البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

الغزاة والمحتلون اعتبروها جزءاً لا يتجزأ من الغنائم

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟
TT

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

لطالما كانت البيوت، بأشكالها وأنماطها كافة، ظهير حيواتنا الأوفى، والسجل الرمزي الذي يؤرّخ لحظة بلحظة، لتحولات أعمارنا منذ صرخة الولادة وحتى ذبول الأنفاس. وسواء اتخذت البيوت شكل الكهوف والمغاور زمن الأسلاف البدائيين، أو شكل المنازل المتواضعة والبيوت الطينية البسيطة في الريف الوادع، أو ارتفعت قصوراً باذخة وأبنية شاهقة في المدن المعولمة، فهي تظل بالنسبة لقاطنيها، الحاضنة والكنف وفسحة الطمأنينة والملاذ الآمن.

وقد يكون الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أحد أكثر الفلاسفة المعاصرين احتفاءً بالبيوت، وتغنياً بما تمثله من وداعة العيش ودفء الوجود الأصلي. وهو ما يبدو على نحو جلي، في كتابه الفريد «جماليات المكان»، حيث يؤالف على طريقته بين الفلسفة والشعر، وبين الحواس والحدوس، راسماً للبيوت صورتها المحمولة على أجنحة التأويل، ومتحدثاً عن دلالات المداخل وغرف الاستقبال والطعام والنوم، ومتنقلاً بين أحشاء الأقبية وفضاء الشرفات. والبيوت عند باشلار ليست الأماكن التي تحتوي على الزمن مكثفاً فحسب، بل هي الدروع الصلبة التي تعصم الإنسان من التفتت، و«تحميه من أهوال الأرض وعواصف السماء». والبشر الأوائل الذين كانوا يكبرون في أماكن مبهمة ومجهولة الأسماء، بدأوا بعد مكابدات طويلة وشاقة «يتعرفون إلى المكان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً. كما أخذوا يلقون فيه جذورهم ويتوجهون نحوه بالحب، وحين يبتعدون عنه يُفضون بحنينهم إليه، ويكتبون عنه أشعار الشوق وكأنهم عشاق».

وإذا كان الشعراء والكتاب والفنانون قد أولوا البيوت الكثير من الاهتمام، وأفردوا لها عبر العصور الكثير من القصائد واللوحات والأغاني، فليس غريباً أن يتوقف الشعراء العرب ملياً عند ما وفَّرته البيوت لهم من مشاعر السكينة والأمان، وسط الخلاء الصحراوي المفتوح على المجهول، والمثخن بالوحشة والخوف والاقتتال الدائم. وسواء كانت طينية أم حجرية، خياماً أم مضارب، فقد سمى العرب البيوت منازل؛ لأنهم يدركون في قرارتهم أنهم سكانها المؤقتون الذين ينزلون في ضيافتها، ويحطون بين ظهرانيها رحالهم، ويودعونها أجسادهم الآيلة إلى موت محقق. والأرجح أن اتسام تلك الأماكن بالهشاشة، وافتقارها إلى الصلابة والثبات، هو الذي دفع العرب الأقدمين إلى أن يطلقوا اسم البيت، على السطر الشعري المؤلف من شطرين متناظرين، والذي يتكرر بالطريقة نفسها على امتداد القصيدة، كما لو أنهم رأوا في الشعر، الظهير الرمزي الذي يعصمهم من الزوال، ويوفر لهم سبل الالتئام وأسباب الخلود.

