«تشيللو» تلهم آل الشيخ فكرة مشروع «جائزة القلم الذهبي»

لقد مضت الأيام التي كان القص الشعبي فيها مهمشاً ومهملاً

تركي آل الشيخ
تركي آل الشيخ
TT

«تشيللو» تلهم آل الشيخ فكرة مشروع «جائزة القلم الذهبي»

تركي آل الشيخ
تركي آل الشيخ

شهد شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1994 حدثاً مهماً ذا صلة بالسيرة الإبداعية لكاتب الرعب والإثارة الأميركي الشهير ستيفن كِينغ. ففي الواحد والثلاثين من ذلك الشهر، حملت مجلة «ذا نيو يوركر»، إلى قرائها، ولأول مرة في تاريخها، قصة من قصصه القصيرة: «الرجل في البدلة السوداء». وقبل القصة سالفة الذكر، وفي الشهر نفسه، صدر آخر عدد من مجلة «أنتيياس - Antaeus»، محتوياً قصة أخرى لكينغ؛ قصة «ويلي الأعمى». «أنتيياس» مجلة أدبية فصلية، أسسها في مدينة طنجة دانيال هالبيرن وبول باولز. وتولى تحريرها هالِبيرن. صدر عددها الأول في صيف 1970. واستمرت تصدر في طنجة إلى حين انتقالها إلى مقرها الجديد في نيويورك منتصف الثمانينات من القرن الماضي، لتشهد نيويورك صدور العدد الأخير منها.

وبين العامين 1994 و1965، يمتد تسعة وعشرون عاماً، هي المدة التي تفصل بين نشر قصتي كينغ المذكورتين أعلاه، ونشر قصته «كنت لص قبور مراهقاً» في مجلة المعجبين «كوميكس ريفيو». أما أول قصة تلقى مقابلاً مالياً على نشرها، فكانت «الأرضية الزجاجية»، نُشِرَتْ في مجلة «قصص غامضة مرعبة» في 1967.

غلاف رواية «تشيللو» لتركي ال الشيخ

تغير في المناخ الثقافي

بنشرهما قصتي كينغ، أسهمت المجلتان في ردم أخدود صغير من الأخاديد الفاصلة في الثقافة السائدة بين ما هو «نخبوي» و«شعبي». ويوحي فعل المجلتين بحدوث تغير في المناخ الثقافي الأدبي والأكاديمي تجاه القص الشعبي «popular fiction»، أو الفن القصصي الشعبي، كما يسميه البعض؛ تغيرٌ ظهرت إرهاصاته في الثمانينات، وتبلور وبلغ إحدى ذرواته كما يبدو في منح جامعة كولومبيا الأميركية في نيويورك جائزة «بوليتزر» لرواية «يمامة وحيدة - 1985» لمؤلف روايات «الويسترن» والسيناريست لاري ماكميرتري. ذكرت هذا في مقالة سابقة.

وفي عام 1994 نفسه، وبدون أن يعلم كينغ أو غيره من كُتّاب القص الشعبي، ولا حتى أميركا كلها، باستثناء بعض طلاب الأكاديمي والروائي الأميركي ديفيد فوستر والاس، وربما بعض زملائه أيضاً؛ كانت رواية كينغ «كاري - 1976» ورواية ماكميرتري «يمامة وحيدة»، وكذلك «صمت الحملان - 1988» لتوماس هاريس، ضمن قائمة من ثمانية كتب من القص الشعبي اختارها والاس لتدريسها في «مقرر اللغة الإنجليزية 102 - التحليل الأدبي» في فصل الخريف.

أسامة المسلم

تحذير والاس

يوضح والاس للطلاب المحتملين ضمن وصفه للمقرر، في الخطة الدراسية التي عُثر عليها في مكتبه بعد موته في 2008، أن مقرر «اللغة الإنجليزية - 102» يهدف إلى إطلاعهم وتعريفهم على بعض الطرق لقراءة القص على نحو أكثر عمقاً، وإكسابهم رؤى للكيفية التي تشتغل بها بعض النصوص، ولأجل أن تتبلور لديهم أسباب ذكية، سواء لحب أو لعدم حب أي نص. وفي الأخير، للكتابة بوضوح وعلى نحو مقنع.

ويضيف أنهم سيقرأون مجموعة متنوعة من أجناس القص الذي يعدُّ شعبياً أو تجارياً: الغموض، الرعب، البوليسي، ويسترن، ونوار (Noir)، والفانتازي. وسيتجلى نجاح «الكورس» في اكتسابهم القدرة، في نهايته، على اكتشاف وتحديد التقنيات المتطورة والثيمات الكامنة تحت السطح في الروايات التي لا تبدو سوى للترفيه بالقراءة السريعة خلال سفر بالطائرة أو جلسة على الشاطئ.

ويحذر طلابه ألا يدعوا الصفات التي قد تبدو خفيفة الوزن، على حد قوله، تضلهم وتقودهم إلى الاعتقاد بأن هذا «الكورس» مضيعة للوقت. ويؤكد أن تفكيك وقراءة تلك النصوص نقدياً سيكونان أشد صعوبة من تفكيك وقراءة النصوص «الأدبية» من وجهة نظر تقليدية.

والاس لم يكن وحيداً

اللافت والمهم أن والاس، الروائي الذي أقحمه النقاد في قوالب تصنيفات عدة، لم يكن أستاذ الأدب الوحيد الذي درّسَ نصوصاً من القص الشعبي، خلال عقد التسعينات بالذات. وكما ذكرت في مقالتي «جدار عازل يقسم الثقافة إلى ثقافتين والقص إلى قصين» (الشرق الأوسط - 5/9/2023»، حدث تغير دراماتيكي في الموقف التقليدي المتعالي تجاه القص الشعبي أفضى إلى حدوث ما يمكن وصفه بالطفرة في نقده والتنظير عنه ودراسته.

«ميتالِيبسيس» في القص الشعبي

ذات أيام كرّسْتُها للقراءة عن «ميتاليبسيس»، المصطلح الذي نقله جيرار جينيت من البلاغة إلى علم السرد، الكلاسيكي كما يسمى الآن بعد الظهور الانفجاري لعلوم السرد ما بعد الكلاسيكية ابتداءً من التسعينات أيضاً، اكتشفت وجود كتاب بعنوان «عندما تتصادم عوالم القصة... ميتاليبسيس في القص الشعبي والفيلم والكوميكس، 2015» للدكتور جف ثوس المتخصص في نظرية السرد، وعلم السرد عبر الوسائطي.

يطرح د. ثوس في كتابه نظريته عن «ميتاليبسيس» ويطبقها على الأشكال السردية الثلاثة الواردة في العنوان الثانوي. كان رأيي فيه، بعد الانتهاء من قراءته، ولا يزال، أنه من أفضل الكتب القليلة التي قرأتها التي تتناول ظاهرة «ميتاليبسيس» تنظيراً وتطبيقاً. وأكثر ما أدهشني فيه - ربما لأنني لم أتوقعه بتلك الكثافة - تجلي «ميتاليبسيس» كمكون فني وخصصية جمالية في القص الشعبي. وكان ستيفن كينغ حاضراً، مع أسماء أخرى، في الفصل الثاني «القص - Fiction» عبر سلسلة روايته «برج الظلام» بأجزائها الثمانية، وقصته القصيرة «حالة أَمْني الأخيرة».

مضت أيام التهميش

لقد مضت الأيام التي كان القص الشعبي فيها مهمشاً ومهملاً من المُنَظِّرين والنُقّاد، وازداد عدد أبواب قاعات الدراسة في المرحلتين الثانوية والجامعية التي انفتحت، وتنفتح، أمام نصوصه في كل من الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وآيرلندا، وفي دول أخرى وفقاً لما يذكره بيرنيس ميرفي وستيفن ماتِرسَن في مقدمة الكتاب «القص الشعبي في القرن الواحد والعشرين»، الصادر عن جامعة أدنبرة في 2018. قبل ذلك في عام 2017 فازت الرواية «السكة الحديدية تحت الأرض» لكولسون وايتهيد بجائزة «بوليتزر»، وكانت قد وصلت إلى القائمة القصيرة أيضاً لجائزة «آرثر سي كلارك» البريطانية للخيال العلمي. ذكرت هذا سابقاً أيضاً. وكان من أسباب فوزها وفوز رواية ماكميرتري بجائزة «بوليتزر» تقليصهما للفجوة بينهما والرواية الأدبية، كما يقال.

