لوثر وديكارت وروسو... حين يهبط الإلهام الصاعق فجأة

3 من كبار محرِّري الروح البشرية

جان جاك روسو
جان جاك روسو
TT

لوثر وديكارت وروسو... حين يهبط الإلهام الصاعق فجأة

جان جاك روسو
جان جاك روسو

دعُونا نتحدث هنا عن ثلاثة من كبار الشخصيات التي غيَّرت مجرى التاريخ البشري: الأول هو المصلح الديني الألماني الشهير مارتن لوثر الذي هز عرش البابوية وطهَّر المسيحية من كل الأدران والشوائب التي لحقت بها وشوَّهت سمعتها. والثاني هو رينيه ديكارت، أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. والثالث هو جان جاك روسو، السويسري الأصل الذي فجَّرت أفكاره الثورة الفرنسية وأصبحت كتبه إنجيلاً هادياً لها.

والآن لندخل في التفاصيل قليلاً. ماذا فعل لوثر بالضبط؟ ولكن قبل ذلك ينبغي أن نُجيب عن سؤال آخر: متى أصبح لوثر لوثراً وكيف؟ أي متى وُلد الولادة الثانية وأصبح ذلك المصلح الديني الشهير الذي أسَّس ديناً جديداً تقريباً هو: البروتستانتية؟ كان الرجل يعيش أزمة نفسية حادة جداً، بل مدمِّرة في شبابه الأول. وقد استمرت هذه الأزمة النفسية سنوات وسنوات حتى أقضَّت مضجعه وهددت وجوده ووصلت به إلى حافة الجنون. ولكن في آخر لحظة وقبل أن يحصل ما لا تُحمد عقباه حصل الانفراج الكبير. اشتدِّي أزمة تنفرجي... عندئذ قال هذه العبارة المؤثرة: «ثم حنَّ الله عليَّ»... كان مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة ببرج الكنيسة، وفجأة ينزل عليه الإلهام الصاعق فينقذه من أزمته النفسية المتفاقمة التي هدَّته هدّاً. وعندما حصل الإلهام الصاعق وحنَّ الله عليه قال عبارته الشهيرة: «والله شعرت في تلك اللحظة بأن أبواب الجنة قد فُتحت أمامي على مصراعيها». ما أجملها من لحظة، أعظم لحظة في التاريخ: لحظة اللحظات. بدءاً من تلك اللحظة أصبح مارتن لوثر بطل ألمانيا ومدشن الإصلاح الديني في كل أنحاء أوروبا.

رينيه ديكارت

هذا هو الإلهام الصاعق بالمعنى الحرفي للكلمة. إنه يتلخص في كلمة واحدة أو بالأحرى كلمتين: انعتاق الروح. إنه يعني أن الروح القلقة، الروح المتوترة، الروح المعذبة، الروح المدعوسة، الروح المحطَّمة... قد انعتقت فجأة من أغلالها وأصفادها. هذا هو الوحي بالمعنى الفلسفي أو التحليلي النفسي للكلمة. وهي تجربة روحية هائلة لا تعرفها على مدار التاريخ كله إلا نخبة النخبة أو صفوة الصفوة. ومَن يعش تلك اللحظات لا ينساها. هذا الشخص الذي كان محطماً نفسياً قبل أن ينزل عليه الإلهام الصاعق يتحول فجأة إلى قوة جبروتية لا تناقش ولا ترد. ما قبل لحظة الوحي شيء وما بعدها شيء آخر. ما قبلها كان نكرة من النكرات وما بعدها أصبح أعظم شخصية في تاريخ ألمانيا.

