«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية
TT

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية

«أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية

وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» رواية «أوهام العقل» للكاتب الهولندي جي برنلف بأنها «حكاية رائعة ومروعة إلى درجة أننا نشعر بمرافقة بطلها مارتن في تدهوره ليس كمراقبين، ولكن كمشاركين في مأساته». وصدرت مؤخراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة ترجمة هذا العمل على يد أمينة عابد، كنص حميم ومؤثر عن التدهور الدراماتيكي الذي يعانيه رجل مسن يصاب بمرض ألزهايمر في سردية تستمد قوتها من الصوت الفريد والرائع للرجل نفسه، ولهذا السبب ما زالت من أكثر الروايات قراءة في الأدب الهولندي وبيع منها أكثر من 750 ألف نسخة، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي.

يعيش السبعيني مارتن كلاين في البداية بذهن حاضر وإن كان مرهقاً مع زوجته في ولاية ماساتشوستس الأميركية، وُلدا في هولندا وتحملا بصعوبة الاحتلال النازي لها قبل أن يهاجرا إلى الولايات المتحدة. وفي حين أن مارتن اعتبر نفسه لفترة طويلة شخصية «هامشية» اجتماعياً وحياته العائلية «غير مبهرة»، فإن له قدرة متميزة على الملاحظة والإدراك حتى مع تدهور حالته الصحية: «يبدو أنني أفقد كلماتي مثلما يفقد شخص دمه». ويقرر: «سأختلق حياة لنفسي من دقيقة إلى دقيقة وأصدقها»، لكنه في النهاية يصل إلى قناعة أنه «الوحيد الباقي على قيد الحياة من أبناء لغتي». كتب برنلف رواية قاتمة وعميقة عن الخسارة التي لا رجعة فيها، فقدان الذات وفقدان اللغة والعلاقات والذكريات. ولكن رغم ذلك، فإن صوت مارتن في نهاية الرواية يوحي بالأمل.

أنتج برنلف «1937 - 2012» مجموعة كبيرة من الأعمال بما في ذلك القصائد والقصص والروايات والمقالات وترجمة الشعر وكان محرراً لدوريات أدبية وحصل على العديد من الجوائز. ومن أشهر رواياته «أوهام العقل»، التي صدرت عام 1984.

ومن أجواء الرواية نقرأّ:

«لعل الثلج هو الذي يجعلني أشعر بهذا التعب الشديد حتى في الصباح. لا تشعر فيرا بالتعب، إنها تحب الثلج وفي رأيها ليس ثمة ما يعلو على منظره عندما تختفي آثار الإنسان من الطبيعة وعندما يصبح كل شيء مساحة واحدة بيضاء لا تشوبها شائبة. تقول إنه منظر في غاية الجمال، يكاد يكون ساحراً لكن هذا المنظر لا يدوم هنا وقتاً طويلاً، ما إن تمضي بضع ساعات حتى ترى آثار الأقدام وآثار العجلات في كل مكان وتنهمك جرافات الثلج في تنظيف الطرقات الرئيسية. أسمعها وهي تعد القهوة في المطبخ، لا شيء يدل على المكان الذي يمتد فيه شارع فيلد أمام منزلنا سوى العمود الأصفر الترابي القائم في موقف باص المدرسة. بخصوص هذا الأمر، لا أفهم أين بقي الأولاد اليوم، أقف هنا خلف النافذة كل صباح أتحقق من درجة الحرارة في بادئ الأمر ثم انتظرهم إلى أن يظهروا من بين جذوع الشجر من جميع الجهات في الصباح الشتوي الباكر بحقائبهم على ظهورهم وقبعاتهم وأوشحتهم الملونة وأصواتهم الحادة الأميركية. هذه الألوان المتنوعة تبعث على السعادة في نفسي، أحمر ناري، أزرق كوبالتي، صبي يرتدي سترة صفراء صفار البيض بطاووس مطرز على الظهر، صبي يعرج على نحو خفيف ويصعد آخر الأولاد إلى باص المدرسة. إنه ريتشارد، ابن توم، حارس المنارة. يقرقع المنزل في عوارضه مثل زورق قديم في الخارج، تتدحرج الريح عبر رؤوس أشجار الصنوبر الجرداء المتمايلة. وفي لحظات ثابتة يتناهى الصفير الهادر المكتوم من صفارة الضباب، أقصد صفارة التحذير من الضباب، بجانب المنارة القائمة على الصخرة الأخيرة الناتئة من البحر».



