لـبـنـان لـقـمـان سليم ولـبـنـان قـاتـلـيـه

A recent undated picture shows prominent Lebanese activist Lokman Slim who was found dead in his car in south Lebanon on February 4, 2021. Slim, a Shiite Muslim secular intellectual known for his opposition to the Shiite movement Hezbollah, had not been heard from by his family since getting in his car on February 3 evening to drive back to Beirut from south Lebanon. (Photo by AFP)
A recent undated picture shows prominent Lebanese activist Lokman Slim who was found dead in his car in south Lebanon on February 4, 2021. Slim, a Shiite Muslim secular intellectual known for his opposition to the Shiite movement Hezbollah, had not been heard from by his family since getting in his car on February 3 evening to drive back to Beirut from south Lebanon. (Photo by AFP)
TT

لـبـنـان لـقـمـان سليم ولـبـنـان قـاتـلـيـه

A recent undated picture shows prominent Lebanese activist Lokman Slim who was found dead in his car in south Lebanon on February 4, 2021. Slim, a Shiite Muslim secular intellectual known for his opposition to the Shiite movement Hezbollah, had not been heard from by his family since getting in his car on February 3 evening to drive back to Beirut from south Lebanon. (Photo by AFP)
A recent undated picture shows prominent Lebanese activist Lokman Slim who was found dead in his car in south Lebanon on February 4, 2021. Slim, a Shiite Muslim secular intellectual known for his opposition to the Shiite movement Hezbollah, had not been heard from by his family since getting in his car on February 3 evening to drive back to Beirut from south Lebanon. (Photo by AFP)

في شخص لقمان سليم، وفي تكوينه، يحضر لبنان الغنيّ والمتعدّد، تماماً كما يحضر في قاتليه لبنانُ آخر، أحاديٌّ وقاحل. فلقمان، كما هو معروف، ابن لأب مسلم شيعيّ كان من المحامين البارزين، ولأمّ مسيحيّة وكاتبة نهضويّة هي في آن معاً لبنانيّة ومصريّة. ولقمان أضاف إلى صناعته البيولوجيّة صناعته لذاته، فاقترن بسيّدة ألمانيّة عملت في الصحافة قبل أن تشاركه اهتماماته وهمومه، وكان كاتباً وناشراً ومترجماً وسينمائيّاً وموثّقاً لذاكرة الحرب وصحافيّاً استقصائيّاً. ولئن تميّز بلسان عربيّ كان أحد أسياده، فقد أجاد أيضاً الفرنسيّة والإنكليزيّة، فيما اقترنت ثقافته النظريّة بحسّ عمليّ تحتلّ مسؤوليّة المثقّف منه موقع القلب. فهو، بالتالي، كائن كثير الأبعاد، لبنانه عربيّ من جهة، غربيّ من جهة، وكوزموبوليتيّ دائماً، أي أنّ هُويّته هُويّات عدّة. وبالمعنى هذا كان في لقمان شيء من "رجل النهضة" (Renaissance Man) المُلمِّ بأمور كثيرة والمُقيم في معارف متباينة والذي هو، كما قالت العرب، "للسيف والضيف وغدْرات الزمن". وبالصفات هذه توّجَ خطّاً في التاريخ اللبنانيّ الحديث فاخر به لبنانيّون منذ مطالع القرن الماضي، معلنين طموحهم إلى بلد يتّصل بمحيطه ولا ينفصل، ويندمج في الدنيا ولا يتوهّم أنّه يأخذها غلابا.

لكنّ الصفات تلك كانت كافية لأن تقتل صاحبها في السنوات العجاف المديدة التي ربّما كنّا اليوم نعيش أواخرها. ففي ظلّ طغيان ذاك اللبنان، الأحاديّ والقاحل والقاتل، باتت الأبعاد الكثيرة التي انطوى عليها لقمان مأخذاً يودي بصاحبه. ذاك أنّ لبنان الآخر ضيّق، مكتفٍ بذاته، يحتفل بمثالات مضادّة، ويقتدي بأنظمة في الجوار تصحّر بلدانها وتقضم شعوبها وتجد سلواها في قتل خيرة أبنائها. ولبنان الآخر هذا بدل أن يستلهم الواقع والعالم استلهم السحر والغيب، وبدل أن ينجذب إلى أبعاد البشر الغنيّة، لخّص البشر في اثنين لا ثالث لهما: مقاومٍ يشهّر وعميلٍ يُشهّر به.

