«سفينة الجزيري»... أحلام التمرد على واقع مأزوم

«سفينة الجزيري»... أحلام التمرد على واقع مأزوم
TT

«سفينة الجزيري»... أحلام التمرد على واقع مأزوم

«سفينة الجزيري»... أحلام التمرد على واقع مأزوم

في روايته الجديدة «سفينة الجزيري» الصادرة عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعيد الكاتب المصري محمد جبريل مساحته المفضلة التي تدور غالبا في أجواء مدينة الإسكندرية، شديدة الخصوصية، لا سيما السواحل التي تطل على البحر المتوسط وما يرتبط بها من بشر ومهن وأساطير. يضعنا المؤلف الذي يعد من أبرز صناع السرد في جيل السبعينات بمصر أمام مفهوم «البحث عن الخلاص» بغية الوصول إلى السلام النفسي. ويطرح النص تساؤلات ملحة من نوعية: كيف يمكن أن نصل إلى بداية جديدة رغم أن الواقع مأزوم يمتلئ بالتشوهات التي تعتمل داخل نفوس أبطاله؟ ثم كيف نحقق التوق إلى الانعتاق والبشر غير متغيرين؟ هل يمكن الرهان على خلاص حقيقي بينما لم نتخلص من القيود التي بداخلنا والتي شغلتنا طوال الوقت وجعلتنا عاجزين عن التأقلم ويائسين في الهرب حتى ولو على سفينة تبدو أقرب إلى الخيال يقودها ربان حالم يبدو كأنه خارج لتوِّه من كتب الأساطير القديمة ويحرِّكه الشغف لكنه تنقصه الواقعية؟

الشخصية الرئيسية هنا تبدو للوهلة كما لو كان مجرد إنسان عادي تعبره العين سريعاً، موظف إداري بالمستشفى الأميري بالمدينة يمتلك ورشة لتصنيع أدوات البحر والكراسي من خشب السفن القديمة. هذا الشخص يمتلك في داخله توقاً عارماً لتغيير العالم، لصنع عالم جديد يسوده الحق والخير والجمال. يدرك أن أمنيته مستحيلة التحقيق في هذا الواقع الذي تسوده القيم الفاسدة وتملأه الصراعات العاتية من أجل لقمة العيش. يقرر «محيي عامر» أن عليه الانتقال إلى جزيرة بعيدة ظلت تراود خياله كثيراً بحثاً عن الخلاص المنشود، فيطلق أصحابه عليه لقب «الجزيري» من فرط هوسه بفكرة الجزيرة. يبني سفينة مستلهماً قصة نوح، عليه السلام، ويقرر أن ينقل على متنها عدداً من «الأخيار»، لكنَّ مفاجآت عدة تعترض الفكرة.

ومن أجواء الرواية، نقرأ:«يجيد التعزيم على الماء، يحقق به ما تحتاج إليه نفسه. أوراق يكتب فيها تعاويذ وطلاسم، يضعها في كوب من الماء المالح، يجرعه المريض فيشفى بإذن الله. تمسيد يده علاج يشفي جميع الأمراض، ليست الأمراض الجلدية وحدها، إنما كل ما يعانيه جسد الإنسان. كبد القرش له فائدة في صناعة الأدوية، يدخل في علاج كثير من الأمراض. دم الترسة ينقّي الدم، ويقوي المناعة. قد يعطي المريض تحويجة أعشاب، إذا لم يتماثل للشفاء، فإن عليه أن يقصر تفكيره في الموت. أعدَّ دواءً مَن يستعمله لا يرى الموت أبداً، فإن رأى الموت فالدواء سبيله إلى جنات النعيم».



«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا

«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا
TT

«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا

«حنين إلى الدائرة المغلقة»... ذكريات تحت حصار الآيديولوجيا

رغم أن كتاب «حنين إلى الدائرة المغلقة» الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتب والمترجم بدر الرفاعي ينتمي إلى «أدب السيرة الذاتية»، فإنه يعد كذلك صفحة مدهشة من صفحات التأريخ الاجتماعي والنفسي الذي ينطلق مما هو ذاتي إلى ما هو عام، لا سيما على مستوى الانكسارات والانتصارات التي تعرض لها جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه المؤلف. هذا الجيل الذي خرج من عباءة هزيمة 67، وقدم مغامرة جمالية متميزة، ارتكزت على التجريب والبحث عن رؤى جديدة، تركت أثرها في الشعر والرواية والفن التشكيلي، والعمل الثقافي العام.

