واقع اللغة العربية ما بين الأصيل والمستعار

بسمة عبد العزيز ترصد مفارقاتها في «مقام الكلام»

واقع اللغة العربية ما بين الأصيل والمستعار
TT

واقع اللغة العربية ما بين الأصيل والمستعار

واقع اللغة العربية ما بين الأصيل والمستعار

ترصد الكاتبة والروائية المصرية بسمة عبد العزيز في كتابها «مقامُ الكلام - في نكش المألوف من ألفاظ وأحوال» علاقة اللغة بمتن الحياة اليومية، وبما تنطوي عليه من دلالات وإشارات بلاغية، فتستهل كتابها بنظرة مشهدية بانورامية تقف فيها على تحوّلات تلك العلاقة التي بلغت حد «الامتهان»، حسب توصيف الكتاب لها.

يعتمد الكتاب، الصادر أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، على استقصاء تمثيلات صورة اللغة العربية في لغة الشارع اليومية والواقع المعيش، متأملاً وقوعها بين الإقصاء المُتعمد والاتهامات بالتعقيد والجمود،، ويتم ذلك ضمن سياقات أوسع، تشمل الخطاب التعليمي والثقافي، فترصد كيف استحالت اللغة وسط هذا السياق هجيناً من حروف عربية وأجنبية، بما أربك اللغة وأفقدها صوابها، حتى إن قواعد النحو طُوّعت لصالح هذا الهجين لا العكس، وهو ما تستعرضه الكاتبة في مشاهد تسعى لمُحاكاة هذا الارتباك بلغة تستنطق هذا الخلل فتقول: «يبدو أن أحاديثنا صارت غريبة في وقعها على الأذن المنضبطة، عجيبة في فحواها وتراكيبها، تخلط كلمات متباينة الجذور ببعضها، وتشتق من لغة على مقياس أخرى، وتستخدم أدوات التعريف والإشارة مع ما ليس من جنسها، تجمع المفرد ذا الأصل اللاتيني على وزن الجمع العربي، وتصيغ المضارع بالياء من الفعل الإنجليزي».

منطوق ومكتوب

لا يُميّز هذا الارتباك اللغوي بين المنطوق منه والمكتوب، فتستشهد صاحبة رواية «الطابور» في كتابها بمفارقات تسميات الأسواق التجارية، ولافتات البقالات، والمطاعم، وأسماء المشروعات الجديدة التي غلب عليها اللغة الإنجليزية، مُميزة بين دول تترك الأمر لدفة العشوائية، وأخرى ما زالت تُعلي من استخدام العربية الخالصة على اللافتات، وتضع الأمر ضمن نسق عام أوسع ما بين توجهات الأنظمة الحاكمة، وصولاً لتأثيرات هُوية رأس المال والاستثمارات الأجنبية، وجنسيات الكيانات الكبرى العابرة للحدود والقارات في تأثيرها على اللغة وشخصيتها، تقول: «تتراوح أسماء الأسواق في بلدان العرب بوجه عام ما بين لغتهم وغيرها، على عكس عديد من الدول الغربية التي تنص قوانينها على ضرورة كتابة أي لافتة باللغة الرسمية للبلاد، فإذا أضيفت أخرى نُقشت أحرفها على مساحة أقل. راجعت أسماء الأسواق في بعض الدول المجاورة، فوجدت كثيرها عربياً خالصاً، كالعليا وصحارى والرويشدي والعزيزية والرياض، ونادرها أجنبيّ».

وتضع الكاتبة مُفارقة تخصيص يوم للغة العربية في مرمى الشجون، وسط إهمال الحديث عنها، وفي ظل توصيات ووعود برّاقة تتبخر حتى موعد اليوم العالمي الجديد لها، فيما يبدو وكأن اللغة أصبحت بضاعة «معطوبة» لا يريد أحد أن يبتاعها.

فروع وأجنحة

يحتفي الكتاب، عبر (228) صفحة باللغة على طريقته الخاصة، فينحت من اللغة العربية جماليات ومشهديات أدبية موصولة بشغف التنقيب و«النبش» في معينها، كما يشير عنوانه، لتبتكر الكاتبة من مصادر الكلمات فروعاً وأجنحة، على مدار 54 فصلاً، تُسمي كل فصل بكلمة واحدة يدور حولها المتن، وتخرج بمُفارقات مُشاغبة، واشتقاقات بالغة الشجن.

