بريشت في المسرح الخليجي

بريشت في المسرح الخليجي
TT

بريشت في المسرح الخليجي

بريشت في المسرح الخليجي

صدر للباحث المسرحي ظافر جلود كتاب جديد عن دائرة الثقافة بالشارقة بعنوان «بريشت في المسرح الخليجي... التغريب وكسر الجدار الرابع»، وهو قراءة في العروض المسرحية لمسرحيين خليجيين في ضوء المفاهيم والقواعد التي أسسها بريشت في نظريته عن المسرح الملحمي.

الكتاب، الذي يقع في 279 صفحة، يركز على التعريف بمنهجية المسرح الملحمي كمصطلح يجمع بين نوعين أدبيين هما الدراما والملحمة، أي شكلي الأدب المسرحي والسردي في عشرينيات القرن الماضي، حيث ينفصل المسرح الملحمي عن مفاهيم المسرح النوعية التي تقلل من قيمة العناصر السردية على المسرح عبر تجسيدها في تمثيل حي.

كما يتطرق المؤلف إلى تجارب المسرحيين الخليجيين خصوصاً، والعرب عموماً، في محاولة تناول ومعالجة القضايا الراهنة شكلاً ومضموناً، في ضوء النموذج الذي يمكن التعلّم من تجربته والاقتداء به. وتعود أسباب اللقاء مع مسرح بريشت إلى أمور عدة، منها أنه مسرح سياسي اجتماعي بامتياز، وأنه شكل فني جديد له حضور أوروبي كبير، ثم توفر ترجمات أعمال بريشت المسرحية والنظرية إلى الفرنسية والإنجليزية.

ويشير المؤلف إلى أن نظرية المسرح الملحمي لبريشت قد مزجت بين تقاليد المسرح الغربي وجماليات الشرق، وهو المزج الذي جدد المسرح الغربي ومنحه أفقاً جديداً للتجريب، وأن هدف بريشت هو التوصل إلى مسرح يدفع الجمهور إلى تغيير العالم بدلاً من تفسيره، وهذا أدى إلى تغيير المسرح نفسه.

لقد تأثر المسرح العربي، كما يشير جلود، بالمسرح الملحمي، كما في تجارب مخرجين مثل إبراهيم جلال وسعد أردش وعوني كرومي وفؤاد الشطي وصقر الرشود ومحمد العامري وحمد الرميحي وخليفة العريفي وعماد الشنفري، ومؤلفين مثل الشيخ الدكتور سلطان القاسمي وعبد العزيز السريع وسعد الله ونوس وإسماعيل عبد الله وسامح مهران الذين أسهموا في تعزيز النظرية البرشتية بمحاولات راهنت على قراءة واعية للمسرح الملحمي.



حكاية مائة عام بين طرابلس والإسكندرية

حكاية مائة عام بين طرابلس والإسكندرية
TT

حكاية مائة عام بين طرابلس والإسكندرية

حكاية مائة عام بين طرابلس والإسكندرية

عادةً ما تتحول كتب نالت حظاً من الشهرة إلى أفلام، وهذا شائع. لكن نادراً ما يكون المخرج أو كاتب السيناريو، في طور جمع المعلومات والتصوير لفيلمه، فإذا به ينتهي إلى كتاب يسبق الشريط السينمائي، ويمهد له.

لأسباب لوجيستية، أبصر كتاب «طرابلس – الإسكندرية: مائة عام في هجرتين» النور، مستفيداً من مادة توثيقية لفيلم في طور الإعداد. وهو يعود بنا إلى مرحلة تمسّ عائلات كثيرة في بلاد الشام، ترك أفراد منها أوطانهم، وذهبوا إلى مصر باحثين عن فرص أفضل، ومداخيل أوفر. الكتاب يُخبرنا بأن هؤلاء «الشوام» كانوا في غالبيتهم تجّاراً، أسسوا شركات، وحققوا نجاحاتٍ جعلت بعضهم يبقى في مهجره المصري، ولا يتذكّر أولادهم من موطنهم الأصلي غير ما رواه لهم الأهل، والبعض الآخر كان يعود ليُنهي حياته ويُدفَن في أرض الأجداد.

