أوفيد «مفتياً» للعشاق ودليلهم إلى الحب الناجح!

كتابه «فن الهوى» بدا عابراً للأزمنة وأثار خلفه غباراً لم يهدأ

أوفيد
أوفيد
TT

أوفيد «مفتياً» للعشاق ودليلهم إلى الحب الناجح!

أوفيد
أوفيد

قد يكون من الصعب على أي باحث في شؤون الحب والعشق، أن يتجاوز الإسهام الفريد وغير المسبوق الذي قدمه الشاعر الروماني أوفيد في معظم كتاباته، وفي كتابه «فن الهوى» على وجه الخصوص. وإذا كان الكتاب المذكور عابراً للأماكن والإثنيات والعصور، فإن الأمر ليس عائداً إلى أهمية موضوعه المتناول بالدراسة فحسب، بل إلى مقاربته الذكية لموضوعه، فضلاً عن وضوح الأفكار ونصاعة اللغة والأسلوب الساخر واتساع دائرة الخطاب الإنساني.

على أن النجاح الاستثنائي الذي أصابه أوفيد، لا يمكن أن تتم قراءته بمعزل عن الشروط الذاتية والموضوعية التي وفّر تضافرها للشاعر المولود بالقرب من روما عام 43 قبل الميلاد، لعائلة أرستقراطية مرموقة، أسباب الفرادة والتميز. فقد قُدّر للشاب الطموح والمصاب منذ يفاعته بلوثة الشعر، أن يتابع دراساته العالية في مجالات البلاغة والأدب والقانون. كما وفر له تسنمه سدة القضاء في روما لسنوات عدة، سبل «الوصاية» على العشاق، وإسداء نصائحه وتوجيهاته لكل راغب في تنكب المغامرة العشقية.

ولعل النجاح البالغ الذي لقيه «فن الهوى» في أوساط المجتمع الروماني عشية ظهور المسيح، لا يعود إلى موهبة مؤلفه البحتة فحسب، بل إلى كون أوفيد قد كتبه في سن النضج تماماً؛ حيث كان قد اكتسب مع بلوغه الأربعين قدراً غير قليل من الخبرات والتجارب الشخصية التي أحسن استثمارها ووضْعها بين يدي قرائه ومتابعيه. وهو أمر لم يكن ليتيسر له تحقيقه لو كان قد وضع كتابه في سن العشرين. ومن يتتبع فصول الكتاب المختلفة لا بد أن يلاحظ أن مؤلفه لم يكن يريد في تصديه لموضوع الحب أن يحذو حذو التراجيديات الإغريقية التي يتسلط القدر على المشاركين فيها، أو أن يتبع مسار الحب الروحاني الصوفي الذي لا ينال الجسد من خلاله أي نصيب، بل رأى إلى الحب بوصفه نوعاً من المتعة واللهو واللعبة الماكرة، الذي جهد في أن يضع لها أصولاً وقواعد.

وينوه أوفيد في مقدمة الكتاب إلى أنه أراد أن يضع خبرته وعمله المضنيين في خدمة الشبان والشابات من الأجيال كافة، لكي يساعدهم على تجاوز مكائد الحب وآلامه وعثراته، بأقل تكلفة ممكنة. كما يوضح لقرائه أن فينوس هي التي اختارته كشاعر، لكي يكون وصياً على ابنها المتحفز على الدوام لإطلاق سهامه الجارحة على العاشقين. وإذا كان قد قرر الانتقام من كيوبيد، فلأن سهامه المسمومة كادت أن تصيبه في مقتل، ذات حب جارف.

