يضع الروائي والشاعِر الفلسطيني إبراهيم نصر الله سردية الوطن الفلسطيني في قلب مشروعه الأدبي المُتراوح ما بين الكتابة الأدبية والشِعرية والنقدية، منذ ديوانه الأول «الخيول على مشارف المدينة»، مروراً بملحمة «الملهاة الفلسطينية» التي تروي أكثر من 250 عاماً من التاريخ الفلسطيني، حتى أحدث أعماله «مصائد الرِياح».
وُلد نصر الله (1954) في عمان بالأردن لأب وأم فلسطينيين هُجِرا من قرية البريج عام 1948، وتُوّجت أعماله بالعديد من الجوائز الأدبية، أبرزها «البوكر العربية» التي ترشح لها أكثر من مرة ونالها عام 2018 عن روايته «حرب الكلب الثانية»، كما فاز بجائزة «كتارا» مرتين الأولى عن روايته «أرواح كليمنجارو» والثانية عن «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد»، كما نال جائزة «سلطان العويس للشعر العربي» عام 1997. هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الأدبية.
> انتهيت من روايتك الجديدة هل يمكن أن تحدثنا عن ملامحها؟
- الرواية الجديدة ضمن مشروع «الملهاة الفلسطينية» وواحدة من ثلاثية أطلقتُ عليها اسم «ثلاثية الرّاوي العَليم» بقدر ما هي معنيّة بحالنا اليوم، هي معنيّة بتاريخ البشر، وكل رواية منها مستقلة تماماً عن الروايات الأخرى.
أحداث هذه الرواية التي تحمل اسم «مصائد الرّياح» تتشكل من ثلاثة مسارات بين عام 1936 وعام 2021، في كل من فلسطين وبريطانيا والعالم العربي، وتلعب فيها النساء والخيول الأدوار الرئيسية، وكلّ ذلك عبر علاقة حب تُشكِّل الخيطَ النّاظم لهذه المسارات، وستصدر عن «الدار العربية للعلوم» في بيروت، وطبعة فلسطينية خاصة عن دار «طباق».
> تتزامن روايتك الجديدة مع الوضع الكارثي الذي تمرّ به فلسطين منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كيف تؤثر المستجدات اليومية في متنك الأدبي بشكل أو بآخر؟
- هذه الرواية بدأتُ بكتابتها أواخر عام 2021، وكانت كتابتها الأولى قد أنجزت عام 2022، بالتالي كانت خارج ما يحدث الآن. هذا العام كنت منشغلاً بكتابتها الثالثة. لكن ما يدور أثَّر تماماً على كل شيء في حياتنا، وكان الشِعر هو الأقرب للتعبير عن هذا، وقد كتبتُ عدداً من القصائد التي ستصدر بالإنجليزية بترجمة لهدى فخر الدين الشهر المقبل في أميركا بعنوان «فلسطيني»، وستصدر في فلسطين بعنوان «مريم غزة»، وقد تمّ تحويل هذه القصيدة إلى عمل سيمفوني غنائي شعري من قِبل «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى» في القدس، ولحَّنه الموسيقار الفلسطيني سهيل خوري، وستقدم الفنانة التونسية غالية بنعلي قصيدة «فلسطيني».
> على مدار مشروعك الأدبي، وأنت تنحاز لتصوير شخصياتك بعيداً عن التنميط، فلا هو طفل الحجارة، ولا هي المرأة التي تزغرد في جنازة ابنها، بل نرى شخوصك ممتلئين بالحياة. حدثنا عن هذا الاختيار في ضوء نظرتك الخاصة لأدب المقاومة.
- في ظنّي أن من ينظر إلى الإنسان عبر زاوية واحدة فإنه لن