«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

أزهر جرجيس يكتب سيرة أخرى للبلاد التي صارت مقبرة منسية

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة
TT

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

ثمة انتظام حكائي سردي موضوعاتي تحرص رواية «وادي الفراشات» لأزهر جرجيس («مسكيلياني» - تونس/ «الرافدين» - بغداد 2024) على اقتفاء آثاره شبه الثابتة في روايتين سابقتين لأزهر جرجيس: «النوم في حقل الكرز» 2019، ثم «حجر السعادة» 2022. وقد شكَّلتا مدونة سردية ذات عوالم حكائية وموضوعاتية شبه مكررة. وقد نقول إن التكرار هو سمة تقوم عليها أغلب المدونات، بل إنه من غير الممكن وصف منظومة سردية بالمدونة من دون سمة التكرار. فلا ضير مما هو أساسي. إنما تتخذ النصوص المختلفة اتجاهاتٍ وموضوعاتٍ ضمن الإطار العام للمدونة، سوى أن التكرار يولِّد ضغطاً يُنتج، غالباً، تحوَّلاً أو اختلالاً في العالم السردي. في الروايتين السابقتين، كان لدينا موضوعان كبيران. فقد انشغلت «النوم في حقل الكرز» بسردية أساسية هي «العودة» المتخيلة للبلاد بعد منفى طويل. وكانت سردية الاحتجاج المنفتحة على عوالم السرد التشردي هي الموضوع الأساسي في «حجر السعادة». فهل ثمة موضوع جديد تنهض به رواية «وادي الفراشات»؟

دفتر الأرواح

أسهل طريقة لكتابة رواية ناجحة هي أن تعتمد نظام المخطوطة. نلمس حدود هذه القناعة بأكثر من سبيل في «وادي الفراشات». لنتذكر أنها الطريقة ذاتها التي اعتمدت في إنجاز الروايتين السابقتين، وقد حققتا نجاحاً ملحوظاً «سواء لناحية الانتشار والمقروئية، أو الوصول إلى مرتبة متقدِّمة في جوائز الرواية العربية. فهل هذا تسويغ كافٍ لتكرار المحاولة للمرة الثالثة؟ الحجة المقنعة تفترض أن نظام المخطوطة قد وفَّر الانتظام السردي المطلوب للروايتين. ثمة، إذاً، راوٍ يخبرنا، ابتداءً، أن خاتمة مسبقة تُصاغ أمامنا في مطلع الرواية. فهل الاستشعار أو الإخبار المسبق بالخاتمة هو أمر ذو وظيفة بنائية أساسية في الرواية؟ أغلب الظن أن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بإشكالية أساسية تتصل بنظام المخطوطة ذاته. لنختصر الإجابة ونسأل: لماذا يبدو نظام المخطوطة فاعلاً في كتابة رواية ناجحة؟ أفكر أن المخطوطة تمكِّن الرواية من أمور كثيرة أهمها، ربما، إمكانية إعادة كتابة الحكاية ذاتها بمنطق آخر. وهذه الإمكانية هي الطريق الأجدى لاقتراح تاريخ جديد، يختلف، أو يتعارض، جذرياً مع التاريخ السردي المعتمد. فأي تاريخ تقترحه «وادي الفراشات»؟

تاريخ «الأرواح»، أو تاريخ «الموتى»، هي المهمة الجليلة التي يتركها «الموتى» للأحياء؛ إذ إن كتابة تاريخ خاص للموت هو شأن الأحياء، إنما «الموتى» فعلوا ما بوسعهم وماتوا تاركين للأحياء مهمة كتابة تاريخهم من بعدهم. لكن أي «أرواح» يريد «عزيز جواد»، بطل الحكاية وراويها، أن يكتبها؟ تقترح الرواية لنفسها نوعاً جديداً من الأرواح، وهي أرواح «الفراشات» غير المسماة، أو ممن لم يُمنحوا حتى فرصة أن تكون لديهم أسماء بعينها. فيكون بعض مهمة المؤرخ أن يسمي الأجساد اللقيطة الملقاة على الأرصفة أو في حاويات القمامة، قبل أن يدفنهم في منخفض، أو سفح التل، خارج العاصمة، وسيسمي المقبرة المقترحة «وادي الفراشات». والمفروض، أو مثلما تقترح الرواية ذاتها، ابتداءً، من عنوانها، أن جمع الفراشات الميتة من الشوارع هو الموضوع البديل عن الموضوعات الكبيرة شأن سردية الحياة في بلاد الديكتاتور، أو أن تتعلَّق الرواية بموضوعة الاحتجاج. فهل تريد «وادي الفراشات» أن تعيد السرد إلى إيقاعه الهادئ العبيد، إلى حد ما، عن صخب السرديات الكبيرة؟

