«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

أزهر جرجيس يكتب سيرة أخرى للبلاد التي صارت مقبرة منسية

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة
TT

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

ثمة انتظام حكائي سردي موضوعاتي تحرص رواية «وادي الفراشات» لأزهر جرجيس («مسكيلياني» - تونس/ «الرافدين» - بغداد 2024) على اقتفاء آثاره شبه الثابتة في روايتين سابقتين لأزهر جرجيس: «النوم في حقل الكرز» 2019، ثم «حجر السعادة» 2022. وقد شكَّلتا مدونة سردية ذات عوالم حكائية وموضوعاتية شبه مكررة. وقد نقول إن التكرار هو سمة تقوم عليها أغلب المدونات، بل إنه من غير الممكن وصف منظومة سردية بالمدونة من دون سمة التكرار. فلا ضير مما هو أساسي. إنما تتخذ النصوص المختلفة اتجاهاتٍ وموضوعاتٍ ضمن الإطار العام للمدونة، سوى أن التكرار يولِّد ضغطاً يُنتج، غالباً، تحوَّلاً أو اختلالاً في العالم السردي. في الروايتين السابقتين، كان لدينا موضوعان كبيران. فقد انشغلت «النوم في حقل الكرز» بسردية أساسية هي «العودة» المتخيلة للبلاد بعد منفى طويل. وكانت سردية الاحتجاج المنفتحة على عوالم السرد التشردي هي الموضوع الأساسي في «حجر السعادة». فهل ثمة موضوع جديد تنهض به رواية «وادي الفراشات»؟

دفتر الأرواح

أسهل طريقة لكتابة رواية ناجحة هي أن تعتمد نظام المخطوطة. نلمس حدود هذه القناعة بأكثر من سبيل في «وادي الفراشات». لنتذكر أنها الطريقة ذاتها التي اعتمدت في إنجاز الروايتين السابقتين، وقد حققتا نجاحاً ملحوظاً «سواء لناحية الانتشار والمقروئية، أو الوصول إلى مرتبة متقدِّمة في جوائز الرواية العربية. فهل هذا تسويغ كافٍ لتكرار المحاولة للمرة الثالثة؟ الحجة المقنعة تفترض أن نظام المخطوطة قد وفَّر الانتظام السردي المطلوب للروايتين. ثمة، إذاً، راوٍ يخبرنا، ابتداءً، أن خاتمة مسبقة تُصاغ أمامنا في مطلع الرواية. فهل الاستشعار أو الإخبار المسبق بالخاتمة هو أمر ذو وظيفة بنائية أساسية في الرواية؟ أغلب الظن أن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بإشكالية أساسية تتصل بنظام المخطوطة ذاته. لنختصر الإجابة ونسأل: لماذا يبدو نظام المخطوطة فاعلاً في كتابة رواية ناجحة؟ أفكر أن المخطوطة تمكِّن الرواية من أمور كثيرة أهمها، ربما، إمكانية إعادة كتابة الحكاية ذاتها بمنطق آخر. وهذه الإمكانية هي الطريق الأجدى لاقتراح تاريخ جديد، يختلف، أو يتعارض، جذرياً مع التاريخ السردي المعتمد. فأي تاريخ تقترحه «وادي الفراشات»؟

تاريخ «الأرواح»، أو تاريخ «الموتى»، هي المهمة الجليلة التي يتركها «الموتى» للأحياء؛ إذ إن كتابة تاريخ خاص للموت هو شأن الأحياء، إنما «الموتى» فعلوا ما بوسعهم وماتوا تاركين للأحياء مهمة كتابة تاريخهم من بعدهم. لكن أي «أرواح» يريد «عزيز جواد»، بطل الحكاية وراويها، أن يكتبها؟ تقترح الرواية لنفسها نوعاً جديداً من الأرواح، وهي أرواح «الفراشات» غير المسماة، أو ممن لم يُمنحوا حتى فرصة أن تكون لديهم أسماء بعينها. فيكون بعض مهمة المؤرخ أن يسمي الأجساد اللقيطة الملقاة على الأرصفة أو في حاويات القمامة، قبل أن يدفنهم في منخفض، أو سفح التل، خارج العاصمة، وسيسمي المقبرة المقترحة «وادي الفراشات». والمفروض، أو مثلما تقترح الرواية ذاتها، ابتداءً، من عنوانها، أن جمع الفراشات الميتة من الشوارع هو الموضوع البديل عن الموضوعات الكبيرة شأن سردية الحياة في بلاد الديكتاتور، أو أن تتعلَّق الرواية بموضوعة الاحتجاج. فهل تريد «وادي الفراشات» أن تعيد السرد إلى إيقاعه الهادئ العبيد، إلى حد ما، عن صخب السرديات الكبيرة؟

