جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

أحدث كتبه «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟»

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده
TT
20

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

قبل أن يغادر العراق إلى موسكو للدراسة، والحصول على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية من هناك، كانت قد صدرت له في بغداد 3 روايات و3 مجاميع قصصية. ثم عمل مراسلاً حربياً لعدد من المنابر الإعلامية؛ حيث قام بتغطية حروب كثيرة نشبت ما بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي بعد تفكيكه، خصوصاً في كاراباخ وأذربيجان وأرمينيا والحرب الشيشانية الأولى والثانية وأفغانستان والبلقان وكردستان ودارفور والعراق ولبنان وغيرها. أصدر عدداً من الروايات والكتب، منها ثلاثيته عن بغداد، و«مقاصب الحياة»... وغيرها. ويقيم الآن في الكويت؛ حيث يعمل محرراً ثقافياً لجريدة «القبس». آخر كتاب له هو «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» الذي أثار جدلاً بين أوساط المثقفين.

هنا حوار معه:

> «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» هو أحدث كتبك الصادرة، لكنك لا تتحدث فيه بشكل خاص عن الكراهية السائدة بين المثقفين، كما يُفهم لأول وهلة من عنوانه، بل جاء ذلك تفصيلة من موضوع كبير يخص مجتمع الثقافة والمثقف، من مثل مستقبل الثّقافة، وفردانيتها، وصُعود الثّقافة وانْحِدارها، والثّقافة المشكوك فيها دائماً... ما الذي أردت أن تقوله في هذا الكتاب؟

- لكي أعطي صورة كاملة عن الكتاب، لا بد من الإشارة إلى أن هناك جزءاً ثانياً سيلحقه، وهو عبارة عن كتابين في كتاب واحد، الأول يتم تقليبه من اليمين إلى اليسار وعنوانه «بلطجة المثقفين»، والثاني يتم تصفحه من اليسار إلى اليمين وهو الجزء التطبيقي من الموضوع برمته، وعنوانه «بازار الثقافة الكبير»، وسيصدر أيضاً عن دار «صوفيا» في الكويت في مطلع سبتمبر(أيلول).

بالتالي سيكون لدينا 3 كتب عما أطلقت عليه «مجتمع الثقافة والمثقفين»، لم أطرح أفكاري في هذه الكتب كمفكّر، بل كناقل لتجارب بصفتي أحد السكان السابقين فيما يسمونه «الوسط الثقافي»، فقد بقيت فيه، أو حُسِبت عليه، إلا أني عرفت كيف أخرج منه، منذ سنوات طويلة، ومن ذلك الوقت بدأت أكتب هذه الحكاية، ولكني لم أنشرها إلا الآن.

أعرف النوعية التي استفزها كتابي «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» وسيزدادون كرهاً بقراءة الجزأين الثاني والثالث منه، وسأستمر في إزاحة الغطاء، فهؤلاء اعتاشوا كثيراً وطويلاً على الثقافة، وقدموا أنفسهم كمثقفين. وسنجد في كتابنا المقبل الوصف الذي يستحقونه حقاً. في المقابل، ثمة من اعتاد على التعامل مع المثقفين كتماثيل الشمع في المتاحف، وفجأة رأى كتاباً يضخ الروح في هذه الهياكل التي كان يتعامل معها بقدسية وخشية ورهبة.

> في فصل «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» نتساءل هل حقاً المثقفون يكره بعضهم بعضاً؟ وهل هذا ما خبرته بشكل شخصي ممكن أن يكون عاماً؟

- الكاتب ليس مهمته الإجابة عن الأسئلة، في الغالب هو يطرحها للنقاش العام. وقد يأتي مؤلفون آخرون يكملون المهمة، لأن هناك أسئلة ما إن تجيب عليها، حتى تختلف ظروفها وتتغير إجاباتها. فهل أجاب سارتر عن سؤال الوجود العدم؟ هل أجاب كانط عن أسئلة جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم؟ وهل صحح كارل غوستاف يونغ طرق التحليل الفرويدية؟ هل أكمل سقراط وأفلاطون أسئلة الأخلاق؟ وهل وضع هيغل المنهج الجدلي حيز التطبيق في حياتنا؟ بالمناسبة، حتى آينشتين ترك أسئلته معلّقة لكيلا ينسف الفيزياء، وادّعى جهله متعمّداً.

