نسور الدُّوْر من معبد «شمش» الذي «لا يشرق شمسَه على الشرير»

تنتسب إلى طراز فنّي رفيع تشهد لحضوره في الجزيرة العربية

ثلاثة نسور حجرية من موقع ٱلدُّوْر في إمارة أم القيوين
ثلاثة نسور حجرية من موقع ٱلدُّوْر في إمارة أم القيوين
TT

نسور الدُّوْر من معبد «شمش» الذي «لا يشرق شمسَه على الشرير»

ثلاثة نسور حجرية من موقع ٱلدُّوْر في إمارة أم القيوين
ثلاثة نسور حجرية من موقع ٱلدُّوْر في إمارة أم القيوين

كشفت أعمال المسح والتنقيب المتواصلة منذ بضعة عقود في أراضي الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة من المواقع الأثرية، منها موقع الدُّوْر الذي يتبع اليوم إمارة أم القيوين، حيث يقع على الجانب الأيمن لشارع الاتحاد الذي يؤدي إلى إمارة رأس الخيمة من جهة، وإمارتي الشارقة ودبي من جهة أخرى. يحوي هذا الموقع أطلال مستوطنة مندثرة، خرجت منها مجموعة كبيرة من اللقى المتنوعة، تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد، منها ثلاثة تماثيل حجرية تصويرية تمثّل طيوراً جارحةً.

خرج موقع الدُّوْر من الظلمة إلى النور في مطلع سبعينات القرن الماضي، حين ظهرت بعض اللقى الأثرية في أرضه خلال تشييد طريق سريع يمتد على خط الساحل. شرعت بعثة عراقية باستكشاف الموقع في عام 1973 تحت إشراف الدكتور طارق مظلوم، وواصلت عملها في العام التالي، وظهرت المعالم الأولى لمستوطنة الدُّوْر خلال هذا المسح، وتبيّن أن هذه المستوطنة تضمّ بقايا حصن له أبراج. أثارت هذه الأبحاث اهتمام عدد من كبار علماء الآثار، في مقدمهم المستشرق الفرنسي جان فرنسوا سال الذي قاد في مطلع الثمانينات بحثاً ميدانياً مكثّفاً في الموقع، انصبّ بشكل خاص على جمع اللقى الفخارية المتناثرة على سطح الأرض.

نشر جان فرنسوا سال في 1984 دراسةً خاصةً عن الفخاريات التي عثر عليها خلال المسح الذي قام به، وبعد سنوات، قرّرت السلطة المحلية إقامة مطار في المنطقة، واتّضح أن هذا المشروع من شأنه أن يقضي على الدُّوْر، فسارعت السيدة شيرلي كاي، قرينة القنصل البريطاني في دبي، إلى الاتصال بالعالِم الفرنسي ريمي بوشارلار الذي كان يدير يومذاك بعثة في موقع مليحة التابع لإمارة الشارقة، وحثّته على العمل سريعاً لإنقاذ الموقع، فلبّى النداء، ونظّم مؤتمراً عالمياً تحت عنوان الدُّوْر. نجح المؤتمر، وتناوبت أربع بعثات تنقيب أوروبية على العمل في الموقع في الفترة الممتدة من 1987 إلى 1995. قدمت هذه البعثات من الدانمارك وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا، وشاركت كل منها في التنقيب خلال مواسم عدة، تراوحت مدّة كلّ منها بين الشهر والشهرين.

عملت البعثة البلجيكية مدى تسع سنوات تحت إشراف العالِم إيرني هايرينك، وكانت أول اكتشافاتها الكبيرة معبد تحيط بما تبقّى من أسسه كثبان رملية شرقاً وجنوباً. يعود هذا المعبد إلى القرن الميلادي الأول كما أظهرت الدراسات المتأنيّة اللاحقة، وهو شبه مربّع الشكل، إذ يتراوح طول كل ضلع من أضلاعه بين 8 و8.5 متر، ويتميّز بمدخلين متقابلين من جهتي الشرق والغرب، وتتقدّم المدخل الشرقي بقايا مصطبة تحدّها كتلتان ناتئتان على شكل قاعدتين. شُيّد البناء بحجارة محليّة ذات أساس كلسي، استُقدمت كما يبدو من نواحي الموقع، وبعضها من حجر المرجان. زُيّن جزءٌ من هذه الحجارة بحلية من النقوش بقيت منها بضع زخارف هندسية على عضادتَي المدخل الشرقي.

