أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

قطع عاجية مزينة بنقوش تصويرية

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.


مقالات ذات صلة

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)
ثقافة وفنون سامانثا هارفي تمسك بجائزة البوكر ورايتها «أوربيتال» (إ.ب.أ)

سامانثا هارفي: أهدي فوزي لأولئك الذين يتحدثون باسم الأرض

ذكر رئيس لجنة التحكيم، الفنان والمؤلف إدموند دي وال، بأن رواية سامانثا هارفي تستحق الفوز لـ«جمالها وطموحها»

«الشرق الأوسط» (لندن)

«قلق السرد»... فلسطين روائياً

«قلق السرد»... فلسطين روائياً
TT

«قلق السرد»... فلسطين روائياً

«قلق السرد»... فلسطين روائياً

صدر في الشارقة عن الدائرة الثقافية كتاب نقدي جديد للروائي والناقد السوري نبيل سليمان، هو «قلق السرد»، وبذلك يبلغ عدد مؤلفات نبيل سليمان الروائية والنقدية ستين كتاباً. وفي مقدمة الكتاب الجديد نقرأ:

«يتعلق قلق السرد بالشكل، وليس فقط بالمحتوى أو المضمون. والرواية - إذن – قد تورثنا القلق بفعل وفضل الشكل، وليس فقط بمادتها الحكائية أو أحداثها أو حمولتها من الأزمات والأحوال النفسية أو من التاريخ. وهنا يتوحد الحديث عن قلق السرد بتوتره، ومن تجلياته: الجمل القصيرة، الإيقاع اللاهث، علامات الاعتراض والمقاطعة. ولا ننس انثيال السرد في هيئة سبيكة لغوية، تخلو من علامات الترقيم، وتتكسّر فيها أية علامات أو مؤشرات أو حواجز تنظم السرد. ومن الأمثلة البديعة لذلك في غُرر الحداثة الروائية الرائدة أذكّر برواية (نجمة أغسطس – 1974) لصنع الله إبراهيم، ورواية (ألف ليلة وليلتان – 1977) لهاني الراهب (1939 – 2000).

يثير العجائبي والغرائبي والخارق، يثير الفانتاستيك من قلق السرد ما يثير. وقد يورث ذلك قلقاً في البناء الروائي، فهل مثل هذا القلق مذمّة بالضرورة؟ وماذا أيضاً عن القلق اللغوي الذي يعانق تعدد اللغات الروائية: هل هو ضرورة أو مذمّة؟».

يحاول هذا الكتاب تشغيل الأسئلة والأفكار السابقة في قراءة مائة وست وأربعين رواية، فيبدأ باستكشاف ما في الجغرافيا الروائية من مولّدات القلق السردي، بعامة، قبل أن يخصص القول في روايات توزعت فضاءاتها وتشظت وتفاعلت من العراق والهند والصين إلى بيروت. ولئن كان ذلك يميل بالقول إلى المحمول السردي، فلعل الفصل التالي يميل، على العكس، بالقول إلى الشكل؛ إذ يتقرى فعل الموسيقى والنحت، فعل الفنون في السرد الروائي. وهذا ما سيتعمق ويتواصل في الفصلين التاليين. ففي فصل «في الفن الروائي»، يمضي تقصّي قلق السرد إلى ما للصوفية في الرواية، وإلى الكتابة المشتركة للرواية، فإلى ما بين الشعر والرواية، فإلى شكل النوفيللا. وفي الفصل الذي يلي يتحدد القول بما بين السيرة والرواية من استبطانٍ لقلق التجنّس بهما، وهذا من قلق السرد في الصميم.

من الكتاب:

«لأن لقلق الهوية الفلسطينية شأناً خاصاً، أفردتُ له فصلاً خاصاً لتجلياته في قلق السرد الروائي الفلسطيني. وبذا، بقي لأهجاس مجتمعاتنا المعاصرة فصل أخير، يتعدد في تعبيراته الروائية قلق السرد بين العبودية والضحك والهزيمة والمياه والمرأة المشبوحة بين عالمين والمفصل الزمني الحاد المتمثل في رأس السنة، كل سنة.

ولعل من المهم أن أشير إلى أن تحديد روايات بعينها لكل فصل، لا يعني أنْ ليس فيها ما يخاطب فصلاً آخر. فهذه رواية (يصحو الحرير) مثلاً تنادي الفصل الأول بفضائها المترامي بين مدن الجزائر ووهران وبشار وندرومة وإستانبول والشام (دمشق) وإسكندرون. لكن شخصية الفنانة التشكيلية حروف الزين، وهي الشخصية المحورية، مالت بالرواية إلى فصل (في الفن الروائي). ومثلها رواية (تصحيح وضع) التي يترامى فضاؤها بين ديترويت والرياض والدمام وأبوظبي ودبي وعدن. فقد مال ما في الرواية من أهجاس المجتمعات... إلى الفصل الأخير (أهجاس المجتمعات الروائية). وكذا الأمر في روايات (ملك اللصوص) و(كتيبة سوداء) و(فاكهة للغربان) حيث رجحت كفّة التاريخ على كفّة الجغرافيا، إن صح التعبير. أما روايتا (سماء القدس السابعة) و(قناع بلون السماء) فما لهما من الامتياز الفني ينادي فصل (في الفن الروائي)، وإن كان قلق الهوية الفلسطينية فيهما قد رجح كفّة فصل (فلسطين روائياً)».