قصة كلب فيلسوف وحيد

باحث بريطاني يستعيد نصاً نادراً لكافكا

كافكا
كافكا
TT

قصة كلب فيلسوف وحيد

كافكا
كافكا

بحلول الوقت الذي توفي فيه الروائي التشيكي فرانز كافكا في عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 عاماً، كان صاغ ثلاث روايات (المحاكمة، والقلعة، وأمريكا) لكنه لم ينته أو ينشر أياً منها في حياته، باستثناء بعض المقتطفات. وقبلها كان نشر رواية وجيزة وعدداً من القصص القصيرة قبل أن يعهد بكل كتاباته التي لم يتخلّص منها إلى صديقه وناشره ماكس برود كي يتولى حرقها في حال وفاته. على أن برود لم ينفّذ الوصيّة، وبعد بعض التدخلات التحريريّة نشر الروايات الثلاث التي أسست لاحقاً - لا سيّما بداية من فترة الستينيات - لسمعة كافكا واحداً من أهم روائيي القرن العشرين على الإطلاق، وأيقونة ثقافيّة عابرة للغات لدرجة أن أكثر القراء التهموا حتى كتاباته الشخصيّة كاليوميات والرسائل والملاحظات غير منشورة، وتناقلوا عنه مقاطع غامضة وزلات لسان، بل ونشر أحدهم مجموعة مختارة من المستندات التي كان يملؤها كافكا في إطار وظيفته اليومية ككاتب لدى هيئة التأمين ضد حوادث العمال.

غلبت على الأعمال التي تركها كافكا ثيمة النقد اللاذع للمؤسسات القانونيّة والبيروقراطيّة التي أنتجتها مرحلة الحداثة، والتنديد بأهوال الأنظمة الإدارية التي تأخذ حياة مستقلة عابرة للأشخاص وتصبح عصيّة على الاختراق بشكل غريب، لكن ثمة مساحة أخرى عُني بها، وإن لم تحظ بالانتشار، تعلّقت بنقد إنتاج المعرفة في الأكاديميا المعاصرة والتي لا تقل «كافكاويّة» في تصنيفاتها ونظم تقييماتها وترقياتها وتراتبياتها وأولوياتها التي يحرّكها السوق عن أي منظومة حداثيّة أخرى.

مقاربة كافكا لعالم إنتاج المعرفة جاءت في نص «أبحاث كلب»، أحد أقل أعماله شهرة، وأكثرها غموضاً، كان كتبه في خريف عام 1922، لكنّه تركه بلا عنوان، ولم ينشر إلا بعد وفاته، بتحرير صديقه برود، الذي جمع عدة كتابات قصيرة ونشرها في مجلد عام 1931 مضيفاً هذا العنوان لذلك النص ليربطه بـ«الأبحاث» الأكاديميّة.

«أبحاث» هي قصة ساخرة فلسفية عميقة لكلب وحيد غير قادر على التكيف مع محيطه ويتحدى العقيدة العلمية السائدة، فينطلق في رحلة بحث سعياً لفهم أفضل لذاته وللعالم من حوله، تأخذه إلى سلسلة من المغامرات النظرّية، تبدأ من استقراء لفضوله وغرائزه الاستقصائية قبل أن ينتقل إلى اللغز الرئيس للوجود معبراً عنه بسؤال «من أين يأتي الطعام؟».