صاحب الكتاب إلياس جاك خلاط، هو مؤسس ومدير «مهرجان طرابلس للأفلام» مخرج ومنتج، وله باع مع القصص والحكايا والسينما، لذلك ليس مستغرباً، أن يخطر له توثيق حكاية عائلته التي عاشت لأربعة أجيال، وطوال أكثر من مائة وخمسين سنة بين مدينتين. تشاء الصدف، أن يتلقى الكاتب اتصالاً تليفونياً من الإسكندرية، موضوعه عقار يعود لعائلته، لا يزال أمره معلقاً، منذ سنين، ولحلّ المشكلة تُكلِّفه عائلته بالسفر، لإنهاء قضية الإرث هذه، خصوصاً أن الظروف باتت مهيأة. ومن اللافت أن الكاتب لم يكن قد زار المدينة التي عاش بها أجداده قبلاً سوى مرتين، خاطفتين، للعمل وللمشاركة في أحد المهرجانات السينمائية، ولم تسنح له الفرصة، خلالهما بالتعمق في ماضي العائلة، أو البحث عمَّا خلَّفه أجداده.

لهذا نرى الكاتب يقوم بسفرات مكوكية طوال ثلاث سنوات، وقد تحول خلالها، من باحث عن حلّ قضية إرث قديم، إلى نابش في الجذور، كأن الفرصة أتته من حيث لم يكن ينتظر، ليقتفي أثر أجداده في تلك البقعة التي كل ما فيها يبعث على الفضول. ثم يتحول البحث عن جذور العائلة وتتبع خطى الأجداد إلى رغبة أكبر تشمل محاولة فهم دور الشوام في تلك المدينة، ومَن بقي من العائلة هناك وانقطعت علاقتهم بوطنهم الأم.

ومن اللافت أن أول ما سأل عنه الكاتب هو وجود مدفن معروف لعائلته في الإسكندرية، ليكتشف أن لها أربعة. وهكذا تتحول زيارة المدافن في حد ذاتها إلى رحلة استكشافية من نوع آخر، خصوصاً لتاريخ طائفة الروم الأرثوذكس في الإسكندرية. فغالبية الشوام دُفنوا في البدء في مدافن يونانية (تأسست في نهاية القرن الثامن عشر، قبل أن يصبح اليونانيون نصف سكان الإسكندرية تقريباً منتصف التاسع عشر)، كما حال عائلته، لعدم وجود مدافن لها. وهنا في هذا المكان الذي سكن إليه أفراد عائلته، لمعت في رأسه فكرة الفيلم الوثائقي الذي يحكي عن الهجرة، والنزعة الوطنية في زمن نهاية السلطنة العثمانية. «فيلم يبدأ بمدافن الإسكندرية، وينتهي في مدافن طرابلس»، خصوصاً وهو يلاحظ أن أسماء العائلات الموجودة على شواهد القبور في المدينتين، تكون أحياناً هي نفسها، بسبب هجرة البعض وبقاء باقي الأسرة في لبنان.

الكتاب صادر عن «مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية»، ويعتمد على المصادر، والتوثيق، وإجراء المقابلات، للتأكد من الوقائع، وهو بذلك أشبه ببحث جديد يضاف إلى جهود كل أولئك الذين اهتموا بتاريخ الشوام في مصر. إضافةً إلى ذلك، يعقد الكاتب المقارنات، بين ظواهر ثقافية وحضارية، عاشتها طرابلس ومثيلاتها في الإسكندرية، ويُعنى بشكل خاص بمتابعة التحديث العمراني، والتحولات التي طرأت على المدينتين منذ نهاية القرن التاسع عشر. يلحظ الكاتب مثلاً أن وسط مدينة الإسكندرية حافظ، رغم كل التقلبات السياسية والاقتصادية، على تراثه المعماري القديم، عكس طرابلس التي تناولت عماراتها المعاول وهدم كثير من مبانيها القديمة، التي لو تُركت لكانت اليوم شبيهة بالإسكندرية. المقارنات لا تنتهي، فحين يصل إلى العقار، موضوع الإرث، ويسمع صوت الأبواق ويرى البسطات المنتشرة وسط البلد، ويسمع الباعة يدللون على بضاعتهم، يشعر أكثر بوجه الشبه بين المدينتين.