والفوارق بين اللبنانين، لبنان لقمان ولبنان قاتليه، أكثر من أن تُعَدّ. فالأوّل، المُنشدّ إلى مثالات وعوالم، صاحبُ موقف نقديّ من الذات، يدرك قصورها، وبكثير من التواضع يتعلّم ساعياً لأن يسدّ نقصه بما امتلأ به سواه. أمّا الثاني الذي لا يكفّ عن الاحتفال بنفسه، فشديد الاعتداد بالقليل الذي فيه، يؤسّس كماله المزعوم على زعم إلهيّ مطلق. وإذا كان لبنان الأوّل يستقبل ويرحّب، فالثاني يغتال أو يفجّر أو، في حالات الرحمة، يخطف. ولئن أصرّ الأوّل على أن يفكّر كما يريد، طالبه الثاني بأن يفكّر كما يُراد. وربّما كان أبرز الفوارق بين اللبنانين موقفهما من الكشف والإبانة. فلقمان، الموثِّق والمؤرشف، كان مهموماً بأن يعرف ويعرّف ويستخلص ما وسعه من حقائق محجوبة، وهو بالضرورة دأب كلّ من يريد لبلده أن يكون أكثر شفافيّة وأرفع مسؤوليّةً. بيد أنّ ما يقف على الضفّة الأخرى تنظيم سرّيّ، يعيش تحت الأرض، ويكره لما تحت الأرض أن يخرج إلى فوقها، فالمخبّأ ينبغي أن يبقى مخبّأ، والمكتوم ينبغي أن يبقى مكتوماً، مَن يُفصح عنه يموت. ولم يكن بلا دلالة أنّه قبل أن ينضمّ لقمان إلى قافلة القتلى اللبنانيّين الذين لم يقتلهم أحد(!)، آُلصق على جدار منزله شعار يقول: "المجد لكاتم الصوت".

وبفعل كاتم صوت متعجّل، أو كاتم صوت متمهّل، توزّعت هذه المنطقة بملايينها، من سوريّين ولبنانيّين، فضلاً عن الإيرانيّين، في طبقات جحيم أصيبت ناره بجوع قديم. أمّا شركاء الألم الفلسطينيّون فباسم قضيّتهم أُوقدت بمزيد من الحطب النار إيّاها التي تأكل لحمهم ولحمنا. وحتّى أسابيع خلت، كان يتراءى أنّنا جميعاً لن نغادر حُفر الجحيم إلى شرفات جبل المَطهر، بل بات واحدنا، في يأسه واستسلامه، أشبه بغريغور سامزا، بطل كافكا، الذي كلّما استيقظ صباحاً وجد أنّه تحوّل إلى حشرة. وكثيرون منّا كادوا يصدّقون أنّ الخطأ كامن في وجودنا نفسه، لا في ما نفعله، كائناً ما كان ما نفعل.

والحال أنّ اللبنانين صارا ينظران إلى المشهد الواحد فيريان مشهدين، ويقرآن في الكتاب نفسه فيقعان على نصّين. وفي عدم الفهم والتفاهم تقيم كلّ المخاطر القاتلة، بالمحسوب منها وغير المحسوب. وكان قد سبق لأرثر ميلر، في مسرحيّته "البوتقة"، (The Crucible) أن روى لنا قصّة رجل دين متعصّب وجشع، مليء بذاته الضئيلة وواثق بجهله الشاسع، اسمه صموئيل باارّيس، رأى في الغابة صبايا يرقصن، متخفّفاتٍ من ملابسهنّ، فلاح له الأمر طقساً سحريّاً وثنيّاً. وكان تأويله الأخرق هذا ما أثار الجموع الهائجة وأطلق موجة صيد الساحرات وحملةً من المحاكمات لتطهير البشر من شياطين مزعومة تسكنهم.

