نظرية بودلير حول الضحك تدخل الحملة الانتخابية الأميركية

عندما يُستخدم سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً

مارغريت دوراس
مارغريت دوراس
TT

نظرية بودلير حول الضحك تدخل الحملة الانتخابية الأميركية

مارغريت دوراس
مارغريت دوراس

ما العلاقة بين كامالا هاريس، وترمب، وبودلير؟ للوهلة الأولى لا شيء، فمرشحا الانتخابات الأميركية شخصيتان سياسيتان، أما بودلير فقد كرّس حياته للكتابة. لكنَّ الشاعر الفرنسي دخل بصفة غير مباشرة الحملة الانتخابية الأميركية، واستطاع أن يفسر لنا بنظريته حول الضحك وباستنتاج منطقي حجم الخطأ الذي ارتكبه ترمب وفريقه حين اختاروا استراتيجية الهجوم على كامالا هاريس مستخدمين سلاح «الضحك».

كامالا هاريس

الباحثة وأستاذة الأدب الفرنسي في جامعة «أكزيتر» البريطانية ماريا سكوت، شرحت في مقال بموقع «ثي كنفرسيشن» يحمل عنوان «الاستهزاء بضحكة كامالا هاريس استراتيجية غير مضمونة وفقاً لبودلير»، أنه كان من المفروض على المرشح الأميركي وفريقه أن يقرأوا أعمال الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير، ولو فعلوا لما اختاروا «الضحك» للهجوم. صاحب ديوان «أزهار الشر» يشرح الفكرة في محاولة نثرية عنوانها «جوهر الضحك» نُشرت عام 1855، يميز فيها بين الضحك الذي يهدف إلى السخرية والازدراء من أشخاص نعتقد أننا متفوقون عليهم (ضحك ترمب) والضحك الهزلي البريء الذي يؤدي إلى نشر روح البهجة والتعاطف (ضحك هاريس)، وقد شرح ذلك عبر مفهومَي «المُضحك العادي le comique ordinaire» و«المُضحك الهزلي le comique grotesque»، إذ كتب كأنه يصف شيئاً رآه: «رجل ممدَّد في الشارع، يتعثر على مدرج الطريق ويتسبب في سقوط تاجه. وعلى مرأى هذا الرجل الملقى في الشارع، يبدأ الآخرون في الضحك». يستنتج بودلير أن الضحك هنا شّر وأنه تصرُّف شيطاني وعلامة على الخطيئة الأصلية حتى إنه كتب «الرجل الحكيم لا يضحك إلا وهو يرتجف».

بودلير

ويواصل الشاعر موضحاً أن الحكماء يخافون من الضحك لأنهم يشعرون بوجود «تناقض سرِّي» بين الحكمة والضحك، وأن المجانين وحدهم هم من يضحكون، لأنهم لا يدركون ضعفهم ويظنون أنهم عظماء. وكان الضحك الذي يسميه بودلير «عادياً» قد نظّر له أيضاً الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. وهو الضحك الذي يثيره مشهد تعثر شخص ما وسقوطه. وما يجعلنا نضحك، وفقاً لهوبز، هو الاعتراف بـ«تفوقنا» على الشخص الذي نراه يسقط. وقد تبنّى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون أيضاً هذه النظرة إلى الضحك في كتابه «الضحك» (1990). فبالنسبة إلى برغسون، نحن نضحك على الآخرين عندما يتصرفون مثل الكائنات الميكانيكية، ونفعل ذلك كنوع من التنشئة الاجتماعية: لتشجيعهم على أن يكونوا أكثر إنسانية.