المثير في الكتاب فعلاً هو إصرار هذا الحفيد على تتبع شجرة العائلة، صعوداً لثلاثة أجيال، واللحاق بتفرعاتها، يقوده البحث إلى كنائس، ومكتبات بينها مكتبة الإسكندرية، ومراكز أبحاث، وأرشيف صحف ومجلات.

يجد إلياس خلاط أن أربعة فروع للعائلة هاجرت إلى الإسكندرية، ثلاثة منها ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف النصف الثاني منه، وفرع رابع هاجر في بداية القرن العشرين، وهؤلاء من الجيل الثاني. يرسم الكاتب بالأسماء وتواريخ الميلاد، أسماء من هاجروا من عائلته وأبنائهم وأحفادهم، ملاحقاً سلالاتهم. ويقوده البحث مستعيناً بكتاب «تراجم علماء طرابلس» لعبد الله نوفل، ليخرج عن إطار المدينتين وصولاً إلى تركيا. وفي إسطنبول تم تكليف باحث متخصص بالبحث في أرشيف الدولة العثمانية عن العائلة، وبالتحديد عن أحد أفرادها ويُدعى نسيم، بسبب حيازته رتباً وألقاباً وأوسمة عثمانية.

استُعملت كلمة «شوام» في مصر ابتداءً من القرن التاسع عشر للإشارة بشكل أساسي إلى المسيحيين العرب الذين هاجروا من بلاد الشام، وكانوا في غالبيتهم من طبقة ثرية ومتعلمة، وأسهموا في انفتاح مصر على أوروبا. وجاء هؤلاء من المدن الساحلية للبنان وسوريا وفلسطين، وأقاموا في القاهرة والإسكندرية، المدينتين اللتين كانتا الأكثر انفتاحاً في عهد الخديو إسماعيل. ثمة من هاجر من أجل الرزق، وهناك من رحل يبحث عن فسحة أكبر من حرية التعبير. وهناك من أقاموا طويلاً وعادوا ليقضوا بقية أعمارهم في مدينتهم الأم، ومنهم من وُلدوا مصريين وقضوا في مصر، ولم يحملوا يوماً الجنسية اللبنانية.

وأسهم في اقتفاء أثر آل خلاط بشكل خاص، أن بعضهم كانوا كتّاباً، ولهم مقالات في صحف، وتركوا خلفهم نصوصاً وقصائد، مما سهل فهم الكثير عنهم.

نسيم (1833 - 1910) مثلاً (جد الكاتب) حسبما كُتب، في رثائه في «المقتطف»: «عاش عضواً عاملاً في جسم المجتمع وخدم دولته ووطنه بما يُخلِّد ذكره الحسن». ويقصد بدولته هنا الدولة العثمانية، أما وطنه فطرابلس الشام. فقد كان يسافر بجواز سفر عثماني. وقد عبّر نسيم خلاط، نفسه في كتابه «سياحة في غرب أوروبا» عن احترامه الكبير للدولة العثمانية. ويوم زار باريس شعر بضرورة أن يزور «سفارة دولتنا العليّة. فلما بلغتها قابلني سعادة غالب بك سر كاتب السفارة العارف العربية، وأدخلني على دولة السفير منير بك».

وكتب نسيم قصيدة في مدينته وحنينه إليها يقول:

سيري إلى الوطن المحبوب تاركة في قلبنا لهباً أزكى به الحسد

سيري لأرض لها أرواحنا أبداً مرهونة الشوق حتى يرجع الجسد

ويلقي الكتاب الضوء على الصلة التي بقيت تربط هؤلاء الشوام المهاجرين بأوطانهم من خلال رسالة مفتوحة وجَّهها ديمتري خلاط، أحد أفراد العائلة إلى البطريرك إلياس الحويك الذي لعب دوراً في تأسيس دولة لبنان الكبير، وهو في مصر.

فقد كتب للبطريرك هذه الرسالة ونشرها في إحدى الصحف المصرية، عبّر فيها عن قلقه من تفرق الكلمة والنزاعات القائمة، وتمنى لو يكون اتحاد تندغم فيه الطوائف المسيحية والإسلامية، وطالب بضرورة الوحدة بين الطوائف جميعها. وانتقد ديمتري حكومة لبنان، كونها أسندت أعلى المناصب فيها إلى ثلاثة من الموارنة، مردداً شكوى القائلين: «إن تركيا كانت تميز المسلمين، فغدت فرنسا تميز الموارنة».