ومع أن امرأ القيس قد أعطى الأولوية للحبيب على المنزل، وهو يصعد سلم البكاء الطللي، فإن ذلك لا يقلل أبداً من قيمة المنازل، بقدر ما يؤكد على اعتبارها امتداداً لأجساد ساكنيها ووعاءً لأرواحهم، وخزاناً لذكرياتهم وحنينهم العصي على النفاد. ولهذا السبب حذا الشعراء اللاحقون حذو سابقيهم، فاحتفى أبو تمام بالبيوت التي سكنها بصورة متتابعة، جاعلاً الحنين إلى المنزل الأول، صورة من صور الحنين إلى الحبيب الأول الأول. وهو ما عبر عنه في بيتيه الشهيرين:

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزلِ

ومثلما فعل أبو تمام، هتف المتنبي بحرقة مماثلة:

لك يا منازل في القلوب منازلُ

أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ

ولعلنا في ضوء هذه التوطئة نستطيع أن ندرك السبب الذي يدفع الغزاة والمحتلين، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، إلى جعل البيوت جزءاً لا يتجزأ من غنائم الحرب، حتى إذا تعذر القبض عليها بصورتها السليمة، تم إحراقها وتحويلها رماداً، أو تدميرها وتسويتها بالأرض. ولعل ما فعلته قوى الاحتلال الإسرائيلي ببيوت غزة والضفة ولبنان، هو الشاهد الأبلغ على ما تقَدم. فما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها، بلا إنذار مسبق، أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟ وما الذي يعنيه انقضاض الطائرات المحملة بالقذائف الفتاكة على البشر الآمنين لتسوية أحياء كاملة بالأرض، ودون تمييز بين المقاتلين والبشر العزّل؟ ألا تعبّر النشوة الغامرة التي يعيشها الطيارون المطلون من شاهق على المدن والقرى المكلفين تدميرها، عن نزوع سادي، مماثل تماماً لذلك الذي انتاب نيرون، وهو يحوّل روما التي أحرقها لوحة بصرية ممتعة، أو لذلك الذي حمل في أحشاء طائرته قنبلة هيروشيما، منتشياً بمشهد المدينة التي تحولت خلال لحظات قليلة ركاماً؟ والمؤلم ألا يكون هذا النزوع مقتصراً على أفراد بعينهم، بل تتسع دائرته لتشمل الجماعة الإثنية أو السياسية التي يمثلونها، والتي لا ترضى بأقل من إبادة الآخر ومحوه من الوجود، بذرائع أسطورية ولاهوتية تم اختلاقها لمثل هذه الأهداف؟

إن أكثر ما يُشعر المرء بالصدمة في هذه المحرقة التي تسمى حرباً، أن ذلك الذي أطلق بالأطنان صواريخه وقنابله المتفجرة فوق غزة أو بيروت، متسبباً بانكماش المباني على نفسها كالصفيح، لم يقْدم على ذلك بتأثير نوبة غضب أو خروج عصبي عن السيطرة، بل فعل ذلك عامداً ومدفوعاً بدم الآيديولوجيا البارد، وبحقه المزعوم في إبادة المئات من «الأغيار» حتى لو كان الهدف متعلقاً بواحد أو أكثر من أعدائه المقاتلين، أو مقتصراً في أغلب الحالات على الشبهة المجردة. وللمرء أن يتساءل كيف لذلك الشخص الذي ينتمي إلى أسرة يعيش في كنفها، أو بيت يأنس إلى هدوئه الوادع، أن يعود إلى بيته، أو يعانق بعد ارتكاب مجزرته الدامية، زوجته وأطفاله المتلهفين إلى عودته، دون أن تخزه لسعة الندم، أو يفكر قليلاً بزوجات مماثلات وأطفال مماثلين، كانت لهم هناءات عيش مماثلة، قبل أن ينقلهم بلحظة واحدة إلى خانة العدم.

ولو كان البيت الذي يتهدم، مؤلفاً من حجارته وإسمنته وسقوفه وأراضينه الصغيرة لهان الأمر. لكنه يضم بين جنباته، الحيوات التي كانت تضرب مع المستقبل مواعيد من أحلام خالصة ورجاء متجدد. وهذه البيوت التي لم يعد لها أثر، هي سجل سكانها الحافل بالمشقات والمسرات والأنفاس والدموع ورعشات اللذة أو الخوف، وغيرها من التفاصيل والذكريات التي لا تنضب.