ويخصص الشاعر الجزء الأول من كتابه لإرشاد الشبان المتعطشين للحب إلى الطرق المثلى للإيقاع بالنساء، معتمداً على خبرته الشخصية وثقافته الواسعة وذكائه المتوقد. وهو إذ يستثني من استهدافاته النساء الحرائر المحصنات، فلأنه كان خائفاً من بطش الإمبراطور، رغم أنه يستطع دفعاً لهذا البطش في نهاية الأمر. وحيث يعدُّ أوفيد أن الفرق ليس شاسعاً بين الحب والحرب، أو بينه وبين الصيد، فهو يطلب من الرجل أن يحدد نوع الطريدة التي يلاحقها، لأن الفخاخ والأسلحة التي تنجح في تصيد امرأة من طراز ما لا تفلح في تصيد امرأة من طراز آخر، رغم أنه يرى في معظم النساء نقاطاً من الضعف تمكّن الرجل العاشق من الظفر بهن في نهاية المطاف.

وأوفيد الذي يُظهر معرفة واسعة بعلم نفس المرأة، لا يرى معظم حالات التمنع بوصفها رفضاً قاطعاً للرجل العاشق، بل يرى فيها اختباراً لنياته، ووسيلة ناجعة لإذكاء رغبته. ولأن نساءه المعنيات بالمخاطبة لسن أبداً من بائعات الهوى الساقطات، بل من الشرائح الاجتماعية الموزعة بين المحافظة والتحرر، فهو يوصي الشبان باستخدام المعرفة والاطلاع والأجوبة الحاذقة كأداة ناجعة للاستحواذ على إعجاب معشوقاتهن المستهدفات. كما أنه يحذر الرجال من الجمال الخادع الذي تظهر عليه النساء في حالة الشراب أو تحت أضواء المصابيح الخافتة، داعياً كل شاب طامح للفوز بقلب امرأة إلى تجاوز مخاوفه، بالقول:

المرأة في كل مكانٍ صيدٌ سهل

انصب شرَككَ وكفى

تغريد الطير قد يسكن في كل ربيع

وصرير الجندب قد ينقطع في الصيف

لكن المرأة لا تصمد

إذا انساب في أذنيها معسول الغزل

إلا أن أوفيد العارف بطباع المرأة ودواخلها يؤكد في الجزء الثاني على أن المحافظة على الانتصار أصعب من بلوغه. فالأهم في عملية العشق ليس الوصول إلى قلب المرأة، بل العمل المضني للبقاء في صميمه؛ حيث الحظ يلعب لعبته في البدء، بينما لا بد لاحقاً من استخدام الحذق والمهارة. وهو يشير إلى أن الغاية من كتابه لم تكن تلقين الأغنياء فنون الهوى، لأن أموالهم الطائلة تتكفل وحدها بإغواء من يشاؤون، مؤكداً أنه أراد الانتصار لحق الفقراء في الحب، وتزويدهم بما يحتاجونه من عدة المغامرة ومستلزماتها. وهو يدعو العشاق العازبين إلى ترك الأزواج والزوجات يغرقون في شجاراتهم المتواصلة، لجعل السلوك الحاذق والغزل الطري يقومان مقام الهدايا الثمينة. فالحب والعشق لا ينموان في رأيه إلا في أرض التدليل والأصوات الناعمة والكلام المنمق.

وفيما يؤكد أوفيد أن في كلمات الإطراء الشاعرية ما يغني العاشق عن تقديم المال لمعشوقته، يعود ليسخر من كلمات الغزل التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، فيهتف بعاشقه الفقير قائلاً:

هل أنصحك بأن ترسل أشعاراً عاطفية؟

واأسفاه، فالشعر عظيم، لكنه لن يلقى ما يليق به

فهي قد تمتدح قصيدك

لكنّ أثمن ما تَنشدُهً هو ما تُهديه إليها

فلا تعجب إن نال الهمجي الأحمق

إعجاب فتاتكَ ما دام غنياً

أما الجزء الثالث من الكتاب فيكرسه المؤلف لتزويد النساء بالوسائل الناجعة التي تكفل لهن الاستحواذ على قلوب الرجال، وتجنب الكساد المحبِط والعنوسة البائسة. وهو إذ يخاطب النساء بقوله «ليس من العدل أن أعرّضكنّ عزّلاً من السلاح أمام عدو كامل العدة»، يرى أن على الرجال أن يشكروه على فعلته، لأنه لا يليق بهم الانتصار على كائنات ضعيفة ومجردة من السلاح. وهو لا يتردد في إطلاع المرأة على قواعد السلوك المثلى مع الرجل، وحثها على العناية بمظهرها وحماية جمالها من التلف دون مبالغة أو أفراط. ويحذر المؤلف النساء من تصديق الرجال المخادعين، من ذوي الشعور الممزوجة بالطيب والمفرطين في التزين بالخواتم، فقد يكون أشدهم أناقة لصاً لا يهيم بالمرأة لذاتها، بل بما تملكه من أموال.

أراد أوفيد أن يساعد الشباب على تجاوز مكائد الحب وآلامه وعثراته

وعلى المرأة الذكية في رأيه ألا تنام على حرير العهود التي يقطعها فتاها العاشق على نفسه، وأن تجهد في إثارة غيرته والإيحاء بأن ثمة من ينافسه على قلبها، حتى ولو كانت الحقيقة خلاف ذلك. كما ينصحها بأن تلعب على الحبال الفاصلة بين التمنع والوصال، لأن المرأة التي يظفر بها عاشقها بغير عناء، لن تكون أحبَّ النساء إلى قلبه. وهو يشعر بالرضا عن نفسه لأنه وقف في منطقة وسط على حلبة المنازلة الدائمة بين الرجال والنساء.

ولا بد من التنويه أخيراً بأن صمود «فن الهوى» في وجه الزمن لم يكن ليحدث لولا قدرة مؤلفه على المواءمة بين الشاعرية العالية وغزارة الثقافة، ولولا نفاذه البارع إلى الأعماق الأخيرة للنفس الإنسانية. وإذا كان «طوق الحمامة» قد عُدَّ أحد أكثر الكتب شبهاً بكتاب أوفيد، فإن السؤال المتعلق بأسباب ذلك التشابه يكتسب الكثير من المشروعية. فهل كان ابن حزم، المتصل عبر الأندلس بالثقافة الغربية، قد قرأ أوفيد وتأثر به؟ وهل كان كتابه المتأخر ألف سنة عن سلفه الروماني، نوعاً من التناص المقصود مع المرجع الأصلي، أم أن التشابه بين «مفتيي» الحب اللذين عمل كلاهما في سلك القضاء كان ضرباً من ضروب المصادفة التي يمكن إضافتها إلى مصادفات الزمن وغرائبه الكثيرة؟


مقالات ذات صلة

حجر آدم شاهداً ودليلاً

ثقافة وفنون ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم

حجر آدم شاهداً ودليلاً

تتحدّث النصوص المسمارية السومرية عن بلاد ماجان الغنية بـ«النحاس الجبار»، غير أنها لا تذكر موقعها بدقة، مما جعل تحديد هذا الموقع موضع سجال بين المختصين

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون تجربة التشارك في الكتابة

تجربة التشارك في الكتابة

الكتابةُ فعالية تتمنّعُ على المشاركة وتستعصي على كسر إطار الفردانية. هذا أحد القوانين الأساسية في الكتابة.

لطفية الدليمي
ثقافة وفنون رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

عن دار «الحكمة» للنشر في لندن، صدر للباحث والناقد المصري الدكتور أحمد الصغير آل تمام كتاب نقدي بعنوان «السرد بين التاريخ والمتخيّل التاريخي...

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مشهد من فيلم «حياة الماعز»

جزيرة العرب على شاشة السينما

يتحدث الفيلم الهندي «حياة الماعز» عن شاب هندي يأتي إلى السعودية بغرض العمل فيختطفه شخص من المطار وينقله إلى الصحراء البعيدة لكي يرعي مواشيه بالمجان

خالد الغنامي
ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.