جمهورية الخوف

الصدفة العمياء، ربما، تقود «عزيز جواد» لاكتشاف سردية «وادي الفراشات»؛ عندما يوصل بسيارة التاكسي العجوز المتبرع بالتقاط الأجساد اللينة ويتولى دفنها في الوادي المنخفض قرب مدينة «ديالى». هذه الصدفة تشبه إلى حد بعيد صدفة دخول البوليس لمكتبة الخال «جبران» وعثورهم على كتاب «جمهورية الخوف» فيجري سجنه بتهمة الكتاب الممنوع المعارض لسردية الديكتاتور. لكن الكتاب يصل إلى «جواد» عن طريق صديق الأمس، الـ«متدين»، حالياً، المنقلب على تاريخ تشرده وضياعه؛ فكيف لمنقلب أن يعتمد السرديات الليبرالية المعارضة؛ وهو الأقرب لسردياته الدينية ذات الأصل المعروف «فلسفتنا مثلاً»؟ لكن الانتظام المفترض في «وادي الفراشات» يعيد تفسير فقدان المسوغات الكافية لسردية الصدفة ذاتها؛ فحياة «جواد» هي سلسلة مصادفات؛ مصادفة الحياة جوار أب فاقد لمقدرة الكلام والتعبير عن الذات وتحول هذه المصادفة، من ثمَّ، لقدر لا سبيل للخلاص منه بمواصلة حياة ناقصة تحت سلطة الأخ الكبير. فهل انتهت المصادفات؟ حياة «عزيز جواد» سلسلة مصادفة آخرها تعثره، بالصدفة، على سردية «وادي الفراشات»؛ فالمصادفة هي المسوّغ، يا للمفارقة، للحب الجامع بينه و«تمارا»، الشابة المنحدرة من عائلة غنية، ثم الزواج منها. وهي المفسِّرة لفصله من عمله الوظيفي الحكومي. لا قصة متماسكة سوى المصادفة ذاتها. حتى اللحظة المؤدية إلى القصة الرئيسة، قصة الفراشات، وهي خطف «سامر» من مجهولين من باب منزلهم لا تفسير متماسك لها سوى أنها تمهِّد لقصة الفراشات وواديها. كأن الرواية تقول لنا ضمناً إن الحياة في بلاد الديكتاتور، ثم في حياة ضحاياه، تفتقر إلى جدارة التسويغ. ولا بأس، فهذا ذاته هو شأن سرد ما بعد الحداثة؛ فهو سرد بلا مسوغات وتفسيرات أساسية، سرد مخطوطة تتولى الرواية الجديدة إعادة كتابتها بمنظور ومنطق مختلف.

وادي الفراشات... الجدل الخفيّ

لِنَعُدْ إلى أصل القصة، بالضبط إلى السؤال الرئيس: ما موضوع الرواية؛ بل ما موضوع المخطوطة المقترحة؟ ثمة مساران مختلفان، ظاهرياً، وهما المتحكمان في عالم رواية «وادي الفراشات». المسار الأول تمثِّله قصة «عزيز جواد»، وقد وجدنا أنها حياة مؤجلة تغذِّيها صدف مختلفة. هذا المسار يشغل المساحة الكتابية الكبرى من حجم النص؛ إذ يؤلف ثلاثة فصول من خمسة فصول هي الحجم الكتابي الكلي لنص الرواية. وبلغة الأرقام فإن قصة عزيز جواد تشغل مائة وواحداً وخمسين صفحة، فضلاً عمَّا تشغله في الفصلين المتبقيين. وتشغل مخطوطة «دفتر الأرواح»، وهي الأصل في المخطوطة غير المنتهية أو المكتملة، شأن مدونة الليالي الشهيرة؛ فهي ألف ليلة وليلة، ومخطوطة الأرواح لا تنتهي، ويتولى «آخرون» كتابتها، أو إضافة الفصول إليها. ولا نترك هذه الموضوعة من دون حفر إضافي يعطي المخطوطة أهمية مضافة؛ فالعجوز يترك المخطوطة خلفه في سيارة «جواد» ويذهب لحاله، بعد أن دفن فراشة جديدة هناك في «وادي الفراشات»، ويجري إيهامنا بأن العجوز قد ترك «المصحف»، ونكتشف مع «جواد» أن المصحف ليس سوى نسخة العجوز من «دفتر الأرواح». هذا الإيهام ذو وظيفة مفيدة تعطي قيمة جديدة للمخطوطة؛ فالتسوية الأولية، غير المقصودة حتماً بين «المصحف»، وهو هنا كتاب «القرآن»، ودفتر الأرواح لا يلبث أن يكشف عن معنى ودلالة غير معلنة لتوصيف «المصحف»؛ فالأصل اللغوي للمصحف كما يقول ابن منظور هو أن المصحف: «وإنَّما سُمِّي المصحفُ مصحفاً؛ لأنه أُصْحِفَ، أي جُعل جامعاً للصُّحُفِ المكتوبة بين الدَّفتَّين». وهو معنى يتجاوز الدلالة الاصطلاحية للكتاب، ويظل فاعلاً عند معنى الصحف المجموعة بين دفتي كتاب، وهو المقصود هنا بصيغة الكتاب غير النهائي أو غير المكتمل مما ينسجم مع دلالة «المخطوطة» غير المكتملة. لكنَّ هذه الصلات الحقيقية أو المتوهَّمة لا تلغي المفارقة الأساسية مما لا تخفيه الرواية؛ فالقصة الأساسية هي قصة «عزيز جواد» وليست حكاية أو مخطوطة «دفتر الأرواح». هذا ما تدَّعيه الأرقام ويعززه الحجم الكتابي الفعلي للمسارين في الرواية. فهل تؤيد الدلالات الأولى لعنوان الرواية «وادي الفراشات» الافتراض المتقدِّم؟

