«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية

أحمد الزين يتمثّل مأزقها في روايته الجديدة

«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية
TT

«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية

«رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية

ثمة اشتباك عميق بين سرديات المنفى وسرديات الحرب، وعلى نحوٍ يجعل من مفاهيم مثل الوطن/المكان، والهوية/الوجود، والذاكرة/التاريخ، إزاء مفارقات تأخذ بالكتابة إلى ما يشبه البحث عما يسندها من تعالقات رمزية، ومن أفكار وأصوات وحيوات، وربما من مدنٍ تُفقدها الحرب هويتها، فتُخفي ما فيها من الذاكرة والسيرة والوجود.

رواية الكاتب أحمد الزين «رماية ليلية»، الصادرة عن دار المتوسط- ميلانو- 2024، تأخذنا إلى سرديات الحرب وشخصياتها عبر مقاربة يومياتها المسكونة بالغرائبي والعبثي الغامض والسري؛ إذ تتحوّل صورها عن الموت السردي والفقد إلى حمولات رمزية لفكرة الموت الوطني، مثلما تتحول المواجهة إلى ما يُشبه مشهداً فانتازياً يختلط فيه مأزق الحضور بمأزق الغياب، والحب بالخيانة، والوجود بالتشظي والضياع، فلا هروب منها إلا إليها، لتبدو الشخصية «الأضحوية»، وكأنها الشفرة التي تقود لعبة السرد إلى دلالة التورط في فخاخ هذه المآزق، حيث تفضح الحرب ما تخفيه اللغة، وما يمكن أن تحمله من أقنعة يتوارى خلفها المحاربون والمغامرون ورموز القبائل.

لا تُقدم الرواية عرضاً للمعاناة فحسب، وإنما تفضح ما تصنعه الحرب، عبر أصوات الناجين منها، وهي تتحول إلى صرخات فاضحة عن الخطيئة والفساد والخواء، وعن كسر إيهام الواقع عبر حركة الشخصيات التي تتمرّد على جحيمها الوطني، وعلى منفاها، فيتحول بحثها عن الوجود إلى بحثٍ ضدي عن الذات والهوية والحب والأمكنة، ومساءلة فاجعة للمصائر في اغترابها ومتاهتها، وفي حرب «الأخوة»، فتصطنع عبر تقنية «الفلاش باك» سيرة موازية، تتبأر عندها كثير من المواقف، وكثير من المشاعر الداخلية التي تمور بقلق النفي، والخوف من ذاكرة الحرب، حد أن عتبة العنوان تتحول إلى نص موازٍ يفضح عبثية تلك الحرب، وسردية «المكان صفر» و«الزمن صفر» التي تتوه فيها المسافات بين القاتل والمقتول، والوجوه والبنادق.

العنوان وموجهات السرد

يكشف الدال العنواني عن ترميزٍ لعبثية الحرب، إذ يتقوّض عبره الواقع، ويغترب إزاءه الحدث، فيتحوّل الليل إلى زمن نفسي اضطهادي، تتوه فيها معالم وجودها، فـ«تبدو كل الرؤوس أشباحاً» كما يصفها جاك بريفير، وهو ما يستبطن مدى الضياع الذي تعيشه رؤوس الحرب وضحاياها، عبر شغفها بالتطهير من فظائع الحرب، وعبر بوحها واعترافها السوداوي، وعبثية زمنها، وغموض مصيرها.