والإجابة المباشرة على سؤالك: هل يكره المثقفون بعضهم؟ أقول إن المثقفين لا يكره بعضهم بعضاً فحسب، بل لا يقبلون بهدنة في حروبهم، وبعضهم لا يجنحون للسلم، ففي الحروب يظهرون أكثر. والمثقفون لا يسامحون بعضهم، ولا يمكن أن يكرهوا أحداً آخر كما يكرهون المثقف الأفضل منهم؛ لأنهم لا يكرهون الأقل منهم بالمستوى. المثقفون يكرهون من ينافسهم، ولكنهم لا يكرهون الطبيب الذي يعالجهم والسائق الذي يوصلهم وبائع المكتبة الذي يعطيهم تخفيضاً ودار النشر التي تطبع لهم والنادل الذي يسقيهم والصحافي الذي ينشر أخبار كتبهم... لا يكرهون هؤلاء، هُم متخصصون في كره بعضهم.

> كتبت بعد عام 2003 ما نسميه الملحمة العراقية، التي بدأت عندك في رواية «أموات بغداد»، وأعقبتها رواية «رسائل أمارجي»، ثم اختتمتها برواية «حبة بغداد»، التي تناولت فيها حجم الكارثة التي اجتاحت البلد، وما وراءها من أحداث، من استباحة للذاكرة التاريخية... هل ترى أن المشهد العراقي وما رافقه من دمار يستحق التعبير عنه بملحمة؟

- كشاهد عيان على ما حصل، كعراقي وروائي، طرحت على نفسي سؤالاً من شطرين: إذا أنا لم أكتب ذلك، فمَن سيكتبه؟ وإذا لم أكتبه الآن، فمتى سأكتبه. ومن تلك اللحظات بدأ مشروعي الروائي الكبير الذي ذكرته في ثلاثية، تتجاوز ألفَي صفحة، امتدت فترة كتابته لنحو 20 سنة، واصلت فيها الليل مع النهار وبلا توقف، ولعلّ أكثر ما أفخر به في مسيرتي الروائية والأدبية هو تمكني من إنجاز «ثلاثية بغداد» أو «الملحمة العراقية»، التي كتبتها بالدم، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى. مُعيداً ترتيب كومة ذكريات ولّدت في داخلي عوالم بأكملها، وأعتقد أن تشكيلي من كلّ العراقيين المنصهرين بالنظام الكوني عبر آلاف السنين. عن الفتى الذي احتشد في زوايا المكتبات وكتابة رواية تليق بالعراق وأعدها أهم عمل في حياتي، حينما يشعر أيّ عراقي بأنه القصة نفسها.

> يقول القاص والروائي العراقي محمد خضير: «أحسّ جمال حسين بوجوب هذا التنافذ النصي فاختار استراتيجاً بناء يطوف حول مئات المدونات ويأخذ من نصوص الأولين والآخرين ما يدعم موضوعته عن (حقيقة الإنسان)...» هل دفعتك الرواية فعلاً لهذا الجهد؟

- عندما بدأت كتابة رواية «أموات بغداد» منذ ما يقارب العقدين (نشرت الطبعة الأولى عام 2008 في بيروت، دار الفارابي، ثم أعيدت طباعتها في مصر 2015، وفي العراق 2021)، أدركت وقتها أن موضوعها أقوى مني، من كل النواحي (المعرفية والبنيوية والتاريخية والعلمية والطبية والفلسفية) وكتكنيك روائي أيضاً، وهذا دفعني لأتعلّم وأتطوّر لكي أُجاريها وأفعل بها ما أُريد. ذلك لأننا لا نكتب الأشياء التي نعرفها فقط، بل نكتب ما لا نعرفه، لكي نتعلّمه في غضون الكتابة. وهذه إحدى المُتع الأزلية للكتابة. ففي كلّ مرة أكتب فيها رواية جديدة، أدخل في تدريب جديد للمهنة، وقد يستغرق ذلك وقتاً لذيذاً أشعر فيه بالأمان، وفي غضون ذلك أسمح لنفسي بأخذ عيّنات من مصائر الناس الذين سأكتب عنهم. سوف يأتي جيل يقرأ «أموات بغداد» وسيشعر بالقرب منهم أكثر مما شعرت به من قبل، تجاه الأشخاص الذين كنت أعرفهم قبل أن أنسحب من العالم. وأخبر النقد المستقبلي بأني وضعت الكثير من الأسئلة في ملحمتي العراقية، وستبقى هذه الأسئلة وستستمر مع تاريخ العراق.