«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر
TT

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع يتكون من 40 فيلماً سينمائياً وأكثر من 16 نصاً مسرحياً، علاوة على العديد من الأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزيونية. اللافت أن شهرة منجزه السينمائي، طغت على منجزه المسرحي فجاء كتاب «المسرح الألماني المضاد» الصادر عن «الهيئة المصرية لقصور الثقافة»، سلسلة «آفاق عالمية»، للباحث د. أسامة أبو طالب ليرد الاعتبار إلى تجربة الرجل مع فن المسرح.

يبرر المؤلف أهمية مسرح فاسبندر بأنه وضع فيه عصارة فنه ورحيق تمرده ومرارة إحساسه المرهف بتناقضات الأشياء والبشر ووعيه الحاد بمفارقات الوجود والكون ومعاناته من خذلان الرؤى وخسارة التوقعات وجنون الصدمة وعمى المفاجأة حتى أصبح عقله مكتظاً، وناء وجدانه بحمل المعرفة الحارقة المبكرة فاستسلم بإرادته مقرراً أنه لم تعد لديه طاقة للاحتمال، وليستسلم الجسد المرهق ويتوقف القلب الذي أنهكته شدة الخفقان حتى أنه لم يكن ينام إلا أقل القليل وسُئل ذات يوم «لماذا لا تأخذ قسطاً طبيعياً من النوم»، فأجاب: «سأنام فقط عندما أموت».

كان عام 1968 بزخمه السياسي وما أطلق عليه «ثورة الطلبة» في أوروبا هو بداية ميلاد «المسرح الألماني المضاد» على يد فاسبندر كفن مهموم بالسياسة ومقاومة مفاهيم القهر والقمع والطغيان التي تمارسها السلطة على نحو صبغ مجريات الأحداث ووقائع الحياة في القرن العشرين، مع نزعة إنسانية فياضة لا يصعب اكتشافها في أعمال هذا النوع من المسرح، رغم الكثير من الاتهامات الموجهة له بسبب المنافسة أو بسبب عدم الفهم أو كراهية التجديد المعتادة، التي وصفت فاسبندر وأصحابه ومنهجهم بالعدمية تارة وتارة أخرى بالدعوة إلى الانحراف.

استفاد «المسرح المضاد» في تحققه من السينما وحرفياتها، إضافة إلى استخدام «التمسرح» و«التغريب»، بمعنى الخروج عن المألوف، فضلاً عن تبني فكرة «اللحظة المسرحية الساخنة» ذات الطابع الاندماجي بين العرض والمشاهد تمهيداً للخروج بها إلى فعل جماعي ذي صفة تحريضية. وانفتح المسرح المضاد كذلك على تجارب المسرح السياسي دون التقيد بتقاليده الصارمة، وتجلى كل ذلك عبر العديد من المسرحيات التي ألفها فاسبندر منفرداً، أو كانت تأليفاً مشتركاً مع آخرين. ومن أشهر مسرحيات فاسبندر في هذا السياق «المدينة والقمامة والموت» و«دم على حلق القطة» و«حرية بريمر» و«لا أحد شرير ولا أحد طيب».

ويتطرق المؤلف إلى مسرحية «القمامة والمدينة والموت» باعتبارها أبرز أعمال فاسبندر، حيث وضعت المدينة في بؤرة المفارقات الغريبة والرؤية غير المسبوقة التي تجعلها مخيفة وقاتمة، وتبعث على الرعب المقترن بالكآبة. في الليل تتجلى المدينة وتبالغ في زينتها ومغرياتها وكأنها نسخة عصرية من أساطير «سادوم» أو «عامورة»، حيث المفاتن تلطخ وجهها القبيح، أما في النهار فينكشف كل شيء على حقيقته الصادمة.

وتبرز المسرحية كيف كان فاسبندر مولعاً بالدراما النفسية، وهو ما يتجلى في فيلمه «الخوف من الخوف» الذي يروي قصة ربة بيت من الطبقة المتوسطة تضطر إلى أن تسجن نفسها في بيت كئيب جداً مع زوج قلق ومرتبك نفسياً، ما يدفعها إلى إدمان الفاليوم والإفراط في تناول الكحول، إذ بدأت تعاني من الاضطراب النفسي، وتخشى أن تنحدر صوب الجنون.