مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

قمة كبرى من أجل شاعر... ونصف العالم يحضر للاحتفاء به

نصب الشاعر مخدوم قولي
نصب الشاعر مخدوم قولي
TT

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

نصب الشاعر مخدوم قولي
نصب الشاعر مخدوم قولي

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي، لم أكن متشجعاً في بداية الأمر لحضور الفعالية؛ ذلك أني لا أعرف أحداً في هذا البلد، ولا توجد لدينا سفارة، ولا أظن عراقياً واحداً يسكن فيها، رغم أن اسم عشق آباد يتردد في السرديات التاريخية والدينية بوصفها مدينة لها عمق تاريخي، وواحدة من عواصم الشرق القديم، فيها اختبأ التاريخ، وفوق رمالها صلى المتصوفون واعتكف الزاهدون، وربما وصل إليها أجدادنا قبل أكثر من ألف عام، فعانقوا فطرتها والتحموا بجلالها وجبالها، ولكني أخيراً تشجعت للحضور إلى هذه الفعالية، بعد أن قرأتُ عن الشاعر مخدوم قولي، وعن تركمانستان، وعن طبيعة الحياة فيها، فانطلقت إليها بعد عناء رحلة مضنية وترانزيت طويل نسبياً. وحين وصلت كنت أتوقع أن يكون الحفل والاحتفاء بالشاعر مثلما نقيمه نحن ببلداننا في مناسبات كهذه؛ يعني أن يحضر على أعلى تقدير وزير الثقافة وعدد من الأدباء والمهتمين بهذا الشأن في قاعة مغلقة، ونعزف السلام الجمهوري، ونفتتح المهرجان بالقصائد والكلمات، ونعود إلى بيوتنا بعد ذلك.

ولكني حين وصلت، وقبل أن أتحدث عن الحفل المركزي بودي الحديث عن المدينة (عشق آباد)؛ ذلك أن أول ما فاجأني هو اللون الأبيض، فالمدينة كأنّها مصبوغة باللون الأبيض، من رأسها حتى قدميها؛ إذ لا يوجد أي لون غيره، فالبنايات كلها من الرخام الأبيض، وواجهات البيوت أيضاً، والعلامات الدالة، والأرصفة، وحتى سيارات التاكسي. ترك هذا اللون مسحة هائلة من الأناقة والذوق على مفاصل المدينة، وكذلك النظافة التي تحلَّت بها المدينة، مما جعل منها مدينة غارقة بالذوق، حتى إني سألتُ أحد المرافقين لنا: لماذا عشق آباد مدينة غير سياحية؟ فأجاب أننا نخشى من السياح ألا يحافظوا على نظافتها؛ حيث إن النظافة لديهم تحولت إلى وسواس قهري، مما جعل السلطات لديهم تمنع التدخين في كل الأماكن، وهذا ما أزعجنا - نحن المدخنين.

أعود إلى الموضوع المركزي، وهو الاحتفاء بمرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان، مخدوم قولي فراغي، الذي أصبح لديهم أيقونة كبرى وجامعاً للهوية التركمانستانية، وهو عمل عظيم بالنسبة للشعراء، حين يتحولون إلى آباء للأمم، وصُنّاع للهوية الوطنية أو الأممية، وهذا ما حدث مع مخدوم قولي، وربما حدث مع شعراء آخرين، ولكنهم نادرون في هذا التوصيف، وقد جاءوا بطرق مختلفة، فمثلاً المتنبي لدى العرب تحول إلى حارس للغة العربية وملهم للهوية الثقافية والمعرفية، وأحد مصادر الفخر والاعتزاز والحكمة لدينا؛ فلا يكاد شخص عربي لا يحفظ ولو بيتاً للمتنبي، وكذلك شكسبير لدى الإنجليز، وبوشكين لدى الروس، كذلك مخدوم قولي تحول إلى جامع للهوية ورمز تلتف حوله الأمة التركمانية.

وصلنا إلى الفندق الرابعة فجراً، وأبلغونا بأن التحرك سيكون في السادسة صباحاً، فاستغربنا لماذا هذا الإصرار على حضور الفعالية صباحاً؟ عموماً تحركنا من الفندق السادسة صباحاً ووصلنا إلى تمثال الشاعر المحتفَى به، فكانت الصدمة الهائلة؛ حيث وجدنا نصباً للشاعر، ولكنه نصب بحدود 100 متر ينظر إلى المدينة بكاملها، وكأنه حارسها الشخصي، وأبوها الذي لا ينام. ويُقدر عدد الحاضرين بحدود 2000 شخص، منهم المسؤولون والوزراء والنواب والدبلوماسيون وموظفو الدولة من الدرجات العليا، إلى أن نصل إلى طلبة الجامعات، وكل شخص يحمل باقة ورود بين يديه، حتى نحن الضيوف الذين قدمنا من المطار، حمَّلونا باقات ورود لنهديها للشاعر في ذكراه. التمثال لوحده يحتاج إلى وقفة للقراءة والمعاينة، ذلك أن المساحة المخصصة له تُقدَّر بكيلومتر كامل أو أكثر، والقاعدة التي نُصب عليها التمثال تُقدَّر بخمسة دونمات، والصعود إليه عبر أكثر من 50 مدرجاً، ومن ثم النصب الذي لا يُرى ارتفاعاً وعرضاً، مما منح الهيبة والعلو والفخامة والجمال، وهو أول نصب في العالم - حسب علمي - يُمنَح لشاعر بهذا الحجم والفخامة، وهذا له رسائل عديدة تريد أن ترسلها الدولة في اتخاذها الشاعر مخدوم قولي رمزاً لوحدتها وهدفاً لانطلاقها.

ضيوف عديدون وشخصيات كبيرة من دول آسيوية وعربية، بوفود رفيعة المستوى قدَّموا جميعهم باقات الورد؛ حيث كان وزير الخارجية التركمانستاني في استقبال الوفود بمدخل الساحة المخصصة للنصب الكبير. أنظر إلى التركمانستانيين ذكوراً وإناثاً، وكأنهم في عيد ديني، أو وطني، فالكل يرتدي أجمل الملابس، ويحمل باقة الورد، ويُصوَّر مع التمثال، ويتبادل التهاني مع مَن معه، بالضبط كأنهم في عيد الفطر أو الأضحى.

احتفاء تركمانستان بمخدوم قولي فراغي يعيد الثقة بالشعر والشعراء ويعطي درساً للحكومات والأمم بطريقة الاحتفاء بهم

انتهينا من مراسم وضع الزهور، وهو مشهد لم أرَه منذ أكثر من 20 عاماً، حيث الإتيكيت الرسمي لمثل هذه التقاليد، بعد ذلك ذهبنا إلى الحفل الرسمي، حيث القاعة المركزية التي تضم مجمل الوفود المدعوة لهذا الحفل، وحين دخلنا القاعة وجدنا أن الحفل ليس احتفالاً بشاعر، إنما الدولة عقدت قمة كبرى؛ حيث تفاجأنا بحضور 12 رئيس جمهورية، وممثلين عن كل الدول المدعوة، وكلٌّ أمامه علم بلاده. وافتتح القمة رئيس الجمهورية محمدوف، ومن ثم ألقى رؤساء الجمهوريات المتبقون كلماتهم بهذه المناسبة. إن مثل هذا الحدث وهذا الاهتمام النوعي بالشعراء أظنه يحدث للمرة الأولى؛ في أن تنعقد قمة كبرى من أجل شاعر، وأن يحضر العالم للاحتفاء به، وإلقاء الكلمات بالمناسبة.

ماذا يريد الشعراء إذن؟ هل هناك خلود أكثر من هذا؟ أن تلتحم أمة بكاملها لأجله، وتصوغ حدثاً مرَّ عليه ثلاثمائة عام لتحتفي به داعية نصف العالم له، عابرين القارات والأمم من أجل مصافحته. إنها ولادة جديدة لهذا الشاعر، فمن لم يعرفه عرفه من جديد، ومَن لم يقرأ له فسيقرأه من جديد، وسيحفظ له نصوصه، وحين نقرأ مخدوم من جديد سنكتشف معه أسماء المدن والقرى التي كان يسكن فيها أو يمر بجانبها، وهي ظاهرة واضحة في قصائده؛ حيث تكثر أسماء القرى والمدن، وبهذا يتحول شعره إلى موسوعة أممية لمرحلة من المراحل، وستبدأ المؤسسات الثقافية ودور النشر بترجمة أعمال مخدوم لثقافاتها، ونشرها بما يليق بشعره، ومكانته في أمته. فعلاً إنها ولادة جديدة لمخدوم قولي، والاحتفاء مناسبة مهمة لجميع الشعراء في العالم لأن يعيدوا حساباتهم مع الشعر ومستقبله؛ حيث كثرت في السنوات الأخيرة استطلاعات الرأي ومقالات وكتب كثيرة تتحدث عن أفول زمن الشعر، وأن العالم يتغير تجاه تلك الفنون، وأنها تُستَبدل بها التقنيات الحديثة، وأن جمهور الشعر إلى زوال، وهذا ما ذكرتُه في إحدى مقالاتي عن أفول جمهور الشعر، وهي شكوى وندب للشعر بزواله وزوال جمهوره، ولكني حين رأيت كيفية استذكار الشاعر التركمانستاني مخدوم قولي راجعت أوراقي وتراجعتُ عن بعض مما أطلقته من أفول نجم الشعر؛ حيث وجدته في تلك البلاد شخصية محورية في صناعة الأمة والحفاظ على هويتها ولغتها وقوميتها، ولكني في الوقت نفسه لا أريد أن أكون مندفعاً وعاطفياً تحت وطأة النصب العظيم والحدث التاريخي وطريقة الاحتفاء؛ فلو عملنا استطلاعاً للرأي لدى هؤلاء الذين حضروا للاحتفاء باكراً في البرد؛ فهل سيحضرون من دون توجيه رسمي، ويضعون باقات الورد تحت قدمَي الشاعر؟

ولكن مع كل شيء شكراً لهذا الحدث العظيم الذي يعيد الثقة بالشعر والشعراء، ويعطي درساً للحكومات والأمم بطريقة الاحتفاء بهم بوصفهم حُرَّاساً على حدود هذا العالم على حد قول كادامير.


مقالات ذات صلة

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون دينا مندور

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل
TT

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية. لا بل إن اسم ذلك الشارع، يكاد يكون موازياً لاسم بيروت نفسها، واختزالاً لصورها المتقلبة في مرايا التفتح أو الذبول، الازدهار أو الانحلال. صحيح أن الرقعة الضيقة للمدينة المحشورة بين فكي الجبال والبحر، لم تسمح للشارع بأن ينافس على مستويي الطول والاتساع، كلاً من الشانزليزيه في باريس، أو الشارع الخامس في نيويورك، أو أكسفورد في لندن، ولكن الصحيح أيضاً أن شارع الحمراء الذي يمتد من محلة الصنائع شرقاً، لينتهي في الغرب عند تقاطع السادات، وبطول ألف وخمسمائة متر، قد اكتسب سمعته ومكانته من عوامل مختلفة حولته في النصف الثاني من القرن العشرين إلى واحد من أشهر الشوارع في بلاد العرب، وأكثرها صلةً بروح العصر وصور الاجتماع المديني.

وإذا كان اسم الحمراء بحد ذاته هو أحد العناصر المهمة التي منحت الشارع جاذبيته وسحره الفريدين، فإن سبب التسمية لم يكن واحداً عند أولئك الذين تصدوا بالدراسة المعمقة لتاريخ المدينة العريق والحافل بالأحداث. فإذ يذكر عبد اللطيف فاخوري أن سبب التسمية يعود إلى بني الحمرا الذين قدموا تحت ضغط القبائل القيسية من العراق إلى سهل البقاع اللبناني، قبل أن يهبطوا لاحقاً إلى بيروت، ليقطنوا ضاحيتها الغربية المسماة برأس بيروت، يرجح سمير قصير أن تكون تسمية الحمرا مرتبطة بذلك الفيض اللافت من «أنوار النيون التي أضاءت قبل عقود عدة لافتات المقاهي وقاعات السينما والمشارب والمقاهي، بالإضافة إلى المظاهر الأوروبية التي تسم الأمكنة والنساء».