شخصيات مأزومة

الجندي المعوق الباحث عن التطهير، والمذيعة «ليلى» وموظفة الفندق «فايزة»، شخصيات تحمل معها أزمات الحرب، فتكشف عن عوقها الوجودي، وعن قلقها وشبقها وعن تشوهها الداخلي، مثلما تكشف شخصية «سلوى» عن محنة قلقها الوجودي والثوري، لتجد نفسها أمام حياة معقّدة وشائهة، تمور بين النفي الداخلي والنفي الخارجي، حتى يبدو هذا النفي جوهر الصراع الذي تعيش تداعياته، وتوقها إلى البحث عن خلاصٍ ما، تتسع رمزيته مع اتساع أزمة وعي هذه الشخصيات المشوه لمحنة الحرب التي لا تنتهي، والتي تحول ليلها الوجودي إلى ليل عابث بالرمي، وبالعتمة التي تتسع للتخيل، فتكون مصائر تلك الشخصيات مرهونة بسرديات يشتبك فيها المخيالي مع الواقعي القاسي، والآيديولوجي مع القبائلي، على نحوٍ تتشظّى معه الهويات والأمكنة، من خلال ما تتعرّض له ملامح وأسماء المدن التي تفقد هويتها، حتى يكون وجودها المأزوم والهش، نظيراً لمتاهة «الوطن» الضائع، فلا يحضر منه في لعبة السرد إلا ما يتساقط عبر التذكر والبوح المونولوجي، وعبر ما ينبجس من خلال حكايات واعترافات شخصياته المفجوعة، تلك التي تعيش أوهامها وانكساراتها وتحولاتها، فيتحول إحساسها بالفقد إلى ثيمة واخزة، وإلى إثمٍ عميق يلاحقها وهي تصطنع سردياتها -اعترافاتها داخل لحظات «الرمي الليلي»، الرمي الذي تعيش معه الشخصيات- الأشباح، إحساساً بالهروب والنفي والخسارات المريعة؛ حيث تفقد معها الجسد والعفة والإحساس بالوجود والأمان.

تفضح ثيمة التحول الذي تعيشه الشخصيات المأزومة والأضحوية عن أزمة الواقع اليمني، وعن أزمة التاريخ، وأزمة الذات، وعلى نحوٍ يجعل من الحرب بؤرة تمثيل فضيحتها الكبرى، بوصفها ملحمة الخراب، وشفرة التغير، ولعنة التقويض الباعثة على تشظية سرائر الكبت الوجودي والجنسي، فكل شيء يتحول تحت إكراه الحرب، وكل شيء يدخل في طقس «الرماية الليلية» التي تطلق العنان للكراهية والالتحام والقتل والانتهاك، وتغويل استعارات المكان والجسد واللغة، لتُصاب بعاهة التحول أيضاً، والتشظي إلى «هويات قاتلة ومقتولة» وإلى «أماكن طاردة ومطرودة» مثلما تتحول الشخصيات أيضاً إلى حيوات مُصابة بهوس تناقضاتها الغرائبية؛ إذ يتوزّع وجودها بين إحساسها بالعار، وإحساسها بقسوة المنفى، وبانفلات الذاكرة وهي تتقشر عن ممنوعها، لتفضح عما يصنعه هذا المنفى من منافٍ عميقة، ومن سيرٍ تضطرب معها عوالم الشخصيات الأخرى التي تفقد تاريخها وقيمها ورهاناتها على استعادة التاريخ الذي تحول إلى ميدان مفتوح للرمي الليلي.

السيرة والسرد والحرب

سردية النص المجاور من أكثر اشتغالات أحمد الزين إثارة للأسئلة؛ إذ يضعنا الروائي أمام لعبة سردية يكون فيها هذا النص هو المُولد لسؤال المنفى، وسؤال الشخصية، وسؤال المكان، وهي أسئلة تظل مفتوحة وفاعلة في صياغة المبنى السردي للنص المجاور، بوصفه نصاً تأليفياً يستند إلى فكرة التعرف على ما تتعرّض له -الشخصيات والأمكنة والهويات- من تغيرات، جراء الحرب، وجراء النفي، بوصفها البراديغمات التي يقترح وجودها الروائي، كاشفاً من خلالها عن محنة «لا انتمائها» وعن رهاب نقائضها، وعن لعبة تمثيلها لسرديات الاستعارة والتعويض والعاهة والفقد، بوصفها دوالاً كاشفة عن أزمات ما تعيشه من تحول فاجع، وعما تتعرّض له من إسقاطات الحرب، فتبدو سيرها وكأنها تمثيل نكوصي لوجودٍ، تعيش تداعياته بنوع من الاعتراف/الرسائل، أو البوح، أو الشعف الجنسي، والإيهام بأن المجال السردي الذي تصنعه تلك الشخصيات هو أكثر إثارة من الواقع نفسه، وباتجاه يجعل من «المبنى السردي» تمثيلاً لمتن سردي يتسع فيه بوح الشخصيات النافرة والناجية من الحرب، وهي شخصيات يمنحها السرد طاقة مونولوجية للتعويض عبر الاعتراف، وعبر استعادة وجودها من خلال رمزية كتابة الرسائل بوصفه طقساً في التطهير، أو من خلال البحث عن عوائل أخرى، كما سعت إليه «ليلى»، أو خلال الجنس والإيهام بسرديات غامضة فيها من التورية والترميز القاسي أكثر من الواقع ويومياته الغائمة.



