«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر
TT

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956، ويعد بمثابة زيارة جديدة إلى أحد أهم مفكري أوروبا عموماً في القرن الثامن عشر. ولد ديفيد هيوم في أبريل (نيسان) 1711، وهو فيلسوف اسكوتلندي ومؤرخ وكاتب مقالات معروف بشكوكه الفلسفية الراديكالية والتجريبية، وصفه المفكر المصري زكي نجيب محمود قائلاً: «وحسب القارئ ليعلم مكانة هيوم في الفلسفة أن يعلم أنه شق في أرضها طريقاً جديداً وعزف على أوتارها نغمة لم تألفها الأسماع قبله؛ نغمة أيقظت جبار الفلسفة الحديثة عمانوئيل كانط من سباته».

ويشير المؤلف إلى أن هيوم ساهم بشكل كبير في تطور مدرستين فلسفيّتين حديثتين، هما «مذهب الشكوكية» و«مذهب التجريبية»، حيث ذهب إلى أن كل معرفة ظاهرة إنسانية، وكي نحكم على فاعلية تلك المعرفة لا بد أولاً من فهم الطبيعة البشرية التي تعد ملكة الإدراك الحسي مفتاحها، ومن هنا كانت رحلة هيوم بين الشك والاعتقاد.

وينتمي ديفيد هيوم إلى أسرة برجوازية اسكوتلندية، وأصبح يتيم الأب وهو لم يبلغ الثالثة من عمره، وفي 1721 التحق مع أخيه بالمعهد العام في أدنبره، وهو الذي يُعد نواة لجامعتها فيما بعد، وكان هيوم شغوفاً بدروس أستاذه في الطبيعة الذي كان متحمساً إلى حد كبير لمنهج نيوتن. وكان هيوم منذ شبابه الباكر باحثاً عن المعرفة، فهو يذكر في خطاب له سنة 1751 أنه كتب وهو في العشرين كراسة كبيرة ضمنت تأملات وخواطر في مسائل فلسفية ودينية واجتماعية. وفي نسخة خطية لخطاب كان يزمع إرساله إلى طبيب مشهور - هو جورج شايان - ما يدل على أن هيوم كان مدركاً، وهو في سن العشرين، للتدهور الذي آلت إليه العلوم الأخلاقية نتيجة استنادها إلى فروض خاوية وصيغ فارغة، وهو يشير في خطابه هذا إلى ضرورة السعي لبناء هذه العلوم من جديد على أساس دراسة علمية للطبيعة البشرية.

وكانت أسرة هيوم تهيئه ليسلك طريق المحاماة، إلا أنه كان غير راغب فيها، وحاول في مجال التجارة فلم يمكث بها مدة طويلة واتبع هيوم هواه فسافر إلى فرنسا 1734؛ حيث انكبّ على كتابة إنتاجه الأول «رسالة في الطبيعة البشرية». وبعودته إلى لندن في سبتمبر (أيلول) 1737، أخذ يبحث عن ناشر حتى عثر عليه ولكن الكتاب لم يصادف من الرواج والنجاح ما توقّعه له، حيث ظهر الجزآن الأولان منه 1739، ومع أن ظهورهما قد أثار انتباه النقاد الإنجليز، بل الأوربيين عموماً، فإنه لم يكن راضياً عن مصير كتابه، وبلغ به السخط إلى حد أنه ذكر أن هذا الكتاب «خرج سقطاً من المطبعة».

وفي سنة 1744 رشح هيوم نفسه لكرسي «الأخلاق والفلسفة» بجامعة غلاسكو، ولكنه استُبعد لسخط رجال الدين والفكر عليه، وكان لفشله هذا وقع مرير في نفسه ظلّ ملازماً له طوال حياته. وفي 1749 كانت شهرته قد ذاعت في القارة الأوروبية حيث أهدى إليه مونتسيكو نسخة من كتابه «روح القوانين»، وكان للملاحظات التي أبداها هيوم على هذا الكتاب تقدير عظيم لدى صاحبه. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1751، ظهر كتاب هيوم «بحث في أصول الأخلاق» وهو أقرب مؤلفاته إلى نفسه. وفي مستهل 1752 ظهر كتابه «مقالات سياسية» وقد أقبل الجمهور على قراءة هذه المؤلفات وأثارت حركة نقدية عظيمة ولقيت معارضة عنيفة من بعض المفكرين، وقد أضفى عليه الكتاب شهرة واسعة كعالم اقتصادي، ربما غطّت على شهرة معاصره وصديقه النابغة، آدم سميث.