> في روايتك سعيت لتخليق «آدم» الجديد، من جينات معدلة يستخلصها من جثث ضحايا الاحتلال والميليشيات والعصابات، وهي من مخلفات الغزو الأميركي، هل فقدت الأمل بالخلاص إلى الحد الذي لا يكون إلا بخلق إنسان جديد يعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي؟

- لم أكتب «أموات بغداد» و«رسائل أمارجي» و«حبّة بغداد» لهذا الجيل، ولا حتى للجيل الذي بعده. لا أقول فقدت الأمل بهم، لكن أملي أكبر في الأجيال المقبلة، فنحن لا نكتب ما حدث، بل ما نريده أن يحدث. وهذه هي الطريقة التي نعتقد أن الأشياء تحدث بها. غالباً، لا أكتب إلى الأحياء، فالذي يبقى وفيّاً للأموات، يعرف كيف يخلص للأحياء؛ لأن الأدب هو الطريق الذي يُلغي الزمن، ويتيح لنا أن نتحدث وحدنا مع الموتى وكذلك مع الذين لم يولدوا بعد. وبالنسبة لـ«آدم» الجديد، هو تجسيد للمنتظر في الميثولوجيا الشرقية تحديداً، ونراه في أدب ما بعد الحربين العالميتين بشكل واضح.

> عملت في الصحافة مراسلاً حربياً في مناطق ملتهبة وعديدة من العالم، حتى تتويج عملك بفوزك بجائزة الصحافة العربية في مجال الريبورتاج الصحافي، وثقت أغلبها في كتب عديدة... ما الذي أضافته لك هذه التجربة على صعيد السرد؟

- ذهبت للحروب روائياً بهيئة صحافي. وحتى كتابتي لم تكن تقارير صحافية تقليدية، بل كانت قصصاً عن الناس والأماكن والمشاهدات والأحداث. لقد أحببت الناس، وسمحوا لي بتصويرهم، لكنهم أرادوا مني أيضاً أن أستمع إليهم، وأن يخبروني بما يعرفونه، حتى نروي قصتهم معاً، مثل سؤال بيكيت: «هل نمت بينما عانى الآخرون؟». كانت مهمتي كمراسل حربي تكمن في محاولة معرفة ما الذي يفعله الناس في المدن التي تحترق، وكيف يعيشون ولماذا يحصل كل ما يحصل. لذلك كتبت ما رأيته، وما كنت على استعداد لتحمّله. وقد أتذكّر أولئك الساكتين الذين لديهم الكثير ليقولوه، فقد جرّبت حمل ثقل الحكاية غير المرويّة... وعرفت أن أعيش ولديّ دائماً قصة أرويها.

> رغم تخصصك العلمي الدقيق، لكن الملاحظ أن حرفة الأدب والكتابة أخذتك منه... ما الذي تقوله في ذلك؟

- أكثر حبّ أخفيته وكأنه غير موجود هو حبّي للفيزياء. فقد قضيت حياتي بين الكتب والجامعات، وفي مكاتب الصحف والمجلات، وبدأت الأدب والعلم بالبحث، كطريقة أساسية للتعلّم؛ لذلك كوّنت فكرتي عن الناس والكون والفضاء والتاريخ بشقّ النفس وبشكل ذاتي. استمتعت بالكتب والقراءة والدراسة. درست العلوم المجردة وكنت أدرك أنها تقدّم القليل للتطوّر من دون الأدب والفنّ.