«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة
TT

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

الصورة المرئية هي أفضل وسيلة لنقل الأفكار الفلسفية مهما كانت صعبة، لقد كتبت من قبل عن الفنانين الذين استخدموا السينما - أو التلفزيون - لتبسيط أفكار «الوجودية» أو «الرواقية»، وأظن أن الصورة ليست محصورة بأنواع معينة من الفلسفات، بل بإمكانها تقريب أي فلسفة ولو كانت فلسفة هيغل نفسه.

في تحفة ريدلي سكوت الأخيرة «المُجالد 2» هناك عدة فلسفات تتحدث وتتنافس، ولعله مما يزيد استمتاعنا بالفيلم أن نتعرف على تلك الفلسفات، عندما تنقل الشخصية الرئيسة مقولة: «إذا كنا في الوجود فإن الموت لن يكون موجوداً، وإذا جاء فعلاً فإننا لن نكون في الوجود»، وبالتالي فلا حاجة إلى الخوف منه لأننا لن نلتقي به أبداً، فأحدنا سيكون حاضراً والآخر سيكون غائباً. هذه المقولة لأبيقور، ونحن نعلم أن أبيقور أحد الفلاسفة الرئيسيين في العصر الهلنستي، الذي امتد على مدى ثلاثة قرون بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل الميلاد، وأرسطو في عام 322 قبل الميلاد.

يبدو أننا عثرنا على مقولة أبيقورية في بيئة رواقية، فالفيلم بجزئيه يسبح في بحر «الرواقية».

لطالما كان أبيقور عرضة لسوء الفهم، خصوصاً عند الحديث عن مذهب اللذة ونظريته في السعادة. يتضح هذا عندما ندقق في مذهبه، فالسعادة عنده هي العيش في سلام بعيداً عن الألم، وطعامه الخبز والماء، في حياة زهد تشبه حياة المتصوفة. كل ما يُنسب إلى أبيقور مما يدعو إلى العبّ من الملذات هو في الحقيقة من كلام أرسطبوس، تلميذ سقراط. ذلك الفيلسوف المنسي الذي كان يعيش المتعة فعلاً في حياته نديماً للملوك، ولا يكترث بأي علم لا يزيد من استمتاعنا بالحياة، ويقرر أن الحكيم لا يقلق ولا يكترث بالأمور التافهة.

وقد ارتفعت أسهم نسخة أرسطبوس المنقحة (أبيقور) في العصر الروماني لتكون إحدى ثلاث فلسفات مهيمنة في تلك الفترة. الثانية هي «الرواقية»، والثالثة هي «الشكوكية». بينما تراجعت كل الفلسفات الأخرى لتبقى في دائرة اهتمام النخبة فقط، لأن الإنسان العامي لم يعد مشغولاً بالوجود والفلك ومراقبة الكواكب ودراسة الحيوان، بقدر ما هو مشغول بالتخلص من الخوف والألم والجوع في أزمنة مضطربة.

كان الصراع بين «الأبيقورية» و«الرواقية» شديداً، فلا تسلك واحدة طريقاً أو تتبنى رأياً حتى تسلك الأخرى طريقاً غيره. و«الشكوكيون» يرفضون الجميع، وإن كان عداؤهم أشد للرواقيين. إلا أن الجميع متفقون على أن الفلسفة ليست لعباً، بل هي فن يهدف إلى تحقيق الشفاء الروحي، قبل أي غاية أخرى. ولا شك أن المسيحية كانت تنافسهن في الخفاء، حتى جاء نصرها الكبير عندما عُمد قسطنطين مسيحياً في القرن الرابع وأصبحت دين الإمبراطورية الرسمي بعد قرون من الاضطهاد.