جمهورية الخوف

الصدفة العمياء، ربما، تقود «عزيز جواد» لاكتشاف سردية «وادي الفراشات»؛ عندما يوصل بسيارة التاكسي العجوز المتبرع بالتقاط الأجساد اللينة ويتولى دفنها في الوادي المنخفض قرب مدينة «ديالى». هذه الصدفة تشبه إلى حد بعيد صدفة دخول البوليس لمكتبة الخال «جبران» وعثورهم على كتاب «جمهورية الخوف» فيجري سجنه بتهمة الكتاب الممنوع المعارض لسردية الديكتاتور. لكن الكتاب يصل إلى «جواد» عن طريق صديق الأمس، الـ«متدين»، حالياً، المنقلب على تاريخ تشرده وضياعه؛ فكيف لمنقلب أن يعتمد السرديات الليبرالية المعارضة؛ وهو الأقرب لسردياته الدينية ذات الأصل المعروف «فلسفتنا مثلاً»؟ لكن الانتظام المفترض في «وادي الفراشات» يعيد تفسير فقدان المسوغات الكافية لسردية الصدفة ذاتها؛ فحياة «جواد» هي سلسلة مصادفات؛ مصادفة الحياة جوار أب فاقد لمقدرة الكلام والتعبير عن الذات وتحول هذه المصادفة، من ثمَّ، لقدر لا سبيل للخلاص منه بمواصلة حياة ناقصة تحت سلطة الأخ الكبير. فهل انتهت المصادفات؟ حياة «عزيز جواد» سلسلة مصادفة آخرها تعثره، بالصدفة، على سردية «وادي الفراشات»؛ فالمصادفة هي المسوّغ، يا للمفارقة، للحب الجامع بينه و«تمارا»، الشابة المنحدرة من عائلة غنية، ثم الزواج منها. وهي المفسِّرة لفصله من عمله الوظيفي الحكومي. لا قصة متماسكة سوى المصادفة ذاتها. حتى اللحظة المؤدية إلى القصة الرئيسة، قصة الفراشات، وهي خطف «سامر» من مجهولين من باب منزلهم لا تفسير متماسك لها سوى أنها تمهِّد لقصة الفراشات وواديها. كأن الرواية تقول لنا ضمناً إن الحياة في بلاد الديكتاتور، ثم في حياة ضحاياه، تفتقر إلى جدارة التسويغ. ولا بأس، فهذا ذاته هو شأن سرد ما بعد الحداثة؛ فهو سرد بلا مسوغات وتفسيرات أساسية، سرد مخطوطة تتولى الرواية الجديدة إعادة كتابتها بمنظور ومنطق مختلف.