ونحن، بدورنا، سوف نحاول المضيّ في أن نرى ما يُرى، نعطي الموصوف صفته كما هي، مانحين ولاءنا للمعنى، وليس لتزييف المعاني. بهذا نكون "نعيش في الحقيقة"، كما كان يقول فاكلاف هافيل، نسعى لأن نفعل ما فعله لقمان في نبش الحقائق المطمورة وما يقيم تحتها من دلالات، ونصبو إلى أن نجلوَ حقيقة قتل لقمان وما أقام تحتها من اللامعنى. وهذا ما أقدم عليه كثيرون في العالم شابهت أحوالُهم أحوالنا. يكفي أن نشير، مثلاً لا حصراً، إلى جماعة "تذكار" (Memorial) الروسيّة التي ظهرت مع انهيار النظام الشيوعيّ فانكبّت على جمع كلّ قُصاصة ورق تقول شيئاً عن مقتول أو مفقود أومُغيّب، وتوثّق الجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ارتُكبت، على مدى القرن العشرين، في الاتّحاد السوفياتيّ.

ذاك أنّ التوافق بين اللبنانين سيبقى مستحيلاً ما لم يُحتكم إلى الحقيقة بدل السلاح، وتالياً إلى العدالة والقانون، أكان في ما خصّ فقيدنا الكبير أم في ما خصّ مَن سبقوه ولحقوه إلى تجرّع كاتم الصوت وصاعق التفحير والعبوة الناسفة. فالعدالة ليست محكّاً للوضع الجديد في بلدنا فحسب، بل هي محكّ لقدرة الشعب اللبنانيّ على أن يبقى واحداً، ولقدرة المجتمع اللبنانيّ على أن يصير واحداً، إذ أنّ جمع القاتل والقتيل في شعب ومجتمع واحدين أقرب إلى نوم دائم على أكتاف لُغم مؤجّل.

لقد كان "هيّا بنا" شعار لقمان في تحريضنا على العمل والمبادرة والمسؤوليّة. فهيّا بنا ننبذ القتل ونحارب طغيان الفكرة المعبودة التي لا تلبث أن تتحوّل إلى مجزرة، ، أسُمّيت تلك الفكرة مقاومةً أم أيّ شيء آخر. هيّا بنا نعلن أنّ المجد للعدالة ولمعرفة الحقّ والحقيقة، لا لكاتم الصوت.

*ألقي هذا النصّ في احتفال تكريميّ للقمان سليم، في بيروت، بمناسبة الذكرى السنويّة الرابعة لاغتياله.


مقالات ذات صلة

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
ثقافة وفنون «الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي
TT

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري. ورغم اعتذاراتي التي لم تتوقف حتى آخر اتصال بيننا، ظل يوحي كما لو أنه لا يعرف سبب الاعتذار، مُضمراً هو الآخر أسفاً على تسرّعٍ في التباسٍ عابر.

وهكذا بدأت رحلة تعاون لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين من الزمن. كان أسامة منزلجي* لا يفارق مكتبه في غرفته المسوّرة بالصمت والعزلة الإبداعية، حيث العوالم الافتراضية بأبطالها وحكاياتها وأحداثها تُغني عزلته وتبهره بقيمها الجمالية، وترتقي به إلى حيث يتجاوز الواقع التافه والمتداعي واللامجدي.

لم يكن بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً، لكنها عاشت فيه.

كانت الترجمة بالنسبة له أكثر من مجرد عمل، بل كانت وسيلته السرية للتمرد، وطريقه الوحيد لملامسة الحافة الخطرة التي لم يقترب منها في واقعه اليومي.