بين أطلال هذا المعبد، عُثر على حجر على شكل حوض يحمل نقشاً باللغة الآرامية يتألف من تسعة أسطر احتار أهل الاختصاص في قراءتها. حوى هذا النص الملتبس عبارة «شمش»، وهي اسم معبود معروف في بلاد ما بين النهرين، وهو في نص آرامي يُعرف بـ«كتاب أحيقار» سيد العدالة الذي «لا يشرق شمسَه على الشرير»، وحامي المنكوبين والمظلومين، كما يُستدل من حكمة تقول: «إذا أمسك الشرير طرف ردائك، فاتركه في يده، والجأ إلى شمش، فهو يأخذ ما له ويعطيك». من جهة أخرى، كشفت أعمال التنقيب عن تمثالين متشابهين من الحجم المتوسّط، وصلا بشكل مجتزأ للأسف، إذ فقد كل منهما رأسه. صُنع هذان النصبان من الحجر الرملي البحري، وهما متشابهان، ويمثّل كل منهما طيراً جارحاً من النسور أو من الصقور. ورأى بعض المختصين أن كلّاً من هذين النسرين كان في الأصل رابضاً على قاعدة من القاعدتين البارزتين القائمتين عند مصطبة المدخل الشرقي، وتمّ ربطهما بالمعبود «شمش» الذي ورد ذكره بشكل لا لبس فيه في النقش الآرامي الغامض الذي دُوّن على الحوض.

يتشابه نسرا معبد الدُّوْر، غير أنهما لا يتماثلان بشكل مطلق، ويتميّز واحد منهما بانتصابه فوق رأس ثور يظهر في وضعية المواجهة بشكل مستقلّ، وفقاً لتأليف معروف، اعتُمد بشكل واسع في جنوب الجزيرة العربية. يبلغ طول النسر مبتور الرأس نحو 45 سنتمتراً، وهو ثابت في جمود تام، مطبقاً بجناحيه على صدره. تزين كلّاً من التمثالين شبكة من النقوش الزخرفية المتجانسة تمثّل ريش الطير، واللافت أن هاتين الشبكتين تختلفان في تقاسيمهما بشكل جلي. تبدو قائمتا النسر المنتصب فوق رأس الثور مستقيمتين، وتعلوهما سلسلة من الخطوط العمودية تظهر في القسم الأسفل، فوق المخالب البارزة. في المقابل، تبدو قائمتا النسر الآخر منحنيتين بشكل طفيف، وتخلوان من هذه الخطوط العمودية.

تعدّدت صور النسر المنحوتة في أنحاء الشرق القديم، وحضرت بشكل واسع في العديد من المواقع الأثرية المعروفة، منها البتراء في الأردن، وتدمر في بادية الشام، والحِجْر في إقليم الحجاز، والحضر في السهل الشمال الغربي من بلاد الرافدين. قورن نسرا معبد الدُّوْر في وجه خاص بنسور الحضر، واعتمدت هذه المقارنة على التشابه في الأسلوب الفني من جهة، وعلى حضور «شمش» القوي في هذه المملكة الفراتية التي خصّصت له أهم أبنيتها وأفخمها.

من جهة أخرى، خرجت من معبد الدُّوْر المكرّس لشمش كما يُقال، منحوتة مهشّمة من الحجر الجيري الأبيض، تمثّل كذلك طيراً جارحاً يبلغ طوله نحو 25.5 سنتمتر. تتكوّن هذه المنحوتة من أربع قطع مبعثرة تمّ جمعها وترميمها، وتجسّد نسراً يقف منتصباً، مسدلاً جناحيه العريضين. يتميّز هذا النسر بصدر مكتنز وعنق ملتوٍ، وتزيّن ظهره شبكة من الخطوط الغائرة المتجانسة، تنسكب على جناحيه وعلى ذيله الممتد من خلفه.

