تبدأ الكتابة القصصية من المراقبة البصرية في أثر الوقائع والأشياء، فالليل نهار غارب، وصمت الأزقة يخبئ صخب النساء والأطفال حتى يلوح ضوء الشمس كأنه النهوض من سبات قصير، وتراكم نفايات الأسواق في استراحة الباعة أو في حظر التجوال يكشف عن انحسار الصخب وخطى المتبضعين، وظلمة الأشجار تعبير عن نوم الأطيار العميق، ولفتة الشرطي الحذرة تضمّر واقعة لإطلاق سيل من الرصاص. من يشاهد أجواء الطوارئ وفجوات الصمت في الطريق البغدادي، لا بد أن يدرك وجوه الناس المتوجسة من تفخيخ، والمتسارعة الخطى خشية انفجار، والمرتابة بالنظر إلى بعضها، فضلاً عن أن خواء بعض الشوارع من المارة، والنظرات الزائغة لرجال المرور، يفضحان بقوة آثار سيارات محترقة، وتخريب أرصفة بعبوات ناسفة، ومواضع إطلاقات مرت صاخبة على واجهة وأسيجة البيوت!
تموت المدينة في المساء وتستيقظ في الصباح، حتى تغدو الكراهية مثل بندقية صيد موجهة إلى شجرة ملأى بالطيور، وحين يوجه الصياد إطلاقاته ليقتل بعضها تهرب الطيور الأخرى إلى سماوات قريبة، ثم تعود من جديد، وتظل فكرة اقتلاع الشجرة هي مقتل الصياد ومهواه الأخير.
تعقب أثرٍ ما
تبدأ الكتابة القصصية من استعادة الذاكرة للمكان وتنتهي إليه عبر إدارة القص، ولم تبقَ الكتابة أسيرة الشكل الدائري لعناصر الزمان والشخصيات والبيئة، بل هي متفجرة في فضائها باستمرار، وبين هذا وذاك تقوم على تحطيم العياني وإقامة الأثر (المتخيل الجديد الذي يُصبح جزءاً من الواقع الفني في الأقل).
إن وسائل السرد في جميع أشكاله الأدائية؛ الصورة في الفيلم السينمي، والرسم في الفن التشكيلي؛ أي الخط والحركة والفراغ واللون، واللغة في القصة، والممثل في المسرح... كل هذه الأشكال الأدائية تحاول أن تتعقب أثراً ما، اختفى ليعود وعاد ليختفي، تقتفيه وتبني قيافة الأثر (كأنه التعيين المادي للنص) في تراسل بين الحضور والغياب، الأثر بعد عين، وهو في النهاية ما يُشبه استعادة المفقود بهدف بناء عملية الواقع الفني الجديد، وربما تكون جزيئات هذا المفقود في الماضي أو المستقبل، فالتراكمات في واقعنا التاريخي هي تبدي الظلام العميق إلى مادة، وعلينا إزاحة الظلام عن هذه المادة من أجل ابتكار النص.
نعرف أن كل شيء في قريتنا تنعكس مرتسماته في مرايا الغيوم، كل قرية لها صورة غيوم، وكل ظلال قريتنا ترتقي إلى غيومها.
ظلالنا العالية هي التي تغدق علينا بالمطر... دلاء ناعور ترتفع بالماء، وتتلاشى في رحاة، دورةً... فدورة، وينتسج دقيقها في دورة المغزل.
نعرف الجدول القديم ذا القصب الكثيف، المتهدل الأوراق في قناته المطمومة، وجدران المعبد الصلدة بزقورته المرتفعة في «الحي المقدس».
أي شيء يدخل قريتنا سوف يجد مرتسماته هناك. البنادق الجديدة الصنع، الطويلة الأخماص، الملفوفة رصاصاتها في صناديق مبطنة بالقطيفة الملونة، يجلبها جوابون غرباء، والتماثيل الجهمة والجرار الهرمة الطافحة بأحجار غريبة، يعثرون عليها تحت أرض المعبد... ترتسم مراياها ألواحاً لم تُقرأ بعدُ، وأطياف أشخاص حليقي الرؤوس وذوي لحًى، يتسربلون في ثياب التعازيم وتلثمهم الظلمة. عربات مزخرفة الحافات تمر... وأنصاب نذرية مملوءة بالماء الخالص، وجرار طويلة الأعناق تفيض أحجاراً لامعة، تموه الأثر الريفي بظلام المدن القديمة.