جاءت سيرة الحنين مكتوبة بلغة سلسة بسيطة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة التي تشكل نسيجاً متفرداً عن مصر في حقب زمنية سابقة مع نبرة شجية لا تخفي تأثرها بحالة عارمة من الحنين للماضي، ليس باعتباره الأفضل بالضرورة، ولكن كفضاء من الذكريات بالغة المعنى والدلالة يطل عليها الكتاب من خلال فتح نافذة جديدة لها.

وتنبع حالة الحنين كون الرفاعي عاش حياة حافلة اختفت أغلب التفاصيل التي يحكي عنها الآن، فجاءت سيرته توثيقاً وإعادة إحياء لزمن انتهى وأناس رحلوا، حيث ولد في عام النكبة 1948، الأب يساري نشط، يعمل سراً ومطلوب دوماً من البوليس ويختفي معظم الوقت، والأم من أسرة متواضعة وتعمل بأحد مصانع النسيج ونشطة في صفوف العمال.

تم طرد الأب من عمله كميكانيكي بسلاح الطيران بسبب نشاطه السياسي وأصبح يعيش على القليل الذي يمنحه له «التنظيم السري». اعتاد الابن منذ وقت مبكر من طفولته على زيارات البوليس السياسي التي كانت ليلية، ولم ير والده بوعي إلا وهو في المدرسة الإعدادية عندما أنهى الأب السنوات السبع الأخيرة في السجن.

يتذكر بدر بصورة ضبابية عندما زار والده وهو صغير «زيارة سلك» في سجن القناطر، حيث تفصل شبكة من السلك بين السجين وزائريه، وكان الأب يرتدي «البدلة الزرقاء». وفي زيارة أخرى، سمع صوته فقط وعن بعد من دون أن يراه، لكنه يتذكر جيداً كيف كان سجن الاستئناف محاطاً بمجموعة من بيوت الأهالي التي تطل على الزنازين مباشرة.

سرعان ما قامت ثورة 1952 ليرى المؤلف بعيني الطفل، ومن بين سيقان الكبار، موكب الرئيس اللواء محمد نجيب وهو يمر بالميدان المواجه لكوبري «الحلوة» الحديدي من ناحية حي «شبرا البلد» بالقاهرة، حيث كان أول رئيس للجمهورية واقفاً في سيارة مكشوفة يحيي الجماهير التي احتشدت لتحيته.

ومع الأيام وجد المؤلف نفسه يرتدي ثوب «المناضل ابن المناضل» وهو ليس كذلك، هو بطبعه لا يحب المسؤولية وليس مقاتلاً وينسحب عند أدنى صدام، لا يحب المواجهة، يهرب ويستسلم قبل أن تبدأ المعركة. هكذا يعترف في شجاعة نادرة، مؤكداً أنه يتعرض للهزيمة قبل أن تبدأ المعركة، لكن شعوره بالواجب يدفعه إلى تحمل تلك المسئولية حتى النهاية.

ارتدى الرفاعي «ثوب النضال» واستمرأه لفترة حتى تعثر وضاق به وعندما قرر خلعه لم يصدقه أحد حتى والده نفسه والذي ظل يحرضه لآخر وقت كي يكون مثله مناضلاً. لم يتصور أنه من الممكن أن يكون لابنه اختيار آخر. الحياة عنده تعني النضال في سبيل القضية، فكيف يخون الابن القضية؟

كان والده يتعامل مع مصيره كقضية مسلم بها بحكم قوانين الوراثة، والنضال في سبيل القضية عنده يعني العمل السري. وفكرة الوالد عن العمل السري كانت مثالية، فهو يقول لابنه طيلة الوقت إن أهم شيء الإخلاص وإنه لو وجد اثنين مخلصين فمن الممكن أن ينشئ تنظيماً قوياً «يقيم الدنيا ويقعدها». أما الابن فقد كان على النقيض، حيث نمت معه الشكوك في كل شيء وكان بطبيعته عندما يُعرض على عقله شيء يظهر نقيضه على الفور وتبدأ دوامة من الصراع العقلي.