ومن الأفكار الرئيسية التي ناقشها هيوم حقيقة الأحكام التي نميز بها الخير من الشر، والتي هي من قبيل الإدراك، شأنها شأن أي عملية أخرى من عمليات الذهن البشري. وكان يرى أن الإدراكات قسمان: أفكار وانطباعات، وهذا يدعونا إلى التساؤل: هل تصدر أحكامنا في تمييز الرذيلة من الفضيلة عن أفكارنا أم عن انطباعاتنا؟ وهل نرجع في إطراء فعل أو ذمه إلى عقلنا أم إلى شعورنا؟


مقالات ذات صلة

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
ثقافة وفنون صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة

شوقي بزيع
ثقافة وفنون قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

كشفت أعمال التنقيب في الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة كبيرة من المدافن الأثرية حوت كثيراً من الحلي والمجوهرات المصوغة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز والرصاص

محمود الزيباوي

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
TT

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة
قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة

كشفت أعمال التنقيب في الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة كبيرة من المدافن الأثرية حوت كثيراً من الحلي والمجوهرات المصوغة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز والرصاص. تبرز في هذا الحقل مجموعة ذات أشكال حيوانية، صُنعت من سبيكة الإلكتروم المكونة من الذهب والفضة، على شكل دلايات أو دبابيس من نوع «البروش»، رافقت أصحابها الراقدين في مثواهم الأخير.

تعود هذه الحلي إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وتشهد لتقليد فنّي محلّي خاص، يتجلّى في تكوين أشكالها المجسّمة كما في صياغتها المتقنة.

أشهرها قطعة من محفوظات متحف رأس الخيمة الوطني، مصدرها مقبرة تقع في منطقة ضاية، شمال مدينة الرمس التي تشكل في زمننا المفتاح الشمالي لإمارة رأس الخيمة. كشفت عن هذه المقبرة بعثة ألمانية خلال السنوات الأخيرة من ثمانينات الماضي، وتبيّن أنها مقبرة يبلغ طولها 9 أمتار، وعرضها 4.4 أمتار، وقيل يومها إنها أكبر المقابر التي تمّ الكشف عنها في رأس الخيمة، وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وقد فقدت كثيراً من مكونات أثاثها بسبب تعرّضها لأعمال السرقة والنهب، واستخدام جزء كبير من مساحتها كمأوى للأغنام. حوى هذا المدفن مجموعة من القطع الفخارية والأواني الناعمة، إلى جانب مجموعة من الأدوات المعدنية، ومجموعة من الحلي المتعدّدة الأنواع. وضمّت هذه المجموعة من الحلي قطعاً بدا أنها دلايات تجمع بين الذهب والفضة والكهرمان، صيغت على شكل مجسّمات حيوانية تبعاً لنسق واحد وجامع.

أجمل هذه الدلايات وأكملها، دلاية هي كذلك أشهرها، وقد احتلّت صورتها غلاف كتاب خاص بآثار دولة الإمارات العربية، نشره المؤرخ محمد عبد النعيم في عام 1999 ضمن سلسة «آثار ما قبل التاريخ وفجره في شبه الجزيرة العربية». يبلغ طول هذه القطعة 5 سنتيمترات، وعرضها 11 سنتيمتراً، وتمثّل حيوانين من فصيلة الكلبيّات، يصعب تحديد جنسهما بدقة. صيغ هذان الحيوانان في قالب تحويري زخرفي صرف؛ حيث ظهرا متواجهين وملتصقين بشكل معاكس، أي الظهر مقابل الظهر، مع 6 قوائم منتصبة، مرصوفة عمودياً بشكل تعادلي متجانس. يشكّل جسدا هذين الحيوانين مساحة أفقية واحدة تزينها 4 كتل بيضاوية ناتئة. تعلو هذه المساحة الأفقية شبكة من الأسنان المرصوفة كأسنان المشط، ويتوسط هذه الشبكة ذيلا الحيوانين الملتفّين على شكل دائرتين لولبيتين مرتفعتين نحو الأعلى.