ولعلني لا أجد ما أختتم هذه المقالة أفضل من استعادة قصيدة «البيوت»، التي كنت قد كتبتها في حرب مشابهة.

ما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها بلا إنذار مسبق أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟

البيوت طيورٌ تزقِّمُ أفراخها لوعةً

كلما ابتعدوا عن حديد شبابيكها المائله

والبيوت جسور الحنين التي تصل المهدَ باللحد،

ريشُ المغامرة الأمّ،

طين التكاثرِ،

سرُّ التماثل بين الطبيعة والطبع،

بين الجنازة والقابله

والبيوت سطورٌ

يؤلّفنا بحرها كالقصيدة بيتاً بيتا

لكي نزِن الذكريات بميزانها

كلما انكسر اللحنُ أو تاهت البوصله

والبيوت جذورٌ تعود بسكانها دائماً

نحو نفس المكان الذي فارقوهُ

لتعصمهم شمسها من دوار الأعالي

ومن طرقاتٍ تشرّدهم في كسور المكانْ

والبيوتُ زمانْ

يقسّم دقاتهِ بالتساوي على ساكنيهِ

لكي يسبحوا بين بيتين:

بيت الوجود وبيت العدمْ

وكي يعبروا خلسة بين ما يتداعى وما يلتئمْ

والبيوت رحِمْ

توقنا للإقامة في أرخبيل النعاس،

للتماس مع البحر من دون ماءٍ

لكي نتشاكى حرائقنا الأوليةَ،

أو نتباكى على زمنٍ

لن يعود إلى الأرض ثانيةً

والبيوت فراديسنا الضائعه

تواصَوا إذن بالبيوت،

احملوها كما السلحفاةُ على ظهركمْ

أين كنتمْ، وأنّى حللتمْ

ففي ظلها لن تضلّوا الطريقَ إلى بَرّ أنفسكمْ

لن تملُّوا حجارتها السودَ

مهما نأتْ عن خطاكمْ مسالكها اللولبيةُ،

لن تنحنوا فوق مهدٍ أقلّ أذىً

من قناطرها المهمله

ولن تجدوا في صقيع شتاءاتكمْ

ما يوازي الركون إلى صخرة العائله

وحرير السكوتْ

تواصوا إذن بالبيوت

استديروا ولو مرةً نحوها

ثم حثُّوا الخطى

نحو بيت الحياةِ الذي لا يموتْ


مقالات ذات صلة

ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟

ثقافة وفنون قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة

ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟

شهدت المواقع الأثرية الواقعة في الإمارات العربية خلال العقود الأخيرة سلسلة متواصلة من حملات التنقيب كشفت عن مجموعات متعددة من اللقى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون أفلاطون

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية.

لطفية الدليمي
يوميات الشرق اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا يكرّم ورثة المبدعين (إدارة الاتحاد)

اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا يكرّم ورثة مبدعين ومفكرين

تحت عنوان «أبناء وأحفاد»، أطلق اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية مبادرة تهدف إلى تكريم نماذج مختارة من أبناء وأحفاد كبار الأدباء والعلماء والمفكرين.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
ثقافة وفنون أرنست رينان

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق.

د. محسن جاسم الموسوي
ثقافة وفنون جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

منذ رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وحتى أعمال إلياس خوري، وقبلهما التوحيدي والجاحظ، هناك أنواع متعدّدة من السرد.

قاسم حداد

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية
TT

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية

وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» رواية «أوهام العقل» للكاتب الهولندي جي برنلف بأنها «حكاية رائعة ومروعة إلى درجة أننا نشعر بمرافقة بطلها مارتن في تدهوره ليس كمراقبين، ولكن كمشاركين في مأساته». وصدرت مؤخراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة ترجمة هذا العمل على يد أمينة عابد، كنص حميم ومؤثر عن التدهور الدراماتيكي الذي يعانيه رجل مسن يصاب بمرض ألزهايمر في سردية تستمد قوتها من الصوت الفريد والرائع للرجل نفسه، ولهذا السبب ما زالت من أكثر الروايات قراءة في الأدب الهولندي وبيع منها أكثر من 750 ألف نسخة، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي.