يشير الرفاعي إلى أن النضال لم يكن الثوب الوحيد الذي ألبسه إياه الأب والآخرون، وإنما كذلك «ثوب المثقف»، فاليساري يحوز لقب «مثقف» بالتبعية حتى إنه كان يوجد قول شائع يؤكد أن «داخل كل يساري شاعر فاشل». ويوضح أن زاده من القراءة قليل، حتى إنه لا يتذكر متى كان آخر كتاب قرأه حتى نهايته. ومصدره الثقافي الأكبر هو ما ترجمه من كتب، فضلاً عن التأمل في البشر والحياة.

ويعترف المؤلف أنه لا تستهويه الأفكار العميقة، ليس تعالياً وإنما كسل وعدم قدرة، فقد عاش الدنيا بعين الطائر وفاتته التفاصيل وأدرك الأشياء بالكاد، لكنه وعلى الرغم من ذلك وصل مع تقدم العمر ومعايشة الحياة إلى بعض الاستنتاجات؛ منها أن الماضوية كارثتنا الحقيقية وأكبر عائق بيننا وبين الغد، فكل أبواب عقلنا مغلقة ما عدا ذاك الباب المؤدي إلى الماضي، فكيف لشعب أن يصنع مستقبله وهو يتطلع إلى الماضي المجيد؟

ومن تلك الاستنتاجات أن الآيديولوجيا داء يستوجب العلاج، فهي تعني ضمن ما تعنيه التعصب الفكري الذي كان دائماً ما يحذر منه ولديه وابنته قائلاً: «إياكما والتعصب لفكرة مهما كان نبلها».

ويشير الرفاعي إلى العديد من «القفزات» التاريخية والحضارية التي كان شاهد عيان عليها، فقد عاش أيام المرحاض «البلدي» والصرف غير الصحي عبر «الطرنشات» وتسخين الماء للاستحمام باستخدام «الكوز» المصنوع من الألمنيوم ثم دخل بيتهم «التواليت الإفرنجي» و«الدُش» منتصف الستينيات. ورأى «العفاريت» وغيرها من مظاهر الخرافات الشعبية وهي تختفي من حياتهم بعد أن دخلت الكهرباء منزلهم.

تابع صور إرسال أول كائن حي «الكلبة لاكي» إلى الفضاء وكذلك أول إنسان «رائد الفضاء الروسي غاغارين» واختفاء الزي الشعبي النسائي الشهير المتمثل في «الملاءة السوداء» التي تلفها المرأة لتغطي جسمها بالكامل، وهى خارج المنزل ثم تنزعها عنها بسهولة حين تعود للبيت.

نما وعيه على حرب فيتنام وشهد مآسيها وتعاطفت مع شعبها، كما شاهد على الهواء مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي وحائط برلين، ثم إسقاط تمثال صدام حسين وإعدامه واختراق الطائرات لبرجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وقبل ذلك، وصلته أصداء ثورة 1968 في فرنسا وتداعياتها وظهور «البيتلز» و«الهيبيز» و«زوربا اليوناني». عايش حلم عبد الناصر وتعايش معه وشهد انكساره ونكوصه ومعه أحلام القومية العربية وبناء مجتمع الاشتراكية والعدل، كما انتحب وسار في وداعه مع الملايين.

ومن المواقف المثيرة للشجن تلك الكلمات المؤثرة التي تشبه اعترافاً مريراً يسوقه المؤلف قائلاً: «لم أدر متى فقدت هدوء السر وطمأنينة النفس، متى فقدت القدرة على الاستمتاع، فأنا ومنذ زمن طويل لم أعد أستمتع بشيء ولا أرى وجهي حين أنظر في المرآة. صرت أعيش بداخلي منفياً، عرفت كثيرين ولم أعرفهم. عاينت الكثير من الآيديولوجيات والقليل من الأفكار، أدركت بالعقل أن للحقيقة أكثر من وجه، لكني ما زلت أبحث عن يقين مع إدراكي أنه ليس هناك ما يسمى باليقين».