ويبتكر الكلب المتفلسف في سياق بحثه عن إجابات عدداً من التجارب، ويطرح سيلاً لا يتوقف من الأسئلة دون أن يتلق أي إجابات، ثم يصف العقبة التي يصطدم بها عند محاولته استمالة زملاء للانضمام إليه في أبحاثه: الصمت والتخلّي، فكأن لا أحد يرغب بمعرفة الحقيقة. وفي وقت لاحق يطلق مبادرة جذريّة من أجل كشف أسرار التغذية، فيصوم، لكن ذلك كاد يقضي عليه، إذ شارف على الموت جوعاً. وتختتم القصة بتلخيص الاكتشافات الفلسفية للكلب، والتي يمكن تسميتها، «نظام العلوم»، وهو هيكل ذروته علم الحرية - التي ستكون الكلمة الأخيرة في القصة. أثار «أبحاث كلب» اهتمام آرون شوستر، أحد أهم الباحثين المعاصرين في الأنثروبولوجيا الثقافيّة والفلسفيّة القاريّة (الأوروبيّة) الذي رأى فيه تفكيراً رائداً سبق نقد المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان لما أسماه «الخطاب الجامعي» الذي لم يتعلق بسوء إدارة الجامعة الحديثة بقدر ما يتعلق بتسليط الضوء على التحول الواسع في هيكلة السلطة بالمجتمعات المعاصرة، حيث تتحد المعرفة والسلطة لإنشاء أنظمة إدارية تكرّس أوضاعاً معينة تعمل باسم العقل والتقدم التقني. وهنا دور كافكا الرؤيوي، مشككاً في هذا النظام الجديد، ومنقباً عن الجانب الخفيّ من حياده (العلميّ) المفترض، مع اقتراح طرائق أخرى بديلة للتفكير، وربما مخارج.

شوستر قدّم قراءته لـ«أبحاث كلب» في كتاب صدر بالإنجليزيّة حديثاً عن مطبعة «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» بعنوان «كيف تبحث ككلب: علم كافكا الجديد»، معتبراً هذا النصّ القصير لم يحظ بالاهتمام الذي يستحق، وأنّه لا يزال أكثرها غموضاً، ويتعيّن العمل على إعادة استكشافه وتفكيك ألغازه.

ويرى شوستر أن مفتاح النّص قد يكمن في كمّ السخريّة الهائل الذي تحمله «أبحاث كلب» مقارنة بمجمل تراث كافكا الأدبيّ كلّه، ما يجعلها في القراءة الأولى أشبه بنكتة متفلسفة طويلة غايتها الترفيه الفكري المحض. لكن معرفتنا بكافكا، كناقد عميق لمؤسسات الحداثة، تدفع للتساؤل عمّا إذا كانت قصته بمثابة هجاء لحماقات الفلسفة والمتفلسفين في أبراج عاجيّة، وشتيمة لفذلكات التكهنات الميتافيزيقية.

يأخذ شوستر القراءة تالياً إلى ما يشبه الصدمة: حيث لا نرى البشر في عالم الكلب الفيلسوف، لكنّهم أسياد الكون غير المرئيين، وهذه الفجوة الهائلة في الإدراك بين الظاهر ومن يقود العالم هي ما يفسّر للقارئ جميع أنواع المآزق المضحكة والمشاكل الزائفة التي يغرق فيها بطل القصة وراويها، الذي يقول «لقد عمدت مؤخراً أكثر فأكثر إلى النظر في حياتي بحثاً عن الخطأ الحاسم والأساسي الذي يجب أن أكون قد ارتكبته في وقت ما بالتأكيد، ولا يمكنني العثور عليه». إن هذا العمى عن القوة المهيمنة في العالم هو الخلل الأساسي الذي تتحرّاه «الأبحاث».

يقول شوستر إن الهيمنة تبدو في قصّة الكلب المتفلسف أكثر تعقيداً وغير مرئيّة، إذ بعكس «المحاكمة» و«القلعة» تنسحب السلطة المركزيّة إلى درجة تلاشيها من الرؤية تماماً لكن دورها مستمر على مستوى آخر من خلال عملية صناعة المعرفة التي تنتج العقائد والأفكار، لكّن ذلك يجعل السعي إلى الحرية أكثر إلحاحاً، وهو أمر يجعل من الحياة أقرب إلى حالة انتحار فاشلة مستمرة، فيما هذا الفشل تحديداً هو أدق تعبير عن الإيجابية والحياة.

إن «أبحاث كلب» التي كتبت في وقت متأخر من حياة مؤلفها، قد تكون وفق ما يذهب إليه شوستر في قراءته أفضل مدخل لفهم أعمال كافكا الأخرى كلها، ومفتاحاً لكسر مغاليق شخصياته شديدة التعقيد، بل ربما لمقدمة لا بدّ منها لفهم عقل كافكا نفسه.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.