هل الشعر والفن قابلان للتوريث؟

أبناء الشعراء والإقامة الصعبة في كنف الظلال الشاهقة للعبقرية

إبراهيم اليازجي
إبراهيم اليازجي
TT

هل الشعر والفن قابلان للتوريث؟

إبراهيم اليازجي
إبراهيم اليازجي

لم تأنس أمة من الأمم بالشعر وتطرب له وتقدِّمه على ما سواه من الفنون كما هو حال العرب الأقدمين الذين احتفوا بولادات الشعراء وحوَّلوها إلى أعراس للبهجة والانتشاء باللغة والشعور بالظفر. وقد أكد أبو عثمان الجاحظ في كتابيه «البيان والتبيين» و«الحيوان» أن العرب يتميزون عن سائر الأمم بكونهم مفطورين على الشعر، وبأنه «مقصور عليهم بالبديهة والسليقة». ولعل أكثر ما يؤكد التصاق العرب بهذا الفن منذ القدم، هو اهتمام غالبيتهم العظمى، ليس فقط بقراءة الشعر وسماعه وحفظه، بل بنظمه وتأليفه، وصولاً إلى حمل لقبه الأسمى بأي طريقة أو ثمن.

وإذا كان هاجس الانتساب إلى أندية الشعر المأهولة بكل صنوف «الشياطين»، ما انفك يتحكم بكل عربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا، فإن هذا الهاجس يرتفع منسوبه إلى الحدود القصوى لدى أبناء الشعراء، وبخاصة الكبار منهم، حيث يرى هؤلاء أنهم الطرف الأولى بالجلوس على كرسي الكتابة الشاغر ومتابعة المسيرة السلالية المباركة.

على أن ما تقدم لا يعني بأي حال إنكاراً مطلقاً لمبدأ الوراثة الشعرية، والفنية على نحو عام، خصوصاً أن الباحثين والمتخصصين في علوم الجينات، يؤكدون أن ما يرثه الأبناء عن الآباء والأمهات والأسلاف، لا يقتصر على ملامح الوجوه وبنية الأجساد وطبيعة الأمراض، بل تتسع دائرته لتشمل الطبائع والميول الفطرية والمواهب العلمية والأدبية. لكنَّ غالبية الأبناء يغضُّون النظر عن كون الحقيقة نسبيةً وحمَّالةَ أوجه، فيعمدون إلى إسباغ لقب «الشاعر» على أنفسهم، بمجرد إهالة التراب على ضريح الأب الراحل، ليس لأنهم كانوا عاجزين عن فعل ذلك في ظل حضوره الطاغي فحسب، بل خوفاً من أن يسبقهم إلى إعلان التنصيب أخٌ أو أخت «مُضاربان»، أو منافسٌ آخر متنطح للوراثة.

ومع ذلك فإن من الظلم بمكان الإنكار على الأبناء الموهوبين، حقهم الطبيعي في تحقيق ذواتهم وإنجاز مشروعهم الإبداعي الخاص، لمجرد أنهم وُلدوا لآباء شعراء أو أمهات شاعرات، رغم أن وقائع التاريخ تؤكد ندرة الحالات التي كانت فيها المواهب موزَّعة بالتساوي بين الآباء والأبناء. فحيث تمتع الآباء بموهبة متَّقدة النيران بدا أبناؤهم كأنهم يتغذّون من فتات الجمر السُّلاليّ قبل تحوله إلى رماد. وقد يكون العكس في المقابل هو الصحيح، بحيث لم يكتفِ بعض الأبناء بتلقف جينات آبائهم، بل إنهم أمعنوا في تجاوزهم إلى الحد الذي جعل من قامة المورِّث الإبداعية، شديدة القِصر إزاء قامة الوريث.

واللافت أن النقد العربي القديم لم يُغفل ظاهرة انتقال الشعر بالوراثة من الأب إلى الابن أو الحفيد، لا بل إن ابن سلام الجمحي يتحدث عن بعض الأبناء الذين كانوا ينظمون أشعاراً وينسبونها إلى آبائهم بعد رحيلهم، كما فعل ابن متمم بن نويرة. كما اشتكى الأصمعي من الأمر نفسه حين اعترف بأنه وجد صعوبة بالغة في جمع أشعار الأغلب العجلي، لأن أبناءه ظلوا «يزيدون في شعره حتى أفسدوه». كما تحدث ابن رشيق عن الأسر التي توارثت الشعر أباً عن جد على امتداد أجيال ستة.

والواقع أن الحالة الأكثر رسوخاً في ذاكرة العرب الجمعية هي حالة زهير بن أبي سلمى وابنه كعب، ليس فقط من زاوية الموهبة الشعرية التي ورثها الثاني عن الأول، بل لأن كلاً من الأب والابن استطاع أن يخلد اسمه وشعره عبر الزمن، ودون أن يكون كعب نسخةً مطابقةً من أبيه. صحيح أن بعض النقاد الأقدمين وضعوا زهير في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وأشاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) وبعض الصحابة بمعلّقته الميمية، لما تتضمنه من نبرة حكمية ونزوع أخلاقي، فيما ذهب آخرون إلى تصنيف الابن على أنه واحد من شعراء الطبقة الثانية. لكن الفارق بين الشاعرين لم يكن واسعاً بأي حال. ومع أن كعباً لم يكن نسخة مطابقة من أبيه، بل نحا باتجاه قصيدة أكثر ليونة، وأقل احتفاءً بالمهارة البلاغية والصنيع اللفظي، إلا أن تشبيهه بأبيه من البعض، كان بالنسبة إليه أمراً باعثاً على الاعتزاز. وقد قال في ذلك:

أقول شبيهات بما قال عالماً

بهنَّ ومن يشبهْ أباه فما ظَلَمْ

ورغم أن كعباً لم يكن الوريث الوحيد لموهبة أبيه، بل شاركه في ذلك أخوه بُجير وابنه عقبة وحفيده العوّام، فإن نصيبه من الموهبة كان أكبر بكثير من نصيب الآخرين، الذين لم تغادر قصائدهم خانة النظم الباهت والخيال الشحيح. وما يجدر التوقف عنده أيضاً هو أن زهير الذي اكتشف باكراً موهبة ابنه، حاول أن يُثنيَه عن نظْم الشعر، لا غيرةٍ منه أو الخوف من تجاوزه إياه، بل مخافة أن «يتسفَّل ويأتي بالضعيف الذي يشوّه مجد الأسرة». إلا أنه إزاء إصرار ابنه على النظم لم يجد بُداً من تثقيفه وتهذيب لسانه وتزويد شاعريته بما يلزمها من أسباب الرعاية والنصح والاهتمام، كما كان يخرج به إلى الصحراء فيُسمعه بيتاً أو شطراً من بيت ويطلب إليه أن يكمله، إلى أن نضج واشتد عوده. وهو ما يقودنا إلى الاستنتاج أن الموهبة الموروثة لا تكفي وحدها للبلوغ بصاحبها إلى شاطئ التفرد الإبداعي، بل يجب أن تظل مضفورة بالإرادة والمشقة والكدح المعرفي.

لكنَّ نموذج الشاعر الكبير الذي يلد شاعراً يبزّه في الموهبة والتفرد، كما هو حال زهير وكعب، ظل نادر الحدوث، ولم يكن قابلاً للتعميم، بحيث يكفي أن نلقي نظرة متأنية على تاريخ الشعر العربي كي نتأكد من هذه الفرضية. فالقليلون من المهتمين بالأدب يعرفون أن الابن الأكبر لأبو تمام، كانت لديه مَلَكَة نظم القريض، ولكنه لم يكن يجرؤ في ظل الحضور الطاغي لأبيه على إفشاء الأمر على نحو واسع. حتى إذا رحل الأب انبرى تمّام للحلول مكانه، ممتدحاً والي خراسان عبد الله بن طاهر، الذي اعتاد أبوه مدحه، بقصيدة جاء فيها:

حيّاك رب الناس حيّاكا

إذ بجمال الوجه روّاكا

بغداد من نورك قد أشرقتْ

وأورقَ العود بجدْواكا

ورغم أن ابن طاهر لاحظ ما في شعر تمام من ركاكة، فقد وصله ببعض المال قائلاً له وقد آنس في سلوكه شيئاً من الطرافة: «لئن فاتَكَ شعر أبيك فلم يفُتْك ظُرفه».

وقد تكون تجربتا الشاعرين اللبنانيين ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم في العصور المتأخرة، هي الأقرب إلى تجربة سلفيهما زهير وكعب، حيث لم يكتفِ الابن بوراثة الأب على المستوى الشعري، بل عمل جاهداً على رفد موهبته الفطرية بكل أسباب الثقافة والتحصيل المعرفي وإتقان كثير من اللغات، وهو الذي تمكنت قصيدته الشهيرة «تنبَّهوا واستفيقوا أيها العربُ»، من أن تحرك الوجدان العربي بأسره في مطلع عصر النهضة.

على أن مسألة الوراثة الإبداعية أخذت مع رائدة الحداثة نازك الملائكة منحًى مختلفاً عمَّا سبقها. فنازك التي ورثت موهبة الشعر عن أبيها وأمها، لم تقبل الإقامة في كنف النَّظْم الباهت للطرفين، بل ذهبت بعيداً في المغامرة، لا لتنقلب على الأبوّة الشعرية البيولوجية فحسب، بل على أبوّة العمود الخليلي ذي الطابع الذكوري برمته. وحين عبّرت في قصيدة «الكوليرا»، التي تتكرر فيها مفردة الموت بشكل ملحوظ، عن إصرارها على المضيّ في مغامرة التجديد، لم يُثْنِها عن مغامرتها تلك تعليق أبيها، صادق الملائكة، على القصيدة بقوله ساخراً:

لكل جديد بهجةٌ غير أنني

رأيت جديد (الموت) غير جديدِ

وإذا كان لي أن أخلُص إلى القول بأن العبقرية الشعرية والفنية هي، عدا استثناءات قليلة، عاقرٌ لا تنجب، أو غيرُ قادرة على استيلاد عبقرية مماثلة، فليس ذلك افتئاتاً على الحقيقة، بل هو استنتاج تؤيّده عشرات الأدلة والشواهد. ولعل أفضل تأكيد لصحته، هو ما جاء على لسان عبد الله الخوري في رثاء والده الأخطل الصغير، حين خاطب أباه الراحل في حفل تكريمه بالقول:

لم يخلّف شاعرٌ في الأرض شاعرْ

عاقراتٌ في رُبى البحر المنائرْ


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.