تفتتح الرواية عالمها بزيارة أخيرة من الخال «جبران» لابن أخته «عزيز جواد» في محبسه. وفي الزيارة تَرِد الإشارة الأولى لحكاية «دفتر الأرواح»؛ إذ يسلِّم الخال «المخطوطة» ويذهب إلى قبره المنتظر. ثم يجري تغييب المخطوطة وأثرها حتى يتعثر «عزيز جواد» بالشيخ العجوز، دافن جثث الأطفال في وادي الفراشات. فهل يُفيد هذا الأمر أن السرد يأخذ بالتصدع جراء تنازع موضوعين أو قصتين لا تصل إحداهما بالأخرى على عالم الرواية؟ هل نذهب، نحن القراء، مع ظاهر النص بحجومه وانحيازاته أم نفترض أن وادي الفراشات هو الدلالة الكلية للقصص كلها؟ فهو، بهذا التوجيه، أقرب ما يكون إلى الدلالة الكلية لما يُصطلح عليه بجامع النص؟ ربما؛ فالتصدع وتنازع القصص والموضوعات، هما شأن قصص ما بعد حطام الديكتاتوريات، وهما مآل المخطوطات غير المكتملة أيضاً. وأياً ما كان تأويل التنازع المفترَض في «وادي الفراشات» فإن الرواية تكافح لأن تنجو بجلدها بألا تنحاز إلى أيٍّ من المصادفات الصانعة لعالمها. وتحاول، بقدر ما تستطيع، ألا تتورط بأي تأويل ذي انحياز معلن، ولكن هيهات؛ فهي «وداي الفراشات»، وهي قصة «عزيز جواد»، وهي كذلك «دفتر الأرواح»!

* ناقد عراقي


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روب

جهاد مجيد
ثقافة وفنون قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

يحوّل عاطف عبيد في مجموعته القصصية «راوتر شيخ البلد» فضاء قريته بشوارعها وأزقتها ومفارقات حياتها وبشرها إلى مادة خصبة للحكي، واصطياد القصص والحكايات،

جمال القصاص
ثقافة وفنون «السيدة الكبرى»... سيرة عجيبة لشاعرة أندلسية

«السيدة الكبرى»... سيرة عجيبة لشاعرة أندلسية

يمتزج التاريخ والخيال معاً في رواية «السيدة الكبرى» الصادرة في القاهرة عن دار «الكرمة» للكاتبة شيرين سامي، حيث تدور الأحداث في القرن الخامس الهجري حول قصة عجيبة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون جمعة اللامي

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى دي

محمد خضير سلطان
ثقافة وفنون هيغل

هيغل... ليس فيلسوفاً؟

لم يحيّر عالمَ الفكر أحدٌ مثلما فعل هيغل. ما زلت ترى في أي معرض كتاب في العالم وبكل لغات الدنيا كتباً جديدةً عن هيغل بعد مائتي سنة من موته.

خالد الغنامي

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟
TT

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة».

