في تفسير الظاهرة الأدبية

كان القرن العشرون وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك



السعودية تُقدِّر الجهود الجماعية لترسيخ الثقافة في التنمية المستدامة

راكان الطوق يلقي كلمة السعودية في «مؤتمر وزراء الثقافة العرب» بالرباط (واس)
راكان الطوق يلقي كلمة السعودية في «مؤتمر وزراء الثقافة العرب» بالرباط (واس)
TT

السعودية تُقدِّر الجهود الجماعية لترسيخ الثقافة في التنمية المستدامة

راكان الطوق يلقي كلمة السعودية في «مؤتمر وزراء الثقافة العرب» بالرباط (واس)
راكان الطوق يلقي كلمة السعودية في «مؤتمر وزراء الثقافة العرب» بالرباط (واس)

أعربت السعودية، الأربعاء، عن تقديرها جميع الجهود الجماعية في مواصلة الزخم لترسيخ أدوار الثقافة في التنمية المستدامة، مع الحفاظ على القيم المشتركة، والاعتزاز بالتراث الثقافي.

جاء ذلك في كلمتها التي ألقاها راكان الطوق مساعد وزير الثقافة السعودي، نيابةً عن الوزير الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، خلال مشاركته في أعمال «مؤتمر وزراء الثقافة العرب»، الذي تستضيفه مدينة الرباط المغربية، تحت عنوان «الصناعات الثقافية وتحديات التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي».

وقال الطوق: «تعتز السعودية بدورها في حماية وصوْن التراث الثقافي على المستويين العربي والإسلامي»، مبيناً أنها «تؤمن بضرورة توفير بيئةٍ ممكِّنة تركز على دعم الجهود المشتركة للحفاظ على التراث الثقافي وحمايته، لتحقيق الأهداف الثقافية العالمية، الداعية لتعزيز التعاون المشترك بين المنظمات ذات العلاقة».

راكان الطوق يلقي كلمة السعودية في «مؤتمر وزراء الثقافة العرب» بالرباط (واس)

وأضاف: «نؤمن بأهمية وقيمة المهن، والمنتجات التي تعتمد على الحِرف اليدوية، وما تجسّده من عمقٍ تاريخي يمثّل هويتنا»، متابعاً: «لذا حرصنا كل الحرص على تضمين هذه القيم عند إطلاق عام الحِرف اليدوية 2025 في السعودية».

وثمّن مساعد الوزير، جهود المشاركين لتعزيزهم استمرار مناقشة الصناعات الثقافية والإبداعية، وتحديات التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي ضمن إطار أعمال المؤتمر، ناقلاً تقدير السعودية مساعي المؤتمر لتحقيق أهداف الخطة الاستشرافية لتطوير تلك الصناعات في الدول العربية.

وشارك في الدورة الـ24 للمؤتمر الذي تُنظّمه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو»، الوزراء المسؤولون عن الشؤون الثقافية بالوطن العربي، ومديرو المنظمات الإقليمية والدولية المعنية.

المؤتمر شهد مشاركة الوزراء المعنيين بالثقافة في الوطن العربي ومديري منظمات إقليمية ودولية (واس)

وتضمن جدول العمل تقديم الخطوط العريضة للخطة الاستشرافية، وعرض خلاصات أعمال اللجنة الدائمة للثقافة العربية، واعتماد التوصيات الصادرة عنها. كما شهد الاجتماع تسليم رئاسة الدورة الـ25 بين السعودية والمغرب.

وتطرقت كلمات الجلسة الافتتاحية إلى الإمكانات الثقافية والصناعات الإبداعية التي يزخر بها الوطن العربي، وضرورة الترويج لها، وجعل الثقافة العربية مصدراً لتطور اقتصادات بلدانها، فضلاً عن الانفتاح على التجارب الرائدة في المجال عالمياً، والتفاعل معها.

إلى ذلك، أقرّ الاجتماع الوزاري، بمباركة وتأييد الدول العربية بالإجماع، استضافة السعودية لـ«مؤتمر اليونيسكو العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة (الموندياكولت) عام 2029»، وفق ما أعلن هاني المقبل رئيس المجلس التنفيذي لـ«الألكسو» عبر حسابه على منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي.