أغانٍ عراقية من فضة عصية على الصدأ

كرم نعمة يكتب عن ألحان عبرت عن العراق الحقيقي

أغانٍ عراقية من فضة عصية على الصدأ
TT

أغانٍ عراقية من فضة عصية على الصدأ

أغانٍ عراقية من فضة عصية على الصدأ

«أغانٍ من فضة: الغناء العراقي بوصفه مؤرخاً» للكاتب كرم نعمة، الصادر أخيراً عن «دار لندن للطباعة والنشر» في 206 صفحات، هو بمثابة وثيقة تاريخية عن ألحان عبّرت عن العراق الحقيقي في مواجهة العراق المزيف.

لذلك يستعين بشهادة الموسيقار ميشائيل بارتوش، قائد الأوركسترا السيمفونية السويدية، عندما وقف مبهوراً وهو يشارك المايسترو علاء مجيد البروفات على لحن رائعة الفنان العراقي أحمد الخليل «بين دمعة وابتسامة» التي قدمتها فرقة «طيور دجلة»، ثم تساءل بشيء من الحيرة والذهول: «هل حقاً أنت متأكد أن هذه الموسيقى عراقية صرفة؟»، أجاب علاء: «بالتأكيد، وتعود إلى خمسينات القرن الماضي».

لم يجد لحظتها الموسيقار السويدي بارتوش، غير طرح تساؤل عصي على الإجابة عن شعب ينتج هذه التعبيرية العميقة في الموسيقى، لكنه في الوقت نفسه يتقاتل!

ذلك يفسر لنا، وفق مؤلف «أغان من فضة»، الحرية الكامنة في الموسيقى، التي لا يمكن أن نجدها بأي إبداع آخر موحد لكل شعوب العالم. فالفرقة السيمفونية السويدية شاركت في العزف مع أغنية عراقية بولع قل نظيره، من دون أن يفهم الموسيقيون معنى كلمات الأغنية. وذلك سبب يجعلنا نقدر قيمة الغناء بوصفه الأداة الموحدة بين شعوب الأرض على مر التاريخ، من دون أن تكسر أشد الحروب ضراوة تأثير الموسيقى والغناء على الروح البشرية.

يمكن أن نقول عبر هذا الكتاب إن الغناء أشد المؤرخين إخلاصاً على مر التاريخ، لأنه يعبر عن الأرواح الساكنة والهائمة في المجتمعات. وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ العراقي، فإن العراقيين يختلفون على كل سردياته، لكن أغنية لناظم الغزالي تجمعهم معاً، وذلك يفسر لنا أيضاً لماذا تحول كاظم الساهر بمثابة جائزة ترضية للعراقيين حيال الخسائر السياسية والاجتماعية التي توالت عليهم.

ذلك ما دفع كرم نعمة لأن يجد في الغناء هذا المؤرخ الروحي، عبر دراسة متفرقة لأجياله الموسيقية، بدأ بجيل الوصول الصعب الذي شكله الموسيقار العراقي الراحل صالح الكويتي ومروراً بجيل الخمسينات في اللحن العراقي، الذي كان بمثابة التعبير الأمثل عن حضارة موسيقية صافية من أي شوائب، ثم جيل السبعينات وهو يقود ثورة غنائية ولحنية صنعت ما يمكن تسميته بـ«أغنية البيئات» التي مزجت بين الغناء الريفي وإرث الأغنية البغدادية والمقام العراقي. ثم الجيل اللاحق، حيث شكل الفنان كاظم الساهر جيلاً منفصلاً بألحانه، جعل المستمع العربي يلتفت، ولو بشكل متأخر للغناء العراقي، ويبحث عن الأغنية العراقية التي لم تصله على مدار عقود.

يضع كتاب «أغانٍ من فضة» الموسيقار العراقي صالح الكويتي كأثمن جوهرة في قلادة الأغنية العراقية، ويستهل به الفصل الأول «جيل البناء الصعب»، ويرى أن الأغنية مدينة إلى اليوم بما أسسه صالح قبل هجرته القسرية إلى إسرائيل في بداية خمسينات القرن الماضي، لكن ألحانه بأصوات صديقة الملاية ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وسليمة مراد ونرجس شوقي وعفيفة إسكندر... بقيت حية ترفض أن تصدأ أو تغادر قيمتها اللحنية الخالدة، فرددتها الأصوات وما زالت إلى اليوم.

وكان المؤلف قد حصل على عشر ساعات صوتية من شلومو ابن صالح الكويتي سجلها بصوته قبل رحيله عام 1987 في إسرائيل، يكشف فيها تاريخ تأسيس الأغنية العراقية، وهي بمثابة وثيقة تاريخية وفنية عن مرحلة التأسيس في الأغنية العراقية.

يستمر المؤلف في عرض ذاكرة «جيل البناء الصعب» في الأغنية العراقية فيمر على أوجاع سليمة مراد وزكية جورج بعد هجرة ملحنهما صالح الكويتي ويدرس إرث الموسيقار محمد القبانجي، فيما يعيد الأسئلة الأهم عن تجربة الفنان ناظم الغزالي.

ويرى كرم نعمة أن قيمة الغزالي الغنائية مرتبطة بألحان ناظم نعيم الذي لحن غالبية ما غناه الغزالي ورافقه في أسفاره، وكان شاهداً بامتياز على تجربة هذا الفنان الذي يرتبط اسمه عند المستمعين العرب بالعراق، وعند العراقيين بزوجته الفنانة سليمة مراد. وعدَّ ناظم نعيم وفاة ناظم الغزالي أصابته في الصميم وشعر أن الحياة برمتها تخلت عنه. فهاجر بعدها بسنوات إلى الولايات المتحدة حتى رحل في مغتربه.

يتساءل كرم نعمة: «ثمة سؤال ينطلق اليوم بعد كل تلك العقود على رحيل الغزالي، عما إذا درس صوت ناظم الغزالي نقدياً من دون أن يسقط دارسوه تحت هالة الإعجاب الشعبي به، وتفرده آنذاك في نشر الغناء العراقي في الأرجاء العربية؟».

ويجيب: «باستثناء ما كتبه الناقدان الراحلان سعاد الهرمزي وعادل الهاشمي من دراسات نقدية، تبقى الغالبية العظمى عنه مجرد استذكارات تاريخية وسرد لحكايات عنه وعن زواجه من الفنانة العراقية اليهودية سليمة مراد، فسعاد الهرمزي يرى أن نجاح ناظم الغزالي لم يكن من صنع يديه، بل إن جهد ونصائح الملحن ناظم نعيم دفعاه للنجاح. بعد أن انعدمت بينها عوامل الخلاف والفرقة»، فيما يرجع الناقد الراحل عادل الهاشمي صعود نجم الغزالي إلى زوجته المطربة سليمة مراد باشا وكان زواجه منها من الزيجات المثيرة للجدل، وأن الغزالي كان به حاجة إلى دفعة معنوية في بداية طريق الشهرة. وكانت أستاذة في فن الغناء، باعتراف النقاد والفنانين جميعاً في الوقت ذلك.

في فصل «أغنية البيئات»، ينشر المؤلف حوارات أجراها المؤلف مع معظم أبناء جيل السبعينات، فيصف ياس خضر بـ«الصوت الذي لا يعبأ بوهن السنين»، وفؤاد سالم «الذي أسرف حزناً وعاش الخيبة في أوجها!»، وفاضل عواد «الصوفي الذي يُزار ولا يزور»، وحسين نعمة «الصوت الذي أرخ لعذابات الناس» و«صدق سعدون جابر كان أثمن من صوته عندما دخل رهان المقامات الصعبة».

من دون أن يغفل في ذلك ملحني هذا الجيل، فيكتب بوجع شعري عن ذاكرة الأغاني في موسيقى محمد جواد أموري وطالب القره غولي وفاروق هلال ومحسن فرحان وكوكب حمزة وعبد الحسين السماوي وجعفر الخفاف وكمال السيد.

وفي هذا الفصل، الأطول والأمتع في الكتاب، يطالب المؤلف بـ«استعادة الأغنية العراقية المخطوفة اليوم بعد أن استولى الجهلة في علوم الغناء على ألحان أبناء هذا الجيل، وركبوا عليها نصوصاً هزيلة لتدمير الذاكرة العراقية بفعل بغيض ومتعمد».

في فصل «كاظم الساهر جائزة ترضية للعراقيين» يقدم المؤلف دراسات نقدية جادة وقاسية لألحان وأداء كاظم الساهر، مع أنه يطالب بالمحافظة عليه بوصفه المثال الفني والثقافي الجامع، بل أكثر من ذلك عندما يعده نجمة رابعة في علم العراق الوطني.

وينشر كرم نعمة حواراً مطولاً مع كاظم الساهر عن الإصرار الكامن في تجربته الفنية للوصول إلى ما وصل إليه، ويدفع بأكثر من ذلك في التشكيك بقيمة ألحانه، كما يسأله في واحد من المرات النادرة، عما إذا كان صوته يصل إلى مدى ديوانيين بروح طبيعية أم بالاستعارة؟

لا يغفل الكتاب علاقة الغناء العراقي بالعربي في فصله الأخير «كسر معادلة المركز والأطراف في الغناء العربي»، ويرى أنه لو تسنى منذ البداية، كما يحصل اليوم، أن تم تبادل غناء المشرق والمغرب العربي، لما احتاج المطرب العربي أن يمر بالقاهرة التي استولت على السردية الموسيقية العربية على مدار عقود حتى انكسرت معادلة «المركز والأطراف»، وصار غناء تونس والمغرب وليبيا شائعاً في المشرق العربي مثلما غناء العراق والخليج العربي شائعاً في المغرب العربي.



«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
TT

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام. صارا صديقين، لا بل رفيقين، جمعتهما المقاهي والجلسات الشعرية والعائلية. وفي منزل سعادة، في بلدة شبطين اللبنانية، كتب بولص واحدة من أجمل قصائده «آلام بودلير وصلتْ». لكن بولص سيغادر إلى الولايات المتحدة عام 1971، وتصبح الرسائل هي صلة الوصل الوحيدة بين الصديقين، إضافة إلى تلك اللقاءات العابرة، التي سيكون آخرها في «مهرجان لوديف» في فرنسا عام 2007؛ أي قبل أن يرحل بولص عن عالمنا بنحو شهر واحد.

الرسائل التي تبادلها الشاعران، بقيت طي الأدراج إلى أن أفرج وديع سعادة عما في حوزته منها، إضافة إلى بعض ما كتب إلى بولص وعنه، وصدرت مؤخراً عن «دار نلسن» في بيروت، في كتاب يحمل عنوان «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة». هي في أغلبها تلك الرسائل التي كتبها بولص بعد وصوله إلى الولايات المتحدة، مباشرة، ولا يزال قلبه معلقاً بأصدقائه الذين تركهم خلفه. في هذه الرسائل يسأل بولص عن الأصدقاء، يذكرهم واحداً واحداً، ويطلب من سعادة أن ينقل إليهم تحياته: «إلى أدونيس وجاد الحاج ورياض فاخوري وجان دمو والأب يوسف وخليل الخوري ودلال ونهى»؛ ذلك أنه «كلُّ تذكُّرٍ، مطهّر. الأصدقاء البعيدون ليسوا أشباحاً أبداً. بعض القريبين هنا، أشباح».

إنها الغربة التي تتأكّل الشاعر وتشعره بالألم. يتمسك بالشعر لعل به يكون الخلاص، وهو بالفعل كذلك؛ لقد «ساعد الشعر على إنقاذي كثيراً. منذ أن وطئت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل». وتزيد من غربته اللغة، وصعوبة العثور على كتب ليصبح مستعداً «أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر، فأنا أقرأ ليل نهار هذه اللغة اللاشعرية، بفضائلها التي لا تمسّني إطلاقاً: لغة البرد والأعصاب».

الكتاب يضم في أغلبه رسائل بولص، في حين أن رسائل سعادة بقيت في يد من يمتلكون أرشيف الشاعر العراقي، ولا ندري إن كنا سنصل إليها، وعوضاً عنها نجد في المؤلّف تلك القصائد التي كتبها سعادة لصديقه، إضافة إلى مرثيتين كتبهما فيه بعد وفاته، ونبذة عن حياة الشاعرين، وصوراً تجمعهما.

يكتب وديع سعادة أن «العلاقة المتينة بيني وبين سركون بولص لم تكن علاقة صداقة، بل علاقة شعرية عميقة في فهمنا المشترك للشعر، بما هو ليس عملية كتابية فحسب، بل أسلوب حياة أيضاً. لم يكن سركون شاعراً فقط في الكتابة، بل كذلك في أسلوب حياته. لم يكتب الشعر فحسب، بل عاشه أيضاً».

ويصف الناشر سليمان بختي الكتاب بأنه «قطعة من حياة ربطت شاعرين... ولربما آخر ما تصفّى من أدب التراسل على الورق بين الشعراء والأدباء».

