«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة

«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة
TT

«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة

«السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيم شعبية خاطئة

«السحر - في المعتقد الشعبي» عنوان الكتاب الصادر عن سلسلة «الدراسات الشعبية» بالهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة وترصد فيه الباحثة شيرين جمال الدين البرادعي تجليات الممارسات العملية والمفاهيم المجتمعية وما يكتنفها من أخطاء وبعد عن المنطق في هذا السياق. وتشير في البداية إلى أن «السحر» من الناحية اللغوية جاء في مختلف القواميس العربية بمعانٍ مختلفة، حيث نجد أن هناك «سحراً» بمعنى الخديعة أو إظهار الشيء على غير حقيقته، أو كما يقول «المصباح المنير»: «السحر هو إخراج الباطل في صورة الحق». أما في «لسان العرب» فهو «صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق وصوّر الشيء إلى غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهته».

وتذهب بعض التعريفات إلى إمكانية استخدام المصطلح لتحقيق «الإيذاء»، وسُمّى السحر سحراً لأنه يزيل الصحة، ويقال في اللغة «سحره بكذا» أي خدعه، وسلب لبه، وسحر عينه بمعنى استماله أو أفسده.

وقد فرّق ابن خلدون بين «السحر» و«إتيان الكرامة»، فالكرامة لا يأتي بها سوى الولي، وذلك لكونه مجبولاً على أفعال الخير، مصروفاً عن أفعال الشر. أما الساحر فلا يقع منه إلا الشر ولا يُستخدم سوى في أسباب الشر، وبذلك يكونا على طرفي نقيض. كما ذكر ابن خلدون أن السحر علم مكتسب يتحصل بالتعليم والصناعة، بينما الكرامة هي منحة إلهية لا تحتاج إلى شيء من المعاناة. والمعجزة كذلك لا تُعطى إلا لأنبياء الله ورسله، فهي قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، وهي مؤيدة بروح الله على فعل ذلك، بينما الساحر يفعل ذلك من عند نفسه وبقوته النفسانية، على حد تعبير ابن خلدون.

أما «العرَافة» فهي مهارة التنبؤ بواسطة الاتصال بما يوصف بأنه «أرواح شريرة» وترتد في معناها الأصلي إلى معنى آخر عكس ما صار شائعاً عنها، فقد كان العرَّاف هو الشخص صاحب الحكمة والبصيرة. ومن أنواع العرَافة «الفأل»، وهو قراءة المستقبل بالخطوط والرسوم والآثار والأشكال، أما «الطيرة» فهي فأل يدعو إلى التشاؤم.

ويشير الكتاب إلى أن السحر في المعتقدات الشعبية، ينقسم إلى نوعين هما «سحر الرفاعي» و«السحر العدواني»، يختلفان حسب الغرض المرجو منهما وموقع القمر الذي يلعب دوراً مهماً في نجاح أو فشل «العملية السحرية»، فالسحر الرفاعي ينجح في النصف الأول من الشهر القمري، أما النوع الثاني فيختص به النصف الثاني من الشهر ذاته.

ويعد تصنيف الألوان من أشهر التقسيمات الخاصة بالسحر، فاللون يرمز للغرض المرجو من العملية كلها. ويهدف «السحر الأبيض» إلى النفع للفرد والمجتمع دون إلحاق أذى بالآخرين، وهو يختص عادة بالتنبؤ بالمستقبل أو العلاج والتداوي، أما «السحر الأسود» فيهدف إلى إلحاق الأذى بالآخرين وتحقيق مصلحة شخصية.

وبحسب الباحثة، عُرفت مصر في العالم القديم بأنها أرض السحر والسحرة؛ لأن المصري القديم عرف التمائم والتعاويذ المكتوبة والرقى والطلاسم. وكان الهدف من هذا كله حماية حياة الإنسان والآلهة من القوى الخفية التي لا يرونها، فكان السحر يستخدم في علاج الأمراض ودرء الخطر، ولم يمارس المصري القديم السحر لإيذاء الآخرين. واستمر الاعتقاد في السحر لدى المصريين خلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى أصبح أحد الأمراض الاجتماعية التي انتشرت في مصر في ذلك الوقت. وكان أكثر انتشاراً في «الحريم السلطاني»، حيث تعددت زوجات سلاطين مصر في حقب مختلفة وأخذت كل زوجة منهن تسعى لتكيد لغيرها وتظهر عليها، حتى أنه إذا مرض السلطان اتهمت أمه إحدى زوجاته بأنها سحرته، فيتم ضرب جواريها حتى يعترفن. أما عامة الناس فحاولوا اتقاء شر السحر بكثير من العادات والممارسات التي تعملها النساء في بيوتهن من إطلاق البخور وإحراق الأشياء والصور.

وتعد الدوافع الشخصية أحد أشهر الأسباب التي تدفع البعض لاحتراف أعمال السحر، مثل الرغبة في تقديم المساعدة إلى الغير من خلال حل بعض مشاكلهم، كما أن هناك دوافع شخصية تكمن في رغبة البعض في اكتساب مكانة خاصة داخل المجتمع ليتمكن من السيطرة على أعدائه والتخلص من أذاهم.

وتلعب الوراثة دوراً رئيسياً في مزاولة السحر، حيث يتعلم «الساحر» المهنة عن والده أو أحد السحرة المحترفين وقد يرث السمعة التي يتمتع بها أستاذه و«عملاؤه» أيضاً.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.