صفات أثر على أثر
الخط أثر، أداته القلم، الفرشاة، الحرف الطباعي. والكلمة أو الصورة أثر الذاكرة الاجتماعية، وبذلك يزدوج الأثر ويتداخل أيضاً ليشمل الذاكرة التاريخية بجمعها. إن معقّبي السرد هم أثر زمنهم المستعاد من خلال الشكل السردي المتجدد لدى القراءة أو المشاهدة، بدليل حكايات ألف ليلة وليلة التي تعد أثراً مستعاداً من قرون ماضية، لكنها تُنسف - كنص - لدى أي قراءة جديدة عبر تقادم الزمن، وتوجه قرائياً على وفق الحاضر؛ أي تُؤلف من جديد في تعقب آخر، فالنص يقيم أثره باستمرار عند أي قراءة تعقبية جديدة، وهي أدوار يتداخل فيها الزمن بالوعي والغياب بالحضور، وبالعكس.
في الرواية الجديدة (مطلع الستينات من القرن الماضي)، استخدم القياس السيمتري أو التماثلي للأشياء والشخصيات، وبالرغم من ذلك فهو نفي لهما وإثبات للرؤية والمتخيل القصصي الافتراضيين كما يرى آلان روب غرييه، والاعتماد على تماثلية المشهد لا يعبر عن نقلها المباشر قدر ما يعني الافتراض، وتكثيفاً متخيلاً جديداً، واستحداث أثر لغوي لا يطابق الواقع حتى لو ماثله في أدق القياسات السيمترية، فالغابة تبدأ بشجرة أو شجرتين، وصف طويل أو قصير من الأشجار، وعدد كثيف من الأوراق والأغصان، ولكنها عند الكتابة أشجار وأغصان قصصية محكومة بإنتاج الأثر المستعاد، لا تستند إلى عيانها الحقيقي. وينطبق الأمر على الرواية التقليدية والإطارية، حيث شوارع دبلن وبغداد وباريس والقاهرة هي صفات أثر على أثر.
ليس ثمة شيء بكر لا يرتسم بأثر أبكر منه، مثل الماهية التي تسبق الأشياء، مثل الامتداد الأول اللامتناهي للبحر، الصحراء، الغابة... مثل تعقب قطرة الماء لتهب قدحاً أو بحراً، وذرة الرمل لتهب نسيج الوبر أو الصحراء، وتعقب لحاء الشجرة لتهب طيورها أو غاباتها.
بعض من فنن مصقول بلفح الشمس وتضاريس الرمال الساخنة، بعض من أحجار ناتئة، عتية وطير يعشش فيها، وأعراف خيول ذات غرر رمادية تصول فتلوي بها الرمال أنّى اتجهت.
إذن نحن مستحضرو الأثر... تغيّر أنهارنا مجراها على رسلها، ويقيم الناس بيوت الطين والأكواخ على القنوات العمياء.
حينما غيّر النهر مجراه آخر مرة، تقوضت قناطره، واتجهت نوارسه برشاقة إلى الفضاء الجديد للماء، وتحولت القوارب وشباك الصيد وظلالهما إلى القناة الجديدة، وزحفت كلاب وأفاعٍ مائية وأسماك، وانتقل الأطفال الغرقى الذين لم يعثر على جثامينهم غطاسو النهر، وراحت شموع الخضر المضيئة تحترق فوق مياه ثانية، حتى إن أشباحاً في الظلمة خاضت في المياه الضحلة، فأخرجت الإله «أبسو» محمولاً على آلة الآلهة، وأودعوه المجرى الجديد، ثم أخرجوا بعض المعاول البرونزية والفؤوس وزنازير تمائم، نثروها فوق سطح المياه العميقة لتأخذ تشكلها ثانية، وقفلوا عائدين إلى آثارهم، إنهم يستحدثون استعادتهم في السباحة في نهر يغيّر مجراه، ويدركون جيداً عبور الأنهار على طريقة هيرقليطس دون أن يعرفوه.
إذن نحن معقبو الأثر... نقتفي سلاماً ضاع في بغداد، وخطى ضاعت آثارها في رمال الذاكرة الخالية، ولكن أيضاً ندرك الخطى الضائعة التي نجوس فيها أقبية الماضي عبر سقف الحاضر الخفيض.
إذن نحن مبتكرو الأثر... الريح تقص تجاعيدها في شكل الرمال، وفي شكل الموجة على مياه النهر، تقص محيطها في شكل الأرض.
تميزنا ذاكرتنا التاريخية (الرافدينية على وجه التحديد) عن الآخرين عندما نكتب، وهي «المرسلة» والأشياء والوقائع والبيئة... تشكل المدرك القصصي. وثمة فصل بين الذاكرة واللحظة الراهنة، نحن ننسف هذه اللحظة افتراضاً ونختزلها في الذاكرة التاريخية، ونستجمع التشظي لكي نعيد مسار الوقائع على نحو آخر لحظةً فلحظة، ثم نقيم الأثر - النص - حتى يغدو جزءاً من المكان، فالقصة أو الأسطورة التي أنتجتها المدن القديمة من وحي خيالها غدت جزءاً من أثاثها وخرائطها وتاريخها، وليست تعبيراً معنوياً عن وجودها فحسب.
* كاتب عراقي