يتكرّر هذا الشكل في قطعة أخرى من مقبرة ضاية وصلت بشكل مجتزأ للأسف. يحضر الحيوانان في تكوين مماثل، غير أن بدنيهما يبدوان هنا منفصلين بشكل جلي، وتأخذ شبكة الأسنان المرصوفة تشكيلاً مغايراً، مع بروز الدائرتين اللولبيتين المتقابلتين في وسطها. حافظ أحد الحيوانين على رأسه وطرف قائمتين من قوائمه، وفقد الآخر الجزء الأكبر من بدنه. ويبدو هذا الرأس أشبه برأس ذئب يفتح شدقي فمه، كاشفاً عن نابين من أنيابه. تُمثّل هذه القطعة شكلاً من أشكال متنوعة تظهر في كل حلية من هذه الحلي التي تتبع نسقاً جامعاً. خرجت بعضها من مقابر تقع ضمن أراضي تتبع اليوم إمارة رأس الخيمة، وخرج البعض الآخر من مقابر تقع خارج هذه الإمارة، ومنها مقبرة على الحدود الشرقية لواحة القَطَارَة، في مدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي.

كشفت أعمال التنقيب في هذه المقبرة عن مجموعة كبيرة من الأسلحة، ومجموعات من الأواني الحجرية والفخارية، دخل القسم الأكبر منها متحف العين. إلى جانب هذه القطع المتنوعة، تحضر مجموعة من الحلي والمجوهرات، منها بضع دلايات تشهد لشيوع هذا الطراز المحلي في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

حافظت إحدى دلايات واحة القَطَارَة على تكوينها بشكل شبه كامل، واللافت أن هذا التكوين يماثل بشكل كبير تكوين دلاية ضاية الذائعة الصيت. يلتصق الحيوانان، وتبدو مساحة بدنيهما المتشابكين واحدة. في المقابل، تبدو ملامح رأسيهما أكثر وضوحاً، وتوحي بأنها تجمع بين الذئب والنسر، مما يعطي هذا الحيوان طابعاً خرافياً. يظهر هذا الرأس كذلك في قطعة معروضة في مركز مليحة للآثار، مصدرها مقبرة تقع في جبل البُحَيْص المجاور لبلدة المدام في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة. وفقاً للتقليد السائد، تمثل هذه الدلاية حيوانين مقرنين، يقفان في اتجاه معاكس، ظهراً إلى ظهر، مع ذنَبين ملتفين إلى الأعلى في الوسط. ضاع أحد هذين الحيوانين المقرنين بشكل كامل، وبقي الآخر، وتكشف صياغته عن دقة كبيرة في تجسيم مفاصل البدن وفقاً لبناء تشريحي متماسك.

يصعب تحديد وظيفة هذه الحلي بدقة، والأكيد أنها جنائزية، كما يشير حضورها في المقابر بشكل دائم. تعود هذه المقابر إلى عصر أطلق عليه البحاثة اسم عصر وادي سوق، نسبة إلى موقع أثري كُشف عنه بين مدينة العين وخليج عُمان. أظهرت دراسة هذا الموقع تحوّلاً كبيراً في طرق الاستيطان المتبعة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، خلال الفترة الممتدة من 2000 إلى 1600 قبل الميلاد، كما أظهرت تحوّلاً في النسق والطرز الفنية. وظهرت ملامح هذه التحولات في مواقع أخرى متعدّدة من الإمارات.

تشكل الحلي ذات الرؤوس الحيوانية علامة من علامات هذا التحوّل الفني الذي تعددت صوره وأشكاله في ذلك العصر. تحمل هذه الحلي كما يبدو أثر وادي السند، غير أنها تتميز بطابع محلي خاص، ويتجلَّى هذا الطابع الخاص في تجسيمها المتقن، كما في صياغتها المرهفة.