وهيرفي لوتيلي حاز جائزة الكونغور عام 2020 عن روايته «الخلل»، وهو من المشهود لهم بالبراعة والبداعة الأدبية، وكان موضوع التباري بين الطرفين كتابة قصة قصيرة بوليسية. لماذا بوليسية والكاتب لوتيلي الذي حاز «الكونغور» ليس كاتباً بوليسياً؟ فروايته التي أحرز بها «الكونغور» سوريالية فيما وُصفت روايته البوليسية «وصية حجر الذئب» بالتقليدية؟ وإذا كان قد أثبت براعته في الرواية، فلماذا لا يكون التباري في الرواية؟ أرغبةٌ في الحصول على النتيجة في وقت أسرع، فلن يكون معقولاً ولا ممكناً أن نطلب من روائي أن ينجز رواية في أسبوع؟ وهذا مؤشر قوي على عدم انطلاق المباراة على أُسس عادلة، وكذلك على تصميم سابق للحصول على النتيجة وإعلانها «إعلامياً»، وهي فوز مساعد الذكاء الاصطناعي «كلاود Claude» على «الروائي» هيرفي لوتيلي في كتابة «قصة قصيرة» بوليسية! وروايته الكونغورية موصوفة بالسريالية! فمن الثابت نقدياً في عالم السرد أنه ليس شرطاً أنَّ مَن يبرع في كتابة الرواية يبرع في كتابة القصة القصيرة، وكذلك لا يحصل العكس. وثابت أيضاً أن ماركيز لم يبرع في كتابة القصة القصيرة كبورخس، ولا الثاني برع في كتابة الرواية كالأول. ومحمد خضير لم يبرع في كتابة الرواية كألبير كامو، ولا الأخير برع في كتابة القصة القصيرة كمحمد خضير. والأمر لا يختلف كثيراً عن براعة السياب في منجزه الشعري الكبير، وتواضع ما كتبه من قصص قصيرة، أو تفوُّق منجز حسب الشيخ جعفر الشعري على ما كتبه سردياً ومسرحياً. ولكن ليس في هذا حسب اللاعدالة التي انطلقت بها مباراة لوتيلي وكلاود، فمن اللامنطقي تحديد البداية وتحديد النهاية لطرفي التباري في كتابة عمل أدبي؛ فمن المعروف أن البداية والجملة الأولى تحديداً أصعب ما يواجهه كاتب القصة، وجملة البداية هي البوابة التي تتدفق عبرها الجمل التالية.

القاصُّ يفكر ملياً في جملة البداية، أما ما يليها من جمل فستنساب كأنها مسحوبة بمغناطيس جملة البداية؛ وقد يتوقف القاص كثيراً قبل أن يختار جملة عمله الأولى؛ فهي منطلقه في مشواره لإبداع ذلك العمل، وهي وحدها التي تتفرد بالتسمية من دون كل جمل النص القصصي ما عدا جملة النهاية التي لا تقلُّ معاناة الكاتب في اختيارها عن الجملة الأولى، فهي المرسى الذى يراه مناسباً لرسوِّ سفينته الناقلة حمولة قصته إلى شاطئ متلقيها. ولذا فتحديد جملة النهاية في مباراة هيرفي - كلاود تجسِّد اللاعدالة فيها وبالاً على الكاتب، بينما هي نوال لكلاود؛ فالأخير غُذْيَّ إلكترونياً كي يبني على ما يقدَّم له من معطيات وتحديداً جملة البداية وجملة النهاية الممتلئتين بحمولة قصصية تُفضي الى محتويات المتن.

مُنح كلاود امتيازاً فيما قيِّدت مخيلة هيرفي وأُثِّر سلباً في حرية خياراتها. ثم إن «مُلقِّن» كلاود رافقه طيلة فترة عمله «فوق رأسه» يوجهه نحو ما غُذْيَّ به، نحو مخزوناته التي يجاريها، لكن هل عملُ المخيلة البشرية المبدعة هو مجاراة ما أُبدِعَ سابقاً؟ كيف إذن سنحصل على أعمال أدبية مبتكرة لا مثيل سابقاً لها؟!

إن تاريخ تطور الأدب والفن هو تاريخ ابتكار اللامُبتكَر واجتراح اللامُجترَح «براءة اختراع»، وهذا هو الأساس في وصول الإبداع إلى عوالم جديدة، ومدارس جديدة، وتقنيات جديدة. ما أتى به جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروست لم يكن مماثلاً لسابق؛ لم يكن مثله ما قد سبقه.

