات صلة

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

كتب ليور زميغرود

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج»

ندى حطيط
كتب فدوى طوقان

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي…

د. ماهر شفيق فريد
كتب مجلة «الأديب الثقافية»: الاعترافات السياسية للأدباء

مجلة «الأديب الثقافية»: الاعترافات السياسية للأدباء

صدر العدد الثاني عشر من مجلة الأديب الثقافية/ ربيع - 2025، وقد تصدّرت الغلافين الأول والثاني لوحة للفنان التشكيلي الكردي عبد الغفور حسين

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

يتفق معظم الباحثين الغربيين والعرب على تأثر شعراء التروبادور في العصور الأوروبية الوسيطة بشعر الحب العربي

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

«مهمّةُ المترجم»... ترجمة عربية جديدة لنص فالتير بنيامين

تضطلعُ مقالةُ «مهمّةُ المترجم»، التي كتبها الفيلسوف والناقد والمترجم الألماني فالتير بنيامين (1892 - 1940)، سنة 1921، بمكانة متميزة في الثقافة العالمية الحديثة

«الشرق الأوسط» (عمَّان)

أكثر من نصف مليون شخص زاروا معرض مسقط للكتاب في أسبوعه الأول

الفعاليات المخصصة للطلاب والشباب تلقى إقبالاً ملحوظاً في معرض مسقط الدولي للكتاب (الشرق الأوسط)
الفعاليات المخصصة للطلاب والشباب تلقى إقبالاً ملحوظاً في معرض مسقط الدولي للكتاب (الشرق الأوسط)
TT
20

أكثر من نصف مليون شخص زاروا معرض مسقط للكتاب في أسبوعه الأول

الفعاليات المخصصة للطلاب والشباب تلقى إقبالاً ملحوظاً في معرض مسقط الدولي للكتاب (الشرق الأوسط)
الفعاليات المخصصة للطلاب والشباب تلقى إقبالاً ملحوظاً في معرض مسقط الدولي للكتاب (الشرق الأوسط)

يمنحُ حضور طلاب وطالبات المدارس العمانية معرض مسقط الدولي للكتاب زخماً كبيراً للمعرض الذي يمتلئ بالزوار الذين قُدِّر عددهم بنحو نصف مليون زائر مع انتهاء الأسبوع الأول من المعرض.

وتجتذب الفعاليات المخصصة للطلاب والتي تزيد على 155 فعالية، منها العروض التفاعلية والترفيهية والمبادرات الشبابية والمجتمعية، آلاف الطلاب الذين يتوافدون للمعرض. وتنظم المدارس رحلات يومية لتعويد طلابها على أجواء الثقافة التي يحتضنها المعرض.

وبالإضافة إلى الطلاب، هناك الشباب، وهم الفئة الأكثر حضوراً في معرض الكتاب، حيث يتوزعون في أروقة المعرض حاملين مجموعات من الكتب بين أيديهم.

ويقول أحد العارضين: «الشباب هم الشريحة الأكثر بحثاً عن الجديد... يأتون إلينا يبحثون عن الأعمال الأدبية، بعضهم يحمل قائمة محددة بأسماء روايات، وآخرون يستطلعون الجديد».

الشباب هم الأكثر حضوراً في معرض مسقط الدولي للكتاب (الشرق الأوسط)
الشباب هم الأكثر حضوراً في معرض مسقط الدولي للكتاب (الشرق الأوسط)

وفي حين تسجل الروايات الأدبية نسبة الإقبال الكبرى في المعرض، يُقْبل العُمانيون على الكتب الفكرية والدراسات النقدية، وتسجل كتب التراث أيضاً نسبة يُعتد بها في هذا المعرض.

ويقول ناشر مصري: «يأتي طلاب الجامعات بحثاً عن الكتب المنهجية أو المعاجم، أو تلك التي تساعدهم في فهم المقررات الدراسية ككتب القانون والإدارة والاقتصاد».

وبنحو عام، يبدو الارتياح على دور النشر المشاركة في المعرض، فمع ازدحام تنظيم معارض الكتب في وقت واحد (الرباط، وأبوظبي، ومسقط)، برز معرض مسقط من حيث تسجيل حجم إقبال وشراء مرتفع نسبياً، وهو ما يوفر فرصة للناشرين لتعزيز مكاسبهم في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج، إلا أن المتسوقين شكواً أيضاً من المبالغة في الأسعار، قياساً للأعوام السابقة.

ويشارك في معرض مسقط الدولي للكتاب 674 دار نشر تمثل 35 دولة، ويتميز المعرض بالتنوع الكبير في دور النشر من مختلف البلدان العربية، مع حضور لافت لدور النشر العراقية والسورية واللبنانية.

وتتصدر مصر الدول المشاركة بالمعرض بـ119 دار نشر، تليها سلطنة عمان بـ98، ولبنان بـ73، وسوريا بـ69، إضافة إلى مشاركة عدد من دور النشر العربية والأجنبية.

ندوة في أكاديمية المرأة العمانية في معرض مسقط للكتاب (الشرق الأوسط)
ندوة في أكاديمية المرأة العمانية في معرض مسقط للكتاب (الشرق الأوسط)

ويبلغ عدد العناوين والإصدارات المدرجة في المعرض نحو 681041 عنواناً منها 467413 إصداراً عربياً و213610 إصدارات أجنبية، وتنقسم دور النشر المشاركة في المعرض ما بين 640 بصورة مباشرة، و34 بصورة غير مباشرة، وتتوزع على 1141 جناحاً.

بينما بلغ عدد المجموعة العُمانية 27464 كتاباً، وعدد الإصدارات الحديثة التي طُبعت بين 2024 و2025 نحو 52205 كتب.

أما الفعاليات الثقافية التي تتوزع داخل أروقة المعرض أو في القاعات الرئيسية، فتسجل فرصة للشباب لخوض تجارب في الحوار الثقافي. ويشهد المعرض إقامة 211 فعالية ثقافية وبرنامجاً متنوعاً تتوزع ما بين مسابقات ترفيهية ومبادرات علمية وعروض مسرحية وجلسات ثقافية في عدد من الأجنحة التي تشهد مشاركة الجهات ذات العلاقة بصناعة ونشر الكتاب، وحضور مؤلفين للتوقيع على إصداراتهم.

كما يشهد تقديم فقرات «حكايات شعبية عمانية» بمشاركة عدد من «الحكواتيين»، إلى جانب تنظيم برامج للفنون التشكيلية ومسابقات الإلقاء وكتابة القصة والشعر.