وإذ يشير قصير إلى احتمال أن تكون التسمية مرتبطة بكثبان الرمل الحمراء التي زرعها الفلاحون بالصبار في أزمنة سابقة، يؤكد في الوقت نفسه على الذاكرة العربية الجمعية التي أعادتها التسمية إلى أطياف قصر الحمراء في غرناطة، حيث التماثل وارد بين الشارع البيروتي والأندلس الحافلة بصور الملذات والمتع ونضارة العيش.

وحيث لم تفت المؤرخين الإشارة الى الدور المفصلي الذي لعبه تأسيس جامعة بيروت الأميركية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في نمو المنطقة الواقعة بين شارعي بلس والحمراء، فإن مراكز الثقل البيروتية الكبرى ظلت حتى منتصف القرن الفائت موزعة بين وسط المدينة والمنطقة المعروفة بالزيتونة وبعض المتفرعات الأخرى. لا بل إن الكاتب والأكاديمي اللبناني جبرائيل جبور يتحدث عن أحوال المحلة التي كان يطلق عليها قبل قرن من الزمن اسم «مزرعة الحمرا»، إذ كان الشارع المعروف باسم جان دارك يرسم بأبنيته القليلة الحدود الغربية للعاصمة اللبنانية.

والواقع أن الصعود المتسارع لدور الشارع كان يتغذى من عوامل عدة، بينها تعاظم دور العاصمة نفسها التي تمكنت بفضل موقعها الجغرافي المميز، وبما تمتلكه من مساحات الحرية والتنوع، إضافة إلى إفادتها من فائض الثروة العربية النفطية، من أن تتحول إلى نقطة التقاء نادرة بين الشرق والغرب، وأن تصبح قِبلة العرب ومصرفهم ومطبعتهم وفندقهم ومركز ترفيههم وموئل المعارضين منهم. ولم يكن مستغرباً أن يصبح شارع الحمراء منذ حقبة الاستقلال المنصة الأهم لرياح الحداثة الوافدة، وهو الذي استطاع أن يوائم بنجاح باهر بين أقانيم الاقتصاد والسياحة والثقافة والاحتفاء بالحياة. وفي حين استطاعت واجهات محلاته الأنيقة واللماعة أن تبهر أنظار زائريه بآخر ابتكارات دور الأزياء في أوروبا والعالم، انتشرت بين ظهرانيه العديد من دور السينما والمسرح وصروح الفكر والفن ومقرات الأندية الثقافية. دون أن نغفل الدور الرائد لجريدة «النهار»، التي تمكنت بما اجتذبته من قامات صحافية وفكرية أن تشكل العمود السياسي الفقري للكيان اللبناني، بقدر ما تمكن ملحقها الثقافي من أن يرفد حركة التجديد الشعرية والأدبية، ببعض أفضل أسمائها ونتاجاتها.

ولا نستطيع أن نغفل في الوقت ذاته الدور المحوري الذي لعبته مجلة «شعر»، وندوتها الحوارية الأسبوعية، في إطلاق الثورة الثانية للحداثة، بعد أن تكفلت «الآداب» بالثورة الأولى. كما لا نستطيع أن نغفل «الندوة اللبنانية» التي أرادها ميشال أسمر أن تكون منصة مفتوحة وجريئة لحوار الثقافات، ولا مسرح البيكاديللي، الذي استضاف صوت فيروز ومسرح الرحبانيين الغنائي، فضلاً عن داليدا وميكيس تيودوراكيس وشارل أزنافور، وغيرهم من فناني العالم ومبدعيه. أما مقاهي الرصيف التي انتشرت على جانبي الشارع، والتي اتسعت دائرة روادها لتشمل خليطاً من النخب المثقفة، بشقيها المقيم والوافد، فقد بدت التجسيد الأمثل لصورة المدينة الشرفة، مقابل أنواع أخرى من المدن، مغلقة على نفسها وشبيهة بالقلاع.