«المجالد 2» لا ينطلق من العصر الهلنستي، بل بعده، من عصر الإمبراطورية الرومانية الذي ابتدأ سنة 27 قبل ميلاد المسيح. لقد حُسمت الحروب الأهلية والصراعات السياسية بانتصار أوكتافيان على ماركوس أنطونيوس وكليوباترا في معركة أكتيوم في عام 31 قبل الميلاد، والغزو اللاحق لمملكة البطالمة في مصر. في عام 27 قبل الميلاد، منح مجلس الشيوخ الروماني أوكتافيان سلطة عسكرية شاملة، مما يعني توليه العرش كأول إمبراطور روماني.

وعاش الناس في أول قرنين من عمر الإمبراطورية فترة من الاستقرار والازدهار غير المسبوقين تعرف باسم «السلام الروماني»، ومن ضمن الأباطرة الذين حكموا كان الإمبراطور ماركوس أوريليوس الذي دعا للفلسفة الرواقية. يحاول الفيلم تصويره على أنه جمهوري أوصى بالحكم من بعده لمجلس الشيوخ. بينما الأقرب للصحة أن شيئاً من هذا لم يحدث، وأنه أوصى بالحكم من بعده لولده كومودوس، وأنه قد نكّل بالمسيحيين أشد تنكيل.

مع القرب بين الفلسفتين إلا أننا نلحظ بينهما اختلافاً. ففي «الأبيقورية» تتحقق السعادة بالسعي وراء المتعة الذي يُفهم على أنه غياب الألم والقلق، وتدافع عن الملذات البسيطة والصداقة، والفكر باعتباره مفتاح حياة الرضا. بينما ترى «الرواقية» أن السعادة تكمن في الفضيلة والعيش وفق الطبيعة والعقل، وتنمية السلام الداخلي بغض النظر عن الظروف الخارجية، ولا يعطون الأولوية للمتعة. بدلاً من ذلك، يؤكدون على أن الفضيلة، ويعنون بها الحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال، هي الخير الحقيقي الوحيد، وأن الملذات الخارجية ليست ضرورية لحياة جيدة.

إدارة العواطف وفهمها ضرورية عند «الأبيقورية» لأنها يمكن أن تؤدي إلى الألم والاضطراب. ولذا تشجع على تنمية المشاعر الإيجابية متوسلة بالصداقة والتأمل الفلسفي. بينما تدعو «الرواقية» إلى السيطرة على العواطف ولا تدعو إلى ابتداع مشاعر إيجابية، بل تدعو إلى قبول ما هو كائن. المشاعر السلبية تنشأ من الأحكام الخاطئة، ولذا يجب على المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ على الاتزان وقبول ما لا يمكن تغييره.

وتؤمن «الأبيقورية» بمادية الكون، متأثرة بالمذهب الذري. يعتقدون أن كل شيء مصنوع من ذرات، وأن الآلهة لا تتدخل في شؤون الإنسان. بينما يؤمن الرواقيون بعالم عقلاني منظم تحكمه سببية إلهية (لوغوس). إنهم يرون أن الكون مترابط ويؤكدون على أهمية قبول الفرد لمصيره كجزء من خطة عقلانية أكبر.

التركيز الأخلاقي في «الأبيقورية» يقوم على تكثير المتعة وتقليل الألم. ويتضمن ذلك دراسة متأنية لنتائج الأفعال على رفاهية الفرد ورفاهية المجتمع. فيما يقوم التركيز الرواقي على العيش الفاضل وقيام الفرد بدوره في المجتمع، وبالتصرف وفقاً للعقل والفضيلة، بغض النظر عن النتائج، هل هي سعيدة أم لا، وإن أدّت إلى حرمان الأم من ابنها.