إنها طفرة كالطفرات الوراثية البيولوجية، وكذلك الحال لما أبدعه كافكا، وكتَّاب أمريكا اللاتينية بغرائبيتهم، وفرسان حركة الشعر الحر في أدبنا العربي. والأمر ذاته في كل ابتكار للأساليب والتقنيات الفنية التي تبتكرها المخيلة الإبداعية لأول مرة؛ كاللامعقول والشيئية والفانتازية، التي اجترحتها المخيلة لتُغاير ما مضى لا لتجاريه او تجتره كما يحصل في منتجات الذكاء الاصطناعي. إن وقفة نقدية جادة ستوضح لنا أنه سيُخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أقل مما طلبناه فيما تقدم. وهذا ما أثبتته الباحثة الجادة الدكتورة نادية هناوي في تجربة اختباراتها للذكاء الاصطناعي وأعلنته في مقالها «فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني» المنشور في جريدة «المدى» بتاريخ 30 - 6 - 2024، مُثبتةً فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الأعمال الأدبية المتميزة -على الرغم من أن المطلوب منه ليس مضاهاة ما هو مُنجَز، بل تجاوزه لكي يحل محل مخيلة الإبداع البشري التي من طبيعتها تجاوز نفسها بالابتكار.

وفيما يلي نص ما توصلت إليه د.هناوي: «سألنا الذكاء الاصطناعي أن يكتب دراسة نقدية عن قصة (صحيفة التساؤلات) للقاصِّ المعروف محمد خضير، وأخرى عن رواية (المخطوط القرمزي) للكاتب الإيطالي أنطونيو كالا، وثالثة عن قصيدة مالك بن الريب الشهيرة (ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً)، ورابعة عن قصيدة محمود درويش (خطبة الهندي الأحمر)، فكانت إجابات chatGPT-4o ساذجة وبسيطة وإحالات عبارة عن شروح ومعلومات لا جديد فيها البتّة؛ كونها تقوم على تجميع بيانات متوفرة أصلاً على الشبكة العنكبوتية وتجري محاكاتها بطريقة التنظيم والتخطيط مما لا يقدر الإنسان القيام به، لكن ما يميزه عليها أنه قادر على الإبداع وابتكار ما هو غير مودع داخل تلك الشبكة».

وتأسيساً على ما تقدم يمكننا الاستنتاج أن برمجيات الذكاء الاصطناعي لن تُنتج لنا رواية تغيِّر مسار السرد الروائي كـ«يولسيس»، ولا قصيدة تعمل ما عملته «الأرض اليباب» في الشعر الإنجليزي والعالمي، ولا رواية بالرموز والدلالات الفكرية التي ابتدعها نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»، لعل تجارب مماثلة لما قامت به د.هناوي تخفف من غلواء المنبهرين والمروجين لفكرة موت الإبداع الأدبي والفني على يد الذكاء الاصطناعي، الذين قد لا يكون باعث بعضهم الانبهار وحده، فربما يخالطه شيء من الحساسية من المبدعين -أدباء وفنانين- وما يحظى به تفردُهم آنياً وتاريخياً.

وقد أعقبت ذلك تقارير علمية من مواقع العمل الميداني في مراكز الذكاء الاصطناعي تثبت بوضوح عجز الذكاء الاصطناعي في ميدان الأدب والفن، منها ما أكده بيل جيتس المؤسس المشارك في شركة «مايكروسوفت» من أن «بعض المهن ستظل بمنأى عن استبدال الآلات بالبشر»، وقال عن الذكاء الاصطناعي تحديداً: «لن يحل محل العقل البشري في المجالات التي تتطلب إبداعاً وذكاءً عاطفياً»، (موقع البيان رضا أبو العينين 30 - 3 - 2025). كما وصف علماء مختصون، مثل إميلي بندر، عمل النماذج اللغوية الكبيرة بأنها ببّغاوات عشوائية.

أما دوكلاس هوفستاتر، عالم الإدراك الأمريكي فيقول إن كل ما تقدمه هذه النماذج «فراغٌ مذهلٌ مخفيٌّ تحت مظهره البرَّاق والسطحي». أما الباحثة مارلين كنعان، أستاذة الفلسفة والحضارات، فتجزم بأن الذكاء الاصطناعي لن يُشكل خطراً على الفنون والآداب. وتخلص الدراسة إلى «أن الإبداع الحقيقي ينبع من الإنسان، وأن هذه النماذج مجرد أدوات يمكن أن تساعدنا في عملنا»، وأيضا يكمن جوهر الإبداع البشري في وجود أفكار ورؤى فريدة يسعى الفرد إلى نقلها والتعبير عنها، (من دراسة بعنوان: لماذا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التفوق على البشر في مجال الكتابة الإبداعية - موقع البوابة التقنية في 7 - 4 - 2025). المسابقة مؤشر على تصميم سابق للحصول على النتيجة وإعلانها «إعلامياً» وهي فوز مساعد الذكاء الاصطناعي