أما العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة، فقد بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم يستطع تجنب شظاياها ومفاعيلها المدمرة، ثم زاد من حدته تذرر الكيان نفسه، الذي نخره الفساد والتنابذ الطائفي من كل جانب، دون أن يتاح للشارع المتماهي مع روح بيروت، أن يستعيد وهجه السابق وماضيه الوردي. صحيح أن قوة الحياة التي تعتمل في أحشائه قد عصمته من السقوط بالضربة القاضية، إلا أنه كان يخسر دوره بالنقاط، ويفقد بين صدمة وأخرى ما تبقى له من رصيد.

وقد يكون زياد الرحباني بما يملكه من موهبة ورؤية ثاقبة الى المستقبل واحداً من الفنانين القلائل الذين حدسوا بالمآلات القاتمة لشارع الحمراء، كما للمدينة برمتها، حين ذهب في عمله المميز «شي فاشل» إلى القول بأن انفراط عقد المدينة يعني بالضرورة انهياراً لمسرحها، بما هو فن مديني بامتياز. ولم يمر بعد ذلك وقت طويل حتى أقفل مسرح البيكاديللي أبوابه، وأطفأت دور السينما أضواءها الواحدة تلو الأخرى، وأقفلت مقاهي الرصيف العريقة كـ«الهورس شو» و«الستراند» و«الألدورادو» و«المودكا» و«الويمبي»، ليبدأ بعدها عصر المقاهي المعولمة ومطاعم الوجبات السريعة ومؤسسات تبييض الأموال.

العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

وفي ظل الانهيار المالي الأخير، حيث لم تعد المداخيل الشحيحة لمثقفي المدينة وكتابها الأحياء، تسمح لهم بدفع التكلفة الباهظة لفناجين قهوتهم التي دأبوا على احتسائها في مقاهي الشارع الرئيسي، راح هؤلاء يبحثون في متفرعات الحمراء الضيقة عن أماكن أقل كلفة وأكثر تواضعاً للقاءاتهم اليومية، وهو ما عثروا عليه بعد لأي في مقهى «الحمرا إكسبرس»، الذي تذكّر بساطته وطابعه الرومانسي بصوت فيروز وأغاني ماري هوبكنز الدافئة.

وإذا كانت الصورة النمطية التي رسمتها لشارع الحمراء، الذاكرة الجمعية لسكان الأرياف النائية والضواحي المهمشة، تبدو مزيجاً معقداً من «الحقد» الطبقي على الشارع، والوقوع المضاد في فخ جماله المغوي، فإن الحروب والأزمات المتعاقبة التي نزلت به، قد قلصت المسافة بينه وبين ضواحي المدينة وأحيائها الفقيرة الأخرى، متكفلة بتحويل الضغائن المترسبة في أذهان «أعدائه» السابقين إلى رغبة ملحة في ارتياده أو الإقامة بين ظهرانيه. والأرجح أن الذين قرروا بعشرات الآلاف اللجوء إلى شارع الحمراء، بفعل الدمار الكارثي الذي ألحقته بمناطقهم وأماكن سكناهم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم يجدوا في الشارع المنهك من الإهمال والغارق في نفاياته وفوضاه، ما يطابق تصوراتهم عنه، بل وجدوا فيه نسخة معدلة قليلاً عن الشوارع البائسة التي غادروها مكرهين.

ولعل أكثر ما يستوقف الوافدين إلى الشارع في الآونة الأخيرة، هو عدم قدرتهم وسط زحام البشر والسيارات والدراجات النارية على التحرك من أماكنهم بوصة واحدة، إلا ببذل الكثير من العناء. أما اللون الأحمر الذي انتزع الشارع منه اسمه وبريقه الشهواني، فقد تراجع منسوبه إلى حد بعيد، لتحل محله الألوان الداكنة والسوداء لسكان الشارع الجدد، ولضيوفه الهائمين على وجوههم، بحثاً عن أمان مفقود ووطن متعذر التحقق.

اللون الأسود الذي رفعت منسوبه بشكل ملحوظ ثياب النازحين.