ويعتبر بختي في مقدمته أن الشاعرين من أركان جيل ما بعد مجلة «شعر» وروادها الذين غيّروا وجه الشعر العربي الحديث وأسّسوا قصيدة النثر. وهما من الجيل الذي رسّخ قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث. و«من خلال رسائل سركون بولص (1944-2007) إلى وديع، أو من خلال الكلمات والقصائد التي كتبها وديع سعادة مهداة إليه، أو في وداعه ورثائه، نلمس مبلغ عمق الصداقة والهم الواحد والنظرة المشتركة إلى الوجود والحياة والشعر». ويشيد بختي بتلك الشفافية الجارحة والنبرة العالية، فيما يخطه بولص لصديقه.

واحدة من المسائل اللافتة التي عادة ما يعود إليها بولص في رسائله هي دور المثقف، واستقلاليته، وصدقه. يكتب لصديقه غاضباً، بعبارات متمردة: «لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج، أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو بوذا أو الشيطان... ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن (معرفة النفس) وباقي الخرق الثقافية الأخرى».

تدهشك هذه النزعة الطوباوية الأخاذة، وهو يريد للمثقف ألا يكون شيئاً آخر غير «أناه» المطهّرة من كل ما حولها، راغباً في التخفف من الأحمال. يكتب في إحدى رسائله عن غضب لا يستطيع أن يقاومه، حين تخطر له «جميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك». ويعتبر أن «الثقافة» هي «حلم يتغذّى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون (مسائل العصر) بجبين مقطب». أما الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة في رأيه فهو «أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الإنسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة (أناك) المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة».

أي سخط حمله هذا الشاعر؟ وأي عبثية؟ وأي شعور عميق بالمسؤولية؟ يذكرنا ما كتبه بولص حول دور المثقف، بتلك المُثل ونبل المبادئ التي سادت في سبعينات القرن الماضي؛ إذ يقول عن واجب الكاتب تجاه نفسه أولاً، بحثاً عن النور: «علينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع، وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن». شيء من الصوفية، وكثير من الغضب، والرغبة في التغيير، والانقلاب على الذات.

ومن جميل ما نقرأه في الرسائل هو حديثه عن مشاريعه الأدبية، وكثير منها لا أثر لها؛ رواية يكتبها بعنوان «صحراء العالم»، وتحضيره لدراسة عن الرواية الحديثة، ومجموعة من القصص، ورسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر في مجلة «مواقف»، ومجموعة شعرية بالإنجليزية.

في الجزء الثاني من الكتاب، عوضاً عن رسائل وديع الضائعة، نقرأ قصائده في صديقه سركون، يقول في إحداها:

أعطني رداءك يا سركون

بردتُ

أَدفئني قليلاً بترابك

ويعتبر أن بولص «هو شاعر اللامكان، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، ولبنان، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا...)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع».

ولأن اللغة أصبحت وطنه الافتراضي الوحيد المتبقي؛ فقد «حفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه». ويتحدث سعادة عن العلاقة الحميمة بين سركون بولص وآلام شارل بودلير.

«بودلير الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه، وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً. فمن أوائل قصائده (آلام بودلير وصلتْ). إلا أن باخرة سركون لم تكن في البحر، بل في أحشائه: (هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي)».

إنني مستعد أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر!

سركون

واختار وديع سعادة قصائد مختارة اعتبر أنها تحمل في كلماتها أصداء من حكاية الصداقة التي جمعته ببولص، من بينها قصيدة «رفاق» التي يقول فيها:

لديك ما يكفي من ذكريات

كي يكون معك رفاق على هذا الحجر

اقعدْ

وسَلِّهمْ بالقصص

فهم مثلك شاخوا

وضجرون

قُصَّ عليهم حكاية المسافات

التي مهما مشت

تبقى في مكانها

أخبرْهم عن الجنّ الذي يلتهم أطفال القلب

عن القلب الذي مهما حَبِلَ

يبقى عاقراً

حدِّثْهم عن العشب الذي له عيون

وعن التراب الأعمى

عن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئاً

ولم تقلْ

وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشتاء

كي تدخل وتتدفأ...

وفي قصيدة «غيوم» يكتب وديع سعادة:

في عيونه غيوم

ويحدِّق في الأرض

علَّها تمطر

الكتاب لطيف؛ لأنه يجمع بين شاعرين، لكل منهما فرادته ومزاجه وشطحاته وسورياليته، لكنهما يلتقيان في اعتناقهما الشعر كأسلوب حياة، وليس كرديف أو موازٍ لها. ومع أن الكتاب يبقى ناقصاً تلك الرسائل التي سطّرها وديع في ردّه على سركون، فإن الوقت قد يكون كفيلاً بإظهار الضائع، وإعادة المفقود.