يعيش السبعيني مارتن كلاين في البداية بذهن حاضر وإن كان مرهقاً مع زوجته في ولاية ماساتشوستس الأميركية، وُلدا في هولندا وتحملا بصعوبة الاحتلال النازي لها قبل أن يهاجرا إلى الولايات المتحدة. وفي حين أن مارتن اعتبر نفسه لفترة طويلة شخصية «هامشية» اجتماعياً وحياته العائلية «غير مبهرة»، فإن له قدرة متميزة على الملاحظة والإدراك حتى مع تدهور حالته الصحية: «يبدو أنني أفقد كلماتي مثلما يفقد شخص دمه». ويقرر: «سأختلق حياة لنفسي من دقيقة إلى دقيقة وأصدقها»، لكنه في النهاية يصل إلى قناعة أنه «الوحيد الباقي على قيد الحياة من أبناء لغتي». كتب برنلف رواية قاتمة وعميقة عن الخسارة التي لا رجعة فيها، فقدان الذات وفقدان اللغة والعلاقات والذكريات. ولكن رغم ذلك، فإن صوت مارتن في نهاية الرواية يوحي بالأمل.

أنتج برنلف «1937 - 2012» مجموعة كبيرة من الأعمال بما في ذلك القصائد والقصص والروايات والمقالات وترجمة الشعر وكان محرراً لدوريات أدبية وحصل على العديد من الجوائز. ومن أشهر رواياته «أوهام العقل»، التي صدرت عام 1984.

ومن أجواء الرواية نقرأّ:

«لعل الثلج هو الذي يجعلني أشعر بهذا التعب الشديد حتى في الصباح. لا تشعر فيرا بالتعب، إنها تحب الثلج وفي رأيها ليس ثمة ما يعلو على منظره عندما تختفي آثار الإنسان من الطبيعة وعندما يصبح كل شيء مساحة واحدة بيضاء لا تشوبها شائبة. تقول إنه منظر في غاية الجمال، يكاد يكون ساحراً لكن هذا المنظر لا يدوم هنا وقتاً طويلاً، ما إن تمضي بضع ساعات حتى ترى آثار الأقدام وآثار العجلات في كل مكان وتنهمك جرافات الثلج في تنظيف الطرقات الرئيسية. أسمعها وهي تعد القهوة في المطبخ، لا شيء يدل على المكان الذي يمتد فيه شارع فيلد أمام منزلنا سوى العمود الأصفر الترابي القائم في موقف باص المدرسة. بخصوص هذا الأمر، لا أفهم أين بقي الأولاد اليوم، أقف هنا خلف النافذة كل صباح أتحقق من درجة الحرارة في بادئ الأمر ثم انتظرهم إلى أن يظهروا من بين جذوع الشجر من جميع الجهات في الصباح الشتوي الباكر بحقائبهم على ظهورهم وقبعاتهم وأوشحتهم الملونة وأصواتهم الحادة الأميركية. هذه الألوان المتنوعة تبعث على السعادة في نفسي، أحمر ناري، أزرق كوبالتي، صبي يرتدي سترة صفراء صفار البيض بطاووس مطرز على الظهر، صبي يعرج على نحو خفيف ويصعد آخر الأولاد إلى باص المدرسة. إنه ريتشارد، ابن توم، حارس المنارة. يقرقع المنزل في عوارضه مثل زورق قديم في الخارج، تتدحرج الريح عبر رؤوس أشجار الصنوبر الجرداء المتمايلة. وفي لحظات ثابتة يتناهى الصفير الهادر المكتوم من صفارة الضباب، أقصد صفارة التحذير من الضباب، بجانب المنارة القائمة على الصخرة الأخيرة الناتئة من البحر».