استثمار وجوائز وأسئلة

هل حدثت الالتفاتة الكبيرة والمفاجئة إلى الرواية الشعبية؛ العمود الفقري لجائزة «القلم الذهبي»، استجابةً لمؤثرات من تغيرات المواقف من القص الشعبي في ثقافات الآخرين؟ هل جائزة «القلم الذهبي» و«جائزة الأدب» لهذا العام تُعبِّران عن إدراك ووعي بأن الرواية الشعبية أصحبت توازي، أو تكاد، نظيرتها الأدبية فنياً وجمالياً وشكلاً وتطوراً في التقنيات وأساليب الكتابة؟ أو هل ثمة مشروع يراد منه، وعبر الجوائز، الدفع في اتجاه تقليص الفجوة بين النخبوي والشعبي، الفجوة التي ينكر عدد من المثقفين والأدباء وجودها إيماناً بأن الثقافة كل لا يتجزأ، وغير تراتبية، في حين أنه بانت علامات التفاجؤ عليهم لمَّا بُوغتوا بظاهرة شعبية الروائي المسلم، التي باغتت أيضاً العديد من المشتغلين في الإعلام بقنواته وأوعيته ووسائطه المختلفة؟

النفي، هو الجواب عن تلك الأسئلة؛ فالاستثمار هو ما أعتقد أنه الجواب المقنع والصحيح. وللتوضيح، يبدو أن الهيئة العامة للترفيه رأت فرصة «ذهبية» سانحة في رواج الرواية الشعبية وكثافة مقروئيتها على امتداد العالم العربي لإقامة مشروع ترفيهي جديد يضاهي في ضخامته مشاريعها القائمة التي طبّقَتْ شهرتُها الآفاق وأصبحت مغناطيساً جاذباً للأضواء الإعلامية، «جوي أوورد» على سبيل المثال.

هل حدثت الالتفاتة الكبيرة والمفاجئة إلى الرواية الشعبية؛ العمود الفقري لـ«جائزة القلم الذهبي»، استجابةً لمؤثرات من تغيرات المواقف من القص الشعبي في ثقافات الآخرين؟

الرواية في البداية والفيلم في النهاية

الرواية مادة مشروع «جائزة القلم الذهبي»؛ الصورةُ المكبرّةُ (الجائزة) لِما كان مشروعاً صغيراً وفردياً، وتكرارٌ له محلياً وعربياً. ربما يتذكر البعض رواية «تشيللو» للمستشار تركي آل الشيخ وقصة تحويلها إلى فيلم بالعنوان نفسه. هذه هي نواة مشروع «جائزة القلم الذهبي»، ومنبع الفكرة في اعتقادي.

وبوصف كابسولي، فإن الجائزة مشروع تحويل «جَنْرَ فيكشن - genre fiction» إلى «جَنْرَ موفيز - genre movies». هذا ما ينبغي التنبه له لأن المئات من هذه الأنواع «genre movies» من الأفلام الأجنبية تصب في البيوت وفي صالات السينما على مدار العام، ولا أعتقد أن الفيلم المحلي - العربي قادر على منافستها في جذب ساكني البيوت إليه، ما لم يكن في مستواها.

جائزة «هيئة الأدب»

بادرت هيئة الأدب والنشر والترجمة، بدورها، إلى استثمار شعبية أسامة المسلم بمنحه «جائزة الأدب» لهذا العام لتسبق - ولو بمنح جائزة أدبية واحدة - هيئة الترفيه التي سبقتها إلى إعلان جائزة أضخم ومتعددة المسارات. ولكن من يجاري هيئة الترفيه المتحررة من تعقيدات البيروقراطية، كما يبدو، في إقرار وسرعة تنفيذ مشاريعها، والمتمتعة بصلاحيات لا تتردد في دفعها إلى حدودها القصوى. ولكن ثمة «لكن أخرى»: إن نجاح لجنة تحكيم «جائزة القلم» في اختيار روايات، حتى وإن تكن كتلك التي يتحدث عنها والاس، لا يضمن نجاح ترجماتها السينمائية عند شبابيك التذاكر. وينطبق هذا على السيناريوهات الفائزة. فما بين السيناريوهات والشاشات الكبيرة معامل صنع الأفلام التي يتوقف نجاح منتوجاتها على مدى كفاءة وخبرة ومهارة العاملين فيها. وهذا هو بيت القصيد والجزء الصعب من مشروع الجائزة.

* ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)
كتب الحياة على هامش الوحدة

الحياة على هامش الوحدة

ينقسم أبطال المجموعة بين أبطال يتخبطون بحثاً عما يريدونه من الحياة، وآخرين يؤرقهم وعيهم التام بما يريدون، في واقع ضاغط يجعل الأحلام كابوسية لا مسافة بينها وبين الواقع

منى أبو النصر (القاهرة)

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار
TT

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

دورة ناجحة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء من شتى الأقاليم المصرية، كما احتفت بتجربة شاعرين من الرموز المؤثرة والمؤسسة لهذه الكتابة الشعرية الجديدة.

على مدار ثلاثة أيام استضافت مؤسسة «الدستور» الصحافية وقائع الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية»، التي شهدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد يوم، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

ألقى الناقد والأكاديمي د. محمود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جديدة تتخذ تجليات عدة، مما يجعل الأدب عموماً، والشعر في القلب منه، منوطاً به معرفة دوره الخطير إزاءها باعتباره الوعاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغماً أو جمالاً معزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلاً تحريضياً وأداة حماسية.

وتحت عنوان «قليل من المحبة»، خصص المؤتمر جلستين للاحتفاء باثنين من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبو سعدة، رفيق الدرب، متمنياً له الشفاء، مؤكداً أن أبو سعدة ينظر إلى الشعر في كليته، وبراءته الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة للروح، تسبق الصورة والفكرة، والنغمة والموسيقى والإيقاع، وأن هزة السطر والحرف والكلمة ليست شرخاً ناتئاً في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة وملامح، وحدس إنساني هارب في ظلالها وبياض عتمتها ونصوعها الشائك المراوغ.

ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بشص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معاً، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقاً مغايرةً في داخلنا، فعلى السطح وفي العمق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى الماضي عن فكرة الترجيع، أو أنه صدى لأشياء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معاً، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر.

يلاحظ القصاص في شعرية أبو سعدة كيف يتسع المشهد على نحو خاص ليشمل حضور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء العابرة المهمّشة المنسية، وتصبح الحسية أداة للمعرفة والسؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحده/ على صدره جبل/ وتحت جلده مناقير تنهش في القلب/ قضى عمراً ليصل إلى الباب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ».

وقدم الشاعر والناقد عمر شهريار ورقة بحثية بعنوان «قصيدة النثر والاغتراب: جدل القطيعة والتواصل»، رفض فيها عدداً من «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حالة من الانسلاخ من الماضي. وعدَّ شهريار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله من حامل أو وعاء للعادات والتقاليد والثقافة بمفهومها الواسع، بالتالي تجد قصيدة النثر نفسها في حوار جدلي مع التراث، على الأقل من خلال الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة.

وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتها بحيوية الكاتبة الروائية والإعلامية دكتورة صفاء النجار قدمت الباحثة هبة رجب شرف الدين بحثاً بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة بين المرجعية والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والشاعرات، وتوقفت بالتحليل أمام قصيدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «ما هو الشعر»؛ حيث يعرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الشعرُ/ حضورٌ كونىٌّ للبذخِ/ وجسورٌ معلقةٌ/ نعبرُ عليها من غيمةٍ إلى غيمة». وتنبع أفكار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلى أن الأفكار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعاً علوياً حتى يحدث الإشراق الذهني منفرطاً، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية.

وتنتقل الباحثة إلى تجربة شعرية أخرى للشاعر أحمد إمام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوماً أو تعريفاً لماهية صورة الشاعر في «قصائد بحجم راحة اليد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظَّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدَّقَ في المرآة طويلاً/ كأنه يشربُ صورتَه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهي حالة جوهرية تخص الشعراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحَّال في المقام الثاني ترحالاً معنوياً أكثر منه مادياً؛ لذا فهو منفرد دائماً بذاته التي دائماً ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية.

ويتخذ الباحث إبراهيم أحمد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجاً لدراسة بعنوان «البحث عن راحة الذات المتعبة من الأفكار في قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحياناً والهروب منها أحياناً أخرى، حتى يزهد الشاعر في الاستيقاظ، باعتباره معادلاً للتفكير: «مُستغنٍ عن الصَّحوِ/ أخبَّئُ جرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصَّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطين من ماس».

وفي جلسة احتفاء بتجربة الشاعر جمال القصاص تحدث الشاعر أسامة حداد عن علاقته بالقصاص والمرتكزات الجمالية والفلسفية التي تشكل رؤيته للشعر والحياة، وتنعكس على تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته في البحث عن الجديد دائماً. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخص شديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخص شديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلامه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمريضة، ها هو يقول: «ليس لدي اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني».

ويعدُّ حسان أن أهم ما يميز إنتاج جمال القصاص قدرته على تفجير الشعر طوال الوقت في كل جملة وكل تركيب وكل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طول القصيدة، ومن ثم الديوان، فقصيدته لا تعتمد المباشرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخيرة، وهي أيضا لا تقوم على إثارة القضايا الكبرى من خلال السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كما اقترحت النسخة الأولى من القصيدة على أيدي روادها، فالتركيبة السحرية التي جاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بالذات الشعرية الصغيرة والهشة في محاولة لسبر أغوارها، وإظهار عذاباتها، لكن من خلال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عادل جلال إلى أن الأهداف لم تختلف عن الدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر، هدفاً رئيسياً لم يتغير. ويضيف جلال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المؤتمر كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلال إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.