من «الإغواء الأخير»، أول منجز نشره مع «المدى»، تابعت حيويته ونشاطه وثراء معرفته وتفاصيل ما يعيد خلقه وهو يترجم عيون الأدب العالمي، وفقاً لرؤية صادمة ومحاكاة لما كان يتوق إليه من حياة يتطلع إليها، قد تكون نقيضاً لواقعه المعيش. وحتى آخر عمل خطته يداه، كانت كل ترجمة يخوضها نوعاً من العيش البديل. لم يكن مجرد ناقل للأدب، بل كان كائناً يعيش داخل النصوص، يتماهى مع شخصياتها، ويعيد خلقها بلغته، مانحاً إياها بُعده الخاص. كانت كل كلمة يخطها طريقاً إلى الحياة التي لم يعشها، وكل جملةٍ مغامرةً لم يختبرها إلا عبر الصفحات. وبهذا الشغف العشقي، تكاملت أدوات أسامة منزلجي، وقد كان من بين أغلب مترجمي «المدى» هو من ينتقي الأعمال التي يتولى ترجمتها، واختياراته كلها تعكس سويته وتنبض بحساسيته ورهافة مشاعره الكامنة، بينما تثير الكثير من الأعمال المنتقاة المنشورة تساؤلاً لافتاً: لماذا كانت أبرز تلك الأعمال نقيض حياته الشخصية؟ فأُسامة العصامي، المفتون بالاكتفاء ربما على كل صعيد، المنعزل عن صخب الحياة وضجيجها، المتصوف «المترهبن» رغم اعتراضه على التوصيف، مستعيضاً عنه بالقول «أسلوب حياة محسوب بدقة» كما يذكر صديقه الكاتب والمترجم زياد عبد الله، يجد شغفه في اختيار أعمال تضج بكل ما هو ضد وصادم، كل ما هو منشغل بالمتع والملذات ومتجاوز لكل تحريم. لماذا اختار عملي هنري ميللر «ثلاثية الصلب الوردي» و«مدار السرطان» التي حاولت صديقته الوفية أناييس نن نشرها في الولايات المتحدة ولم تجد إلى ذلك سبيلاً، فطُبعت في باريس عام 1934، ولتتفنن بعدئذٍ في تهريب نسخ منها إلى الولايات المتحدة، بينما لم يجد عزرا باوند وهو يقرض الرواية سوى القول: «هاكم كتاب قذر يستحق القراءة!»، ولم يجاهر ت. إس. إليوت بإعجابه الشديد بها، مكتفياً بتوجيه رسالة إلى ميللر يثني عليها.

لم يكن اختياره عملي هنري ميللر «مدار السرطان» و«ثلاثية الصلب الوردي» اعتباطياً، بل كان انعكاساً لرغبة دفينة في استكشاف النقيض المطلق لحياته. كان أسامة العصامي، المنعزل، المتقشف، الذي يقضي أيامه في صمت مدروس، ينتقي أعمالاً تضج بالحياة الصاخبة، المغامرة، الجنس، التمرد، وكأنه يعيد تشكيل عالم لم يُكتب له أن يكون جزءاً منه. كان يعيش حياة المؤلفين الذين ترجمهم دون أن يغادر غرفته، يرافقهم في تيههم بين القارات، يتنقل معهم بين فنادق رخيصة وكهوف مظلمة، يشرب معهم في حانات باريس، ويشقى معهم في فقرهم المدقع.

لم يكن أسامة بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً

لماذا كان هذا الانجذاب إلى حياة لم يعشها؟ هل كان يحاول موازنة عزلته؟ أم كان يرى في الترجمة نوعاً من «الحياة البديلة» التي اختبرها دون أن يدفع ثمنها؟ مهما كان الجواب، فقد كان أسامة مترجماً لا يُشبه غيره. لم يكن مجرد ناقل للنصوص، بل كان صانعها الجديد، يبث فيها روحه، يذيب شخصيته في شخصياتها، حتى تكاد تلمح صوته بين الأسطر.

لم يكن من أولئك الذين يتباهون بأعمالهم، ولا من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء. كان مترجماً يعيش في الظل، تماماً كما كان يعيش في الحياة. اختار أن يترجم أدب المغامرة دون أن يغامر، أدب التهتك دون أن ينغمس فيه، أدب الفوضى وهو في عز انضباطه.

رحل أسامة في غمضة عين، مستريحاً وهو نائم إلى حيث النوم الأبدي. وكأن كل تلك الحيوات التي عاشها بين الكلمات قد استنزفت طاقته على الحياة. لكنه ترك خلفه إرثاً من الترجمة لم يكن مجرد نقل للمعنى، بل كان استنساخاً لروح النص، ومرآةً تعكس روحه هو، تلك الروح التي ظلَّت تبحث عن حيواتٍ لم تكن لها، حتى صارت جزءاً منها. لقد عوض نمط حياته الهادئ بترجمة المغامرين والمتمردين والمتهتكين وكأن الترجمة كانت طريقه الوحيد لخوض الحياة التي لم يعشها. نوع من الاغتراب العكسي، حيث لم يكن بحاجة إلى السفر الجسدي لأنه سافر عبر النصوص، وعاش حيوات بديلة من خلال الكلمات التي كان ينقلها.

* المترجم السوري الذي رحل في السابع من هذا الشهر، مخلفاً وراءه أكثر من ستين كتاباً مترجماً من أمهات الأدب العالمي.