في الخلاصة، تنتسب هذه التماثيل الثلاثة إلى طراز فني جامع، وتشهد لحضور النسر في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي لا تزال في طور استكشاف ميراثها الأثري الدفين.



قصة قصيرة جداً: المتجولة

قصة قصيرة جداً: المتجولة
TT

قصة قصيرة جداً: المتجولة

قصة قصيرة جداً: المتجولة

امرأة شقراء بعينين عميقتي الزرقة، في الثلاثين من عمرها تقريباً، تدفع عربة طفل وتدور بها في المدينة زائغة العينين مهملة الثياب. على وجهها بقايا جمال غابر، وبكتفين متهدلين أثقلهما هم طويل.

أتذكر أنني رأيتها في اليوم الأول أو الثاني لحلولي في أودفالا السويدية القائمة على منحدر من خليج بحر الشمال الأوروبي كفقمة سمينة وتظل تنتظر صيداً. بعد مدة عرفت أن العربة فارغة، وأن المرأة تكور فرشتها لتبدو وكأن طفلاً نائماً فيها. أتذكر أنني حين سمعت قصتها حزنت وشعرت فجأة بما يشبه الدوار حتى أنني جلست على مصطبة الحديقة لأستريح. هي تجول كل يوم في أرجاء المدينة لا تبقي شارعاً أو زقاقاً إلا وتدخله وعيناها تمسحان الأرصفة والزوايا، تبحث وتستطلع. ثم تدخل حديقة البلدة كأنها تفتش بين أشجارها وسواقيها وصفوف الورد، أحياناً تخرج عن صمتها المطبق وتصدر عنها همهمات وصرخات مكتومة، ثم تقطب بغضب وتلوح بيدها متوعدة شجرة سرو عالية، أو تمثالاً برونزياً على ضفة بركة. فجأة تسترخي ملامحها ويبدو وجهها مشرقاً وقد استعاد جماله وكأنها عثرت على ضالتها. تجلس إلى مصطبة تشعل سيجارة وتهيم نظراتها بعيداً مع سحب الدخان. أحياناً ينبعث منها صوت شجي في أغنية تذكرني بتنويمة الأطفال قديماً عندنا. كم راودني فضول أو نازع عميق لأتجه إليها وأسمع منها لا من الناس حكايتها، ولكن أي قلب عليّ أن أمتلك لأفعل ذلك؟ ثم هل حكايتها لا ترتمي في القلب واضحة كشعاع الشمس؟ أو كحلكة الليل؟ الناس هنا بعضهم يسميها «المتجولة». وكثيرون يسمونها «أم العربة»، بعضهم يقولها بحزن، بعضهم يقولها ضاحكاً. وفي كلا القولين أجدها حالة فظيعة أن تكون امرأة أمَّاً لعربة دون طفل؟ كلما بدا لي أن عربتها أنهكت وتخلعت وحال لون فرشها لما تلقى من ريح ومطر وكثرة سير، أجدها قد استبدلت بها أخرى وفرشاً آخر تحصل عليه من محل الأدوات المستعملة، أو من أمهات يهبن عادة عربات لا يحتجنها وقد كبر أبناؤهن. أحياناً تزوقها وتضع عليها لعب أطفال، وبعض الحلوى. ها قد مر على وجودي في هذه المدينة الغريبة الباردة أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أراها كلما نزلت إلى المدينة تدور بعربة الطفل الفارغة. وجهها الشاحب غاب جماله وامتلأ بالتجاعيد وازداد شحوباً وحزناً كما هو وجهي. أكثر من مرة حلمت أنني أدفع معها العربة ونجوب شوارع لم أرها من قبل. لأبحث معها عن هذا الذي لا أعرف ماذا جرى له تماماً. فأستيقظ لاهثاً. لقد كبرنا، كبرنا كثيراً، والطفل الذي هو ليس في العربة لم يكبر، ولن يكبر أبداً، أو ربما بلغ شيخوخته قبلنا في مكان ما، بعيداً أو قريباً.