نظرية التفوق تفسر إذن لماذا نضحك على غباء الآخرين أو على المهرّجين، ومع ذلك، عندما يُستخدم الضحك سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً، إذ يوجب علينا الأخذ بعين الاعتبار نقطتين أساسيتين: أولاهما العلاقة المركبة بين الفكاهة والتعاطف. فالروائي والكاتب المسرحي ستندال الذي قضى جزءاً من حياته محاولاً كتابة الكوميديا، كان يجد صعوبة في كتابة شخصيات فكاهية لأنها، كما كان يقول، تثير التعاطف وتمنع عموماً مشاعر الازدراء. وهنا المفارقة: فالفكاهة تخلق روابط من التعاطف بين الأشخاص الذين يتشاركون النكتة ويضحكون بينهم لكنّ الأشخاص أنفسهم لا يشعرون بأي تعاطف مع موضوع النكتة. ولكن ماذا يحدث لو أن الشخص موضوع النكتة يضحك بنفسه أيضاً كما هو الحال مع السيدة كامالا هاريس؟ في هذه الحالة قد يحّل التعاطف مع الشخص الضاحك محل الازدراء. وبعبارة أخرى، ترمب يريدنا أن نضحك على كامالا هاريس بغرض الاستهزاء بها ولكن ما يحدث هو أننا نضحك معها بدلاً من الضحك عليها. وهو ما يشرحه بودلير في «جوهر الضحك» حين يكتب: «الممثل الذي يقع على خشبة المسرح هو أول من يضحك، ضحكة بريئة متفوقة، فهو قادر على أن يكون نفسه وشخصاً آخر في أن واحد، هو مدرك لوضعه لكنه لا يخشى أن يصبح مثيراً للضحك: يسقط الرجل في الشارع، فيستقيم وينفجر ضاحكاً، إنه رجل حكيم ساخر...».

فرجينبا وولف

تكتب الباحثة ماريا سكوت في موقع «ثي كنفرسيشن»: أليست كامالا هاريس هي هذا «المُضحك الهزلي» الذي يتحدث عنه بودلير؟ تضحك مع الآخرين، لا عليهم، كما يفعل ترمب. صحيفة «سلات» أكدت الفكرة في مقال بعنوان «القصّة وراء نكتة شجرة جوز الهند لكامالا هاريس» جاء فيه ما يلي: «كيف أصبحت نكتة شجرة جوز الهند you think you just fell out of coconut tree متداولة بكثرة في شبكات التواصل؟ لا أحد يعلم فعلاً، لكنَّ الطريقة (شبه المُحرجة) التي تروي بها القصّة والضحكة المدوية التي تختمها بها قد جلبت لها بالتأكيد التعاطف ومزيداً من الأنصار. خصومها حاولوا استغلال القصّة للاستهزاء بها، لكنَّ السخرية الذاتية التي اعتمدها أنصارها قلبت السحر على الساحر»... وإذا كنا نستطيع الضحك مع الآخرين وليس الضحك عليهم فهذا يقودنا إلى النقطة الثانية التي تنتج عن استعمال الضحك سلاحاً سياسياً وهي قوة «الفرحة»، هذه العبارة المتداولة بقوة في التعليقات السياسية والرسائل التي ترد بخصوص ضحك كامالا هاريس، حتى أصبحت بمثابة العمود الفقري لحملتها خلال الأيام الماضية. وإن لم تكن نظرية بودلير حول الضحك كافية، فإن مراقبين كثراً قد لاحظوا أيضاً أن وضع الضحك في قلب الحملة الانتخابية بين رجل وامرأة يحمل في طياته مشاعر الازدراء وكره النساء والغرض منه التمييز بين ضحك الرجال «الجيد»، الذي يفترض أنه محترم، وضحك النساء «السيئ»، غير اللائق وغير المحترم. شخصيات أدبية كثيرة تطرَّقت إلى هذا التمييز، وهو ما شرحته الباحثة المختصة في تاريخ الأدب سابين ملشيور بوني في كتابها «النساء والضحك» (دار نشر بوف) حين قالت إن «الضحك والقدرة على الإضحاك ظلَّا لفترة طويلة حكراً على الرجال، بل إن ضحك المرأة قد يبدو خطيراً وعلامة من علامات الوقاحة، وناقلاً للجنون والهستيريا». المرأة التي تضحك كثيراً هي إذن امرأة «مجنونة»، وقد يكون هذا ما حاول ترمب إقناعنا به حين صرّح في تجمع ميشيغان في العشرين من شهر يوليو (تموز)، حين قال: «أنا أسميها كامالا الضاحكة، هل شاهدتموها وهي تضحك؟ إنها مجنونة. تعلمون أننا نستطيع معرفة الكثير من الضحكة. لا، إنها مجنونة. بالتأكيد إنها مجنونة». هذا المنطق الكاره للنساء حاربه كثير من الشخصيات الأدبية. فمارغريت دوراس، مثلاً، تحدَّت السلطة الذكورية في كثير من أعمالها مستعملةً الضحك والسخرية. ورأت فرجينيا وولف، رغم المآسي التي مرَّت بها، فعل الضحك خاصّية «تحريرية» وقد تحدثت عن ذلك في مقال رائع نشرته في صحيفة «الغارديان» عام 1905 بعنوان «قيمة الضحك» تقول فيه إن الضحك يفتح أعيننا لأنه «يرينا الكائنات كما هي، مجردة من زخارف الثروة والمرتبة الاجتماعية والتعليم».



صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله
TT

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله

صدر حديثاً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» كتاب «منازل القلب: كتاب الإسكندرية»، للكاتب الفلسطيني الراحل فاروق وادي، وجاء في 232 صفحة من القطع المتوسط.

يقول الروائي والشاعر إبراهيم نصر الله في تذييله للكتاب:

«بصدور هذا الكتاب، يكون قد مرَّ عامان على رحيل فاروق وادي، ولعل أجمل ما يتركه لنا الكاتب إبداع جديد لم يسبق لنا أن قرأناه، نحن الذين نفتقده يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، هو الذي أمتعنا بعدد من أجمل الروايات العربية، متوَّجة بعمله السّاحر الأخير (سوداد: هاوية الغزالة).

ثمة هوة عميقة أحدثها غياب فاروق في حياة القريبين منه، بحيث يمكنني القول إنها المرة الأولى التي أحس فيها بفداحة فقدان صديق.

ويأتي هذا الجديد، كما يشير فاروق في مقدمته التي كتبها للكتاب بنفسه، استكمالاً لثلاثية عشق المدن: رام الله، بيروت، الإسكندرية، هو الذي بدا لي دائماً أن أحاسيسه تجاه مدينة لشبونة، التي بدأ يستطيب الإقامة فيها، كانت تتطور بتسارع كبير بحيث تكون المدينة الرابعة، وليس أدلّ على ذلك من رواية (سوداد)، وكأن قلب فاروق لا يستطيع أن يكون خالياً من حبّ مدينة جديدة. هو الذي كان مضطرّاً دائماً إلى أن يكون بعيداً عن المدن التي أحبّ، مع اختلاف الأسباب.

هذا الكتاب، بقدر ما هو سيرة الإسكندرية، هو سيرة فاروق نفسه، وينسحب ذلك على رام الله التي كتب سيرتها وسيرته، وبيروت في (ديك بيروت يؤذن في الظهيرة)، وإن أتقن التخفّي هنا، وفي (سرير المشتاق)، الرواية التي تكشف أكثر مما تحجب.

وفي كل هذه الكتب، وغيرها، بقي فاروق واحداً من الناس، بعيداً عن بطولات الرّواة وزهْوِهِم بهذه البطولات، ففي كل ما كتب بقي ذلك الإنسان الذي يعشق ويحبّ ويتأمّل، ويسخر من كلّ شيء، ومن نفسه. لكنّه حين يكتب، يكتب بكل الحبّ، فلا يحبّ أنصاف المدن، ولا أنصاف الصداقات، ولا أنصاف الحقائق.

لا يرحل الرائعون، بقدر ما تتضاعف قوة حضورهم، ونحن نكتشف كلّ يوم كم نحن نحبّهم».