كانت هذه فلسفتي العامة في التعامل مع اهتماماتي العلمية والفنية والأدبية والإعلامية وحتى داخل المجال نفسه؛ لذلك لا أحبذ أن يتم تعريفي - نقدياً - بطريقة إجرائية... أفضّل أن أعوم مثل مادة هلامية غير قابلة للإمساك، مثل كائن مُتغيّر الأنماط والألوان، وليس شخصاً ممتهناً حرفة بعينها. لم تكن هذه فلسفة، بل مجموعة أحاسيس، فحبي للمجالات المتنوعة مثل حبي للطبيعة، لا يشترط أن أعرف لماذا وما هي... المهم وجدت نفسي أحبّ هذا المكان دون سواه.



هولدرلين... كما في يوم عيد

هولدرلين
هولدرلين
TT
20

هولدرلين... كما في يوم عيد

هولدرلين
هولدرلين

هذا هو عنوان قصيدة من أشهر قصائد هولدرلين، أحد أكابر شعراء الألمانية الرومانسيين. كثير من القصائد اللاحقة لها تميَّزت بمسحة جنون أُصيب به الشاعر في 1802، وهو ابن الـ32 من عمره، وأصبح غير قادر على الكلام. جنون حلَّ به عندما ماتت المرأة التي أحب. هؤلاء الشعراء كائنات رقيقة جداً لا يستطيع غليظ القلب من أمثالنا أن يفهم رقتهم، ولا من أين يأتون بما يأتون به.

في بداية حياته، جرَّب كتابة النص الفلسفي، لكنه عاد واتبع نصيحة صديقه شيلر ولم يعد إلى الجدل الفلسفي، بل سعى إلى إظهار شيء من وحدة الوجود الأعظم في شكل شعري، وتقدم بفهمٍ قد لا تستطيع الفلسفة بلوغه، مع أنه يقرر فهمه للوجود بوصفه شيئاً يتجاوز إدراكنا.

ومع ذلك، يؤمن هولدرلين بتفوق الشعر على الفلسفة في الإشارة إلى الحقيقة، وقد كان هذا الموضوع محل اهتمام خاص في فكر هايدغر المتأخر. ورغم أنه شاعر وليس بفيلسوف، فإن تأثيره كان أعمق من كثير من الفلاسفة. هولدرلين هو أول مَن وضع تاريخ الوجود في مرحلة انتقالية من الميتافيزيقا إلى التفكير في الوجود. وتأثراً بهولدرلين، وجدنا هايدغر يقرر أن الشعر أكثر من مجرد شكل أدبي. إنه وسيلة عميقة لكشف الحقيقة، وللشعر قدرة فريدة على كشف جوهر الأشياء وكشف حقائق خفية عن الوجود. يُمثل تفاعل هايدغر مع هولدرلين نقلةً نوعيةً في نهجه الفلسفي، ويُمكن اعتبار هذا التحول انتقالاً مما تُعرف بالمرحلة «القرارية» الحرّة في فكر هايدغر، إلى منظور أكثر «جبرية».

مع أن شهرته شخصيةً فلسفيةً بارزةً لم تأتِ إلا مؤخراً. فإنه صار سبباً لإحياء الاهتمام بالمثالية الألمانية، والتطورات الفلسفية من فترة كانط النقدية إلى فترة هيغل.

بدأت حياة هولدرلين الفكرية بتعليم لاهوتي، مع أصدقائه هيغل وشيلينغ، تلتها فترة من النشاط التفلسفي والشعري المتزامن. وفي نهاية المطاف، ركز هولدرلين على الشعر بوصفه وسيلةً أسمى للوصول إلى الحقيقة، وهذا ما أصبح مذهب هايدغر المتأخر فيما بعد، لأن الوجود التاريخي للشعوب ينبع من التمشعر، ومن التمشعر تنبع المعرفة الأصيلة بمعنى الفلسفة.

الفكرة الأساسية لشعر هولدرلين هي أنه لا يمكن قول أي شيء عن إمكانية وجود علاقة بين الذات والموضوع. هناك فقط وحدة يُطلق عليها هولدرلين اسم «الوجود المطلق»، وكانت هذه الفكرة المحورية حاسمةً في تطور فكر شيلينغ وهيغل، ومهمة لفهمهما.