وأما ديكارت الذي ظهر بعده في القرن السابع عشر، فقد شهد تجربة الإلهام الصاعق أيضاً. نقصد تجربة الوحي بالمعنى الفلسفي والتحليلي النفسي للكلمة. وعلى أثرها قام بالانقلاب الكبير على أرسطو المدجَّن من الكنيسة، ودشَّن الفلسفة الحديثة وأصبح قائداً فكرياً لكل أوروبا وليس فقط لفرنسا. كتابه الشهير «مقال في المنهج» أصبح الدليل الهادي لكل الشعوب الأوروبية التي كانت حائرة ضائعة. ثم يقولون لك: ما نفع المثقفين؟ إنهم منارات الشعوب إذا كانوا من عيار ديكارت الذي وصفه هيغل مرة قائلاً: «إنه البطل المقدام للفكر». كيف حصلت قصته مع الإلهام الصاعق؟ كيف عاش ديكارت تلك التجربة الحاسمة؟ تقول الأخبار ما يلي: كان أيضاً مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة المدفأة في عز الزمهرير. في تلك الليلة الليلاء من 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1619م كان ديكارت على موعد مع القدر. فقد رأى ثلاثة أحلام مرعبة هزَّته هزاً وكادت تودي بعقله. لقد أوصلته إلى حافة الجنون. وجعلته يستيقظ مذعوراً فيرتجف ويخرج عن طوره ويصبح مثل ريشةٍ في مهبِّ الرياح. ولكن الأمور بخواتيمها كما يُقال. فقد انجلت الأعاصير عن صحو رائع وتجلت الحقيقة لفيلسوف الفرنسيين ساطعة كقرن الشمس. لقد رآها وجهاً لوجه. لقد كحَّل عينه بمرآها. وعندئذ خرَّ راكعاً ساجداً وعرف أنه وصل. عندئذ عرف أنه أصبح مكلفاً بهداية البشرية الأوروبية على طريق الحقيقة. عندئذ أصبح ديكارت الضائع الهائم على وجهه في الطرقات والدروب ذلك الفيلسوف العظيم الذي نعرفه. يقول واصفاً تلك الفترة: «كنت كمن يتقدم وحيداً في بحر من الظلمات. كنت كمن يخبط خبط عشواء. كنت كمن يمشي على خيط رفيع جداً جداً ويكاد يسقط في الهاوية في أي لحظة». ولكن العناية الإلهية التي تحكم العالم وتُطلّ عليه من فوق أنقذته. هل تعرفون ماذا فعل عندئذ؟ لقد قرر الحج إلى مقام القديسة دو لوريت التي تجسد مريم العذراء في إيطاليا. نعم، نعم، ديكارت الفيلسوف العقلاني الشهير، بل أبو العقلانية، تحول إلى حاجٍّ عاديّ يزور مزارات القديسين والقديسات ويتبرَّك بها. صدِّقوا أو لا تصدِّقوا، أنتم أحرار. وذلك لأنه لم يكد يصدق أنه نجا بجلده. ينبغي العلم أن تلك الهدية التي نزلت عليه في تلك الليلة الليلاء كانت بمثابة كنز الكنوز، كانت أكبر هدية يمكن أن يحلم بها أي مثقف على وجه الأرض. إنها الحقيقة الجوهرية التي لا تعطي نفسها إلا كل مائة أو مائتي سنة للعباقرة والعظماء. عندئذ قرر ديكارت الانقلاب على كل الأفكار التقليدية التراثية التي تلقَّاها عن طفولته وعائلته وكنيسته وشيوخه... إلخ. عندئذ قرر بناء المعرفة على أسس علمية صحيحة راسخة. وعندئذ قال عبارته الخطيرة، وربما أخطر عبارة في تاريخ الفلسفة: «ولذلك قررت أن أدمِّر كل أفكاري السابقة القائمة على النقل لا العقل». فما دامت الأفكار التراثية القروسطية مهيمنة على عقولنا فلا حل ولا خلاص. وقال أيضاً عبارة أخرى ذهبت مثلاً: «ينبغي أن نصبح أسياداً على الطبيعة ومالكين لها». وهذا ما تحقق لاحقاً من خلال سيطرة الغرب على العلم والتكنولوجيا وتحقيق تفوقه على العالم كله. والفضل في كل ذلك يعود إلى ديكارت. هو الذي أعطى المفتاح والمنهج.