ترتحل الكاتبة بالكلمات التي اختارتها عناوينَ لفصولها، في جولات حُرة تتحرى جذورها المُعجمية والبلاغية، دون أن تقف عندها، بل تتجاوزها لتخلق تناصاً مع مُفارقات مُعاصرة لا تخلو من طرح أسئلة نقدية تستدعي التراث العربي، والأمثال العامية، والسّير الشعبية، والأسطورة التاريخية، وأدبيات الشِّعر والسينما والمسرح، في نسيج يستجلي من المفردات «المألوفة» طبقات أعمق من التأويل، والمُراوحات الفلسفية والأدبية المُوازية للقاموس اللغوي.

ففي فصل بعنوان «عبث»، تستدرج من المعجم تعريفه بـ«اللعب»، فالعابث هو اللاهي، اللاعِب بما لا يعنيه، فيُقال: عبث الدهر به. ويأخذها المعنى إلى عالم الأديب الفرنسي الراحل ألبير كامو الذي تتوقف عند جملته: «فإذا لم نكن نؤمن بشيء، وإذا لم يكن هناك معنى لأي شيء، وإذا كنا لا نستطيع تأكيد أي قيمة، أصبح كل شيء ممكناً، ولا أهمية لكل شيء»، تُعلق الكاتبة بأن عبارته تلخيص شامل جامع لمضمون العبث وفحواه، وقبل أن تستدعي الكاتبة صاحب «الطاعون»، كانت قد توقفت قبله عند خليل مطران وهو يقول:

عبثٌ طوافي في البلاد وعلةٌ في عِلّةٍ منفاي لا استشفاء

فتُعلق هنا على بيت «شاعِر القُطرين» بأن الأسفار لم تُخفف عنه أوجاع الحُب والشوق، وأن ترحاله ذهب سُدى، وتستطرد: «ربما يُرافق العشقَ بطبيعته شيء من العبث على اختلاف مُشتقاته وفاعليه»، فيما تستدرج وجهاً آخر للحب في فصل آخر بعنوان «بقاء»، وفيه تتنقل بين مراوحات تلك الكلمة الواسعة، وتتوقف عند قول عروة بن حزام:

وما عجب موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيب

وتعقّب عليه الكاتبة بأن التلظّي بسعير الهوى يفُتّ العضد، ويُشقي القلوب، فيصبح الوصال إذاً أمراً مُضنياً، ويغدو البقاء أشد صعوبة من الرحيل، بل مدعاة للدهشة والعجب.

فهكذا تفرض فصول الكتاب الشيق لعبتها الفنية الخاصة، معتمدة على إعادة إنتاج المفردات اللغوية وتدويرها لخلق مساحات سردية وتعبيرية جديدة، ما يعكس آصرة وطيدة مع اللغة عبّرت عنها الكاتبة المصرية في مطلع الكتاب وهي تقول إن الفصول «يجمع بينها خيط اللغة الذي أُوليه، لهوى في نفسي، كثيراً من الاهتمام».



«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة

«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة
TT

«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة

«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة

«السحر - في المعتقد الشعبي» عنوان الكتاب الصادر عن سلسلة «الدراسات الشعبية» بالهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة وترصد فيه الباحثة شيرين جمال الدين البرادعي تجليات الممارسات العملية والمفاهيم المجتمعية وما يكتنفها من أخطاء وبعد عن المنطق في هذا السياق. وتشير في البداية إلى أن «السحر» من الناحية اللغوية جاء في مختلف القواميس العربية بمعانٍ مختلفة، حيث نجد أن هناك «سحراً» بمعنى الخديعة أو إظهار الشيء على غير حقيقته، أو كما يقول «المصباح المنير»: «السحر هو إخراج الباطل في صورة الحق». أما في «لسان العرب» فهو «صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق وصوّر الشيء إلى غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهته».

وتذهب بعض التعريفات إلى إمكانية استخدام المصطلح لتحقيق «الإيذاء»، وسُمّى السحر سحراً لأنه يزيل الصحة، ويقال في اللغة «سحره بكذا» أي خدعه، وسلب لبه، وسحر عينه بمعنى استماله أو أفسده.