تقوم آراء هولدرلين الأخلاقية على تصور لحياة تسير مساراً منحرفاً، ويراها ممزقةً بين مبدأين: الشوق إلى الوحدة الأصلية الجبرية، ورغبة الحرية في تأكيد ذاتها باستمرار، خلافاً للوحدة. ولذلك، عندما أتأمل ذاتي، أكون منفصلاً عن موضوع وعيي. بمعنى آخر، يجب أن أفهم ذاتي وهي في حالة انتماء إلى وحدة أصلية سابقة للتأمل. دمج هذين المبدأين هو هدف الحياة. إنهما جوهر الحالة الإنسانية: الوحدة والحرية. وهذا يفسر فهمه للحياة البشرية على أنها «مسار غريب الأطوار» للإنسان: وحدة غير تأملية تُشكل جوهر وجودنا، لكننا لا نستطيع البقاء ضمنها. بل تتضح كشيء نسعى إليه بحريتنا. ثمة جانب خطير يتصف بالرغبة هو الحرية، وهناك أجمل حالة تتهيأ لنا ويمكن تحقيقها، وهي الوحدة. لكن كيف سنصل إلى الوحدة من دون حريتنا؟

يُشير هولدرلين إلى أن الذاتية لا يُمكن أن تُمثل المبدأ الأول للفلسفة، لأن الأنا تُعرف دائماً في علاقتها بموضوع ستحكم عليه. هناك وجود مطلق سيحل مشكلة الانقسام. وهو أساس جميع الأحكام التي تتميز فيها الذات عن الموضوع. «حيثما تكون الذات والموضوع متحدين بشكل مطلق، فلا سبيل إلى الحديث عن وجود مطلق إلا هناك، كما هي الحال في الحدس العقلي». وهو يفهم الحكم على أنه الانفصال الأصلي بين الموضوع والذات: «الحكم: هو، بمعناه الأسمى والأدق، الانفصال الأصلي بين الذات والموضوع. لا يمكن معرفة المزيد عن الوجود. إنه يُعرَف فقط كوحدة أصلية تدعم جميع الأحكام». بعبارة أسهل، إذا أصدرت حكماً فقد فَصَلت، فلا تصدر أية أحكام.

يمكن القول بسهولة إن هولدرلين كان أهم محاوري هايدغر وقادحي فكره منذ منتصف ثلاثينات القرن العشرين فصاعداً. تُعدّ لقاءات هايدغر وهولدرلين بالغة الأهمية لفهم التوجه اللغوي الذي ميَّز أعمال الفيلسوف المتأخرة، بالإضافة إلى تأملاته في الفن والتكنولوجيا والسُكنى الشعرية. كما أنها متشابكة بشكل حاسم مع قضايا السياسة والتاريخ والتفسير والترجمة والتناغم والذاكرة. وتُوفر هذه اللقاءات، على وجه الخصوص، موارد ثرية لمتابعة أسئلة الهوية الوطنية والهوية اللغوية والتكوين التاريخي للتقاليد. إنه ليس شاعر الإنسانية، بل شاعر الألمان المرتبط بتاريخهم وشخصيتهم ولغتهم.

مهمتنا في تجربة شعر هولدرلين ليست استخلاص محتوى روحي أو معنى رمزي، أو حقيقة مجردة منه، بل مقاومة نظرتنا اليومية والمبتذلة للشعر، وتجربة قوة الكلمة الشعرية في تعريض أنفسنا لقولها. والقيام بذلك من خلال السماح لأنفسنا بأن تمزقنا الكلمة الشعرية في روايتها ذاتها. فخلافاً لفهمنا اليومي، كما يوضح هايدغر، لا يمكن اختزال اللغة في وسيلة تعبير تُعبِّر عن معنى روحي. ليس الأمر كما يبدو إطلاقاً، شيئاً حاضراً بين أيدينا نملكه، كما لو كنا نملك شيئاً من الممتلكات. بل، كما يقول بصوت عالٍ: «لسنا نحن مَن نملك اللغة، بل اللغة هي مَن تملكنا». لأن الشعراء لا يتجهون نحو الطبيعة بوصفها موضوعاً، على سبيل المثال، بل لأن «الطبيعة» بوصفها وجوداً تجد نفسها في القول الشعري، أي أن قول الشعراء، بوصفه قولاً ذاتياً للطبيعة، ومن جوهر الطبيعة.

* كاتب سعودي