وادي الفراشات... الجدل الخفيّ

لِنَعُدْ إلى أصل القصة، بالضبط إلى السؤال الرئيس: ما موضوع الرواية؛ بل ما موضوع المخطوطة المقترحة؟ ثمة مساران مختلفان، ظاهرياً، وهما المتحكمان في عالم رواية «وادي الفراشات». المسار الأول تمثِّله قصة «عزيز جواد»، وقد وجدنا أنها حياة مؤجلة تغذِّيها صدف مختلفة. هذا المسار يشغل المساحة الكتابية الكبرى من حجم النص؛ إذ يؤلف ثلاثة فصول من خمسة فصول هي الحجم الكتابي الكلي لنص الرواية. وبلغة الأرقام فإن قصة عزيز جواد تشغل مائة وواحداً وخمسين صفحة، فضلاً عمَّا تشغله في الفصلين المتبقيين. وتشغل مخطوطة «دفتر الأرواح»، وهي الأصل في المخطوطة غير المنتهية أو المكتملة، شأن مدونة الليالي الشهيرة؛ فهي ألف ليلة وليلة، ومخطوطة الأرواح لا تنتهي، ويتولى «آخرون» كتابتها، أو إضافة الفصول إليها. ولا نترك هذه الموضوعة من دون حفر إضافي يعطي المخطوطة أهمية مضافة؛ فالعجوز يترك المخطوطة خلفه في سيارة «جواد» ويذهب لحاله، بعد أن دفن فراشة جديدة هناك في «وادي الفراشات»، ويجري إيهامنا بأن العجوز قد ترك «المصحف»، ونكتشف مع «جواد» أن المصحف ليس سوى نسخة العجوز من «دفتر الأرواح». هذا الإيهام ذو وظيفة مفيدة تعطي قيمة جديدة للمخطوطة؛ فالتسوية الأولية، غير المقصودة حتماً بين «المصحف»، وهو هنا كتاب «القرآن»، ودفتر الأرواح لا يلبث أن يكشف عن معنى ودلالة غير معلنة لتوصيف «المصحف»؛ فالأصل اللغوي للمصحف كما يقول ابن منظور هو أن المصحف: «وإنَّما سُمِّي المصحفُ مصحفاً؛ لأنه أُصْحِفَ، أي جُعل جامعاً للصُّحُفِ المكتوبة بين الدَّفتَّين». وهو معنى يتجاوز الدلالة الاصطلاحية للكتاب، ويظل فاعلاً عند معنى الصحف المجموعة بين دفتي كتاب، وهو المقصود هنا بصيغة الكتاب غير النهائي أو غير المكتمل مما ينسجم مع دلالة «المخطوطة» غير المكتملة. لكنَّ هذه الصلات الحقيقية أو المتوهَّمة لا تلغي المفارقة الأساسية مما لا تخفيه الرواية؛ فالقصة الأساسية هي قصة «عزيز جواد» وليست حكاية أو مخطوطة «دفتر الأرواح». هذا ما تدَّعيه الأرقام ويعززه الحجم الكتابي الفعلي للمسارين في الرواية. فهل تؤيد الدلالات الأولى لعنوان الرواية «وادي الفراشات» الافتراض المتقدِّم؟

تفتتح الرواية عالمها بزيارة أخيرة من الخال «جبران» لابن أخته «عزيز جواد» في محبسه. وفي الزيارة تَرِد الإشارة الأولى لحكاية «دفتر الأرواح»؛ إذ يسلِّم الخال «المخطوطة» ويذهب إلى قبره المنتظر. ثم يجري تغييب المخطوطة وأثرها حتى يتعثر «عزيز جواد» بالشيخ العجوز، دافن جثث الأطفال في وادي الفراشات. فهل يُفيد هذا الأمر أن السرد يأخذ بالتصدع جراء تنازع موضوعين أو قصتين لا تصل إحداهما بالأخرى على عالم الرواية؟ هل نذهب، نحن القراء، مع ظاهر النص بحجومه وانحيازاته أم نفترض أن وادي الفراشات هو الدلالة الكلية للقصص كلها؟ فهو، بهذا التوجيه، أقرب ما يكون إلى الدلالة الكلية لما يُصطلح عليه بجامع النص؟ ربما؛ فالتصدع وتنازع القصص والموضوعات، هما شأن قصص ما بعد حطام الديكتاتوريات، وهما مآل المخطوطات غير المكتملة أيضاً. وأياً ما كان تأويل التنازع المفترَض في «وادي الفراشات» فإن الرواية تكافح لأن تنجو بجلدها بألا تنحاز إلى أيٍّ من المصادفات الصانعة لعالمها. وتحاول، بقدر ما تستطيع، ألا تتورط بأي تأويل ذي انحياز معلن، ولكن هيهات؛ فهي «وداي الفراشات»، وهي قصة «عزيز جواد»، وهي كذلك «دفتر الأرواح»!

* ناقد عراقي


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.