وقد فرّق ابن خلدون بين «السحر» و«إتيان الكرامة»، فالكرامة لا يأتي بها سوى الولي، وذلك لكونه مجبولاً على أفعال الخير، مصروفاً عن أفعال الشر. أما الساحر فلا يقع منه إلا الشر ولا يُستخدم سوى في أسباب الشر، وبذلك يكونا على طرفي نقيض. كما ذكر ابن خلدون أن السحر علم مكتسب يتحصل بالتعليم والصناعة، بينما الكرامة هي منحة إلهية لا تحتاج إلى شيء من المعاناة. والمعجزة كذلك لا تُعطى إلا لأنبياء الله ورسله، فهي قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، وهي مؤيدة بروح الله على فعل ذلك، بينما الساحر يفعل ذلك من عند نفسه وبقوته النفسانية، على حد تعبير ابن خلدون.

أما «العرَافة» فهي مهارة التنبؤ بواسطة الاتصال بما يوصف بأنه «أرواح شريرة» وترتد في معناها الأصلي إلى معنى آخر عكس ما صار شائعاً عنها، فقد كان العرَّاف هو الشخص صاحب الحكمة والبصيرة. ومن أنواع العرَافة «الفأل»، وهو قراءة المستقبل بالخطوط والرسوم والآثار والأشكال، أما «الطيرة» فهي فأل يدعو إلى التشاؤم.

ويشير الكتاب إلى أن السحر في المعتقدات الشعبية، ينقسم إلى نوعين هما «سحر الرفاعي» و«السحر العدواني»، يختلفان حسب الغرض المرجو منهما وموقع القمر الذي يلعب دوراً مهماً في نجاح أو فشل «العملية السحرية»، فالسحر الرفاعي ينجح في النصف الأول من الشهر القمري، أما النوع الثاني فيختص به النصف الثاني من الشهر ذاته.

ويعد تصنيف الألوان من أشهر التقسيمات الخاصة بالسحر، فاللون يرمز للغرض المرجو من العملية كلها. ويهدف «السحر الأبيض» إلى النفع للفرد والمجتمع دون إلحاق أذى بالآخرين، وهو يختص عادة بالتنبؤ بالمستقبل أو العلاج والتداوي، أما «السحر الأسود» فيهدف إلى إلحاق الأذى بالآخرين وتحقيق مصلحة شخصية.

وبحسب الباحثة، عُرفت مصر في العالم القديم بأنها أرض السحر والسحرة؛ لأن المصري القديم عرف التمائم والتعاويذ المكتوبة والرقى والطلاسم. وكان الهدف من هذا كله حماية حياة الإنسان والآلهة من القوى الخفية التي لا يرونها، فكان السحر يستخدم في علاج الأمراض ودرء الخطر، ولم يمارس المصري القديم السحر لإيذاء الآخرين. واستمر الاعتقاد في السحر لدى المصريين خلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى أصبح أحد الأمراض الاجتماعية التي انتشرت في مصر في ذلك الوقت. وكان أكثر انتشاراً في «الحريم السلطاني»، حيث تعددت زوجات سلاطين مصر في حقب مختلفة وأخذت كل زوجة منهن تسعى لتكيد لغيرها وتظهر عليها، حتى أنه إذا مرض السلطان اتهمت أمه إحدى زوجاته بأنها سحرته، فيتم ضرب جواريها حتى يعترفن. أما عامة الناس فحاولوا اتقاء شر السحر بكثير من العادات والممارسات التي تعملها النساء في بيوتهن من إطلاق البخور وإحراق الأشياء والصور.

وتعد الدوافع الشخصية أحد أشهر الأسباب التي تدفع البعض لاحتراف أعمال السحر، مثل الرغبة في تقديم المساعدة إلى الغير من خلال حل بعض مشاكلهم، كما أن هناك دوافع شخصية تكمن في رغبة البعض في اكتساب مكانة خاصة داخل المجتمع ليتمكن من السيطرة على أعدائه والتخلص من أذاهم.

وتلعب الوراثة دوراً رئيسياً في مزاولة السحر، حيث يتعلم «الساحر» المهنة عن والده أو أحد السحرة المحترفين وقد يرث السمعة التي يتمتع بها أستاذه و«عملاؤه» أيضاً.