مارتن لوثر

وأخيراً نختتم هذا الحديث بكلمة عن جان جاك روسو. هو أيضاً عرف لحظة الإلهام الصاعق الذي يحصل فجأة فيزلزلك زلزلةً. هو أيضاً عرف لحظة الانفراج الكبير بعد طول احتقان. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح قائداً للعصور الحديثة. بمعنى أن نظرياته الفلسفية عن الدين والتربية والسياسة والأخلاق أصبحت إنجيلاً هادياً للشعوب الأوروبية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. كيف حصلت تلك اللحظة؟ وأين؟ كان سائراً على الطريق الفاصل بين باريس وضاحية «فانسين» الجميلة الشهيرة. وهي الضاحية التي عشت بالقرب منها أيام زمان، أو قُلْ كنت أطلّ عليها من بعيد، من الشباك. وفجأة تجيئه اللحظة، لحظة المخاض، فينبطح أرضاً. أحسّ كأن صاعقة قد ضربته فدارت الدنيا في عينيه وداخ قبل أن يسقط مغشياً عليه تحت شجرة. وعندما استفاق من غيبوبته التي استمرت نحو نصف ساعة تلمَّس جسمه فشعر بأن قميصه أو صدره مبلل كلياً بالماء. وعندئذ عرف أنه كان يسفح الدموع دون أن يدري. لقد وصل جان جاك روسو. لقد تجلت له الحقيقة عيناً بعين. ولكن هناك أشياء أخرى رآها بين الوعي واللاوعي، بين اليقظة والغيبوبة. رأى آلاف الأفكار والأنوار والأضواء تنهمر عليه من كل حدب وصوب. وعن تلك اللحظة الحاسمة نتجت كل كتبه اللاحقة التي حلَّت عقدة التاريخ ونوَّرت العالم. يقول بالحرف الواحد: «بدءاً من تلك اللحظة رأيت كونا آخر، وأصبحت رجلا آخر». وبدءاً من تلك اللحظة أصبح هذا الشخص المجهول النكرة ذلك النجم الأدبي والفلسفي الشهير الذي خلَّدته كتب التاريخ تحت اسم : جان جاك روسو. يقول فيكتور هيغو: «تلك التفاهات التي كنت أكتبها قبل ولادتي». المقصود قبل ولادته الثانية عندما أصبح عبقرياً. لكن على أثر هذا الاكتشاف الخارق ماذا حصل لجان جاك روسو؟ هل صفقوا له يا ترى؟ هل مجَّدوه؟ هل رحَّبوا به؟ العكس تماماً. لقد لاحقوه من مكان إلى مكان، لقد وضعوه على حد السكين، لقد أقضُّوا مضجعه. وتحققت تلك المقولة الشهيرة: لا نبيَّ في قومه. لم يغفروا له إصراره على قول الحقيقة الجارحة ضد الأغنياء والأقوياء في فرنسا الرجعية الأصولية الظلامية. كل الأصوليات الكاثوليكية والبروتستانتية كانت تمزق كتبه عن الدين المسيحي وتحرقها. لقد احمرَّت عليه الأعين عن جد وكادوا يفتكون به لولا عفو الله. لقد زعزعوه وأرعبوه وكفَّروه وأرهقوه بالملاحقات الضارية. لقد حوَّلوا حياته إلى جحيم. على هذا النحو دخل جان جاك روسو في معمعة لا أول لها ولا آخر. ولم يعد يعرف من أين تجيئه الضربات، ولا كيف تصطرع حوله الأجهزة والمخابرات.


مقالات ذات صلة

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
ثقافة وفنون «الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي
TT

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري. ورغم اعتذاراتي التي لم تتوقف حتى آخر اتصال بيننا، ظل يوحي كما لو أنه لا يعرف سبب الاعتذار، مُضمراً هو الآخر أسفاً على تسرّعٍ في التباسٍ عابر.

وهكذا بدأت رحلة تعاون لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين من الزمن. كان أسامة منزلجي* لا يفارق مكتبه في غرفته المسوّرة بالصمت والعزلة الإبداعية، حيث العوالم الافتراضية بأبطالها وحكاياتها وأحداثها تُغني عزلته وتبهره بقيمها الجمالية، وترتقي به إلى حيث يتجاوز الواقع التافه والمتداعي واللامجدي.

لم يكن بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً، لكنها عاشت فيه.

كانت الترجمة بالنسبة له أكثر من مجرد عمل، بل كانت وسيلته السرية للتمرد، وطريقه الوحيد لملامسة الحافة الخطرة التي لم يقترب منها في واقعه اليومي.

من «الإغواء الأخير»، أول منجز نشره مع «المدى»، تابعت حيويته ونشاطه وثراء معرفته وتفاصيل ما يعيد خلقه وهو يترجم عيون الأدب العالمي، وفقاً لرؤية صادمة ومحاكاة لما كان يتوق إليه من حياة يتطلع إليها، قد تكون نقيضاً لواقعه المعيش. وحتى آخر عمل خطته يداه، كانت كل ترجمة يخوضها نوعاً من العيش البديل. لم يكن مجرد ناقل للأدب، بل كان كائناً يعيش داخل النصوص، يتماهى مع شخصياتها، ويعيد خلقها بلغته، مانحاً إياها بُعده الخاص. كانت كل كلمة يخطها طريقاً إلى الحياة التي لم يعشها، وكل جملةٍ مغامرةً لم يختبرها إلا عبر الصفحات. وبهذا الشغف العشقي، تكاملت أدوات أسامة منزلجي، وقد كان من بين أغلب مترجمي «المدى» هو من ينتقي الأعمال التي يتولى ترجمتها، واختياراته كلها تعكس سويته وتنبض بحساسيته ورهافة مشاعره الكامنة، بينما تثير الكثير من الأعمال المنتقاة المنشورة تساؤلاً لافتاً: لماذا كانت أبرز تلك الأعمال نقيض حياته الشخصية؟ فأُسامة العصامي، المفتون بالاكتفاء ربما على كل صعيد، المنعزل عن صخب الحياة وضجيجها، المتصوف «المترهبن» رغم اعتراضه على التوصيف، مستعيضاً عنه بالقول «أسلوب حياة محسوب بدقة» كما يذكر صديقه الكاتب والمترجم زياد عبد الله، يجد شغفه في اختيار أعمال تضج بكل ما هو ضد وصادم، كل ما هو منشغل بالمتع والملذات ومتجاوز لكل تحريم. لماذا اختار عملي هنري ميللر «ثلاثية الصلب الوردي» و«مدار السرطان» التي حاولت صديقته الوفية أناييس نن نشرها في الولايات المتحدة ولم تجد إلى ذلك سبيلاً، فطُبعت في باريس عام 1934، ولتتفنن بعدئذٍ في تهريب نسخ منها إلى الولايات المتحدة، بينما لم يجد عزرا باوند وهو يقرض الرواية سوى القول: «هاكم كتاب قذر يستحق القراءة!»، ولم يجاهر ت. إس. إليوت بإعجابه الشديد بها، مكتفياً بتوجيه رسالة إلى ميللر يثني عليها.

لم يكن اختياره عملي هنري ميللر «مدار السرطان» و«ثلاثية الصلب الوردي» اعتباطياً، بل كان انعكاساً لرغبة دفينة في استكشاف النقيض المطلق لحياته. كان أسامة العصامي، المنعزل، المتقشف، الذي يقضي أيامه في صمت مدروس، ينتقي أعمالاً تضج بالحياة الصاخبة، المغامرة، الجنس، التمرد، وكأنه يعيد تشكيل عالم لم يُكتب له أن يكون جزءاً منه. كان يعيش حياة المؤلفين الذين ترجمهم دون أن يغادر غرفته، يرافقهم في تيههم بين القارات، يتنقل معهم بين فنادق رخيصة وكهوف مظلمة، يشرب معهم في حانات باريس، ويشقى معهم في فقرهم المدقع.

لم يكن أسامة بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً

لماذا كان هذا الانجذاب إلى حياة لم يعشها؟ هل كان يحاول موازنة عزلته؟ أم كان يرى في الترجمة نوعاً من «الحياة البديلة» التي اختبرها دون أن يدفع ثمنها؟ مهما كان الجواب، فقد كان أسامة مترجماً لا يُشبه غيره. لم يكن مجرد ناقل للنصوص، بل كان صانعها الجديد، يبث فيها روحه، يذيب شخصيته في شخصياتها، حتى تكاد تلمح صوته بين الأسطر.

لم يكن من أولئك الذين يتباهون بأعمالهم، ولا من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء. كان مترجماً يعيش في الظل، تماماً كما كان يعيش في الحياة. اختار أن يترجم أدب المغامرة دون أن يغامر، أدب التهتك دون أن ينغمس فيه، أدب الفوضى وهو في عز انضباطه.

رحل أسامة في غمضة عين، مستريحاً وهو نائم إلى حيث النوم الأبدي. وكأن كل تلك الحيوات التي عاشها بين الكلمات قد استنزفت طاقته على الحياة. لكنه ترك خلفه إرثاً من الترجمة لم يكن مجرد نقل للمعنى، بل كان استنساخاً لروح النص، ومرآةً تعكس روحه هو، تلك الروح التي ظلَّت تبحث عن حيواتٍ لم تكن لها، حتى صارت جزءاً منها. لقد عوض نمط حياته الهادئ بترجمة المغامرين والمتمردين والمتهتكين وكأن الترجمة كانت طريقه الوحيد لخوض الحياة التي لم يعشها. نوع من الاغتراب العكسي، حيث لم يكن بحاجة إلى السفر الجسدي لأنه سافر عبر النصوص، وعاش حيوات بديلة من خلال الكلمات التي كان ينقلها.

* المترجم السوري الذي رحل في السابع من هذا الشهر، مخلفاً وراءه أكثر من ستين كتاباً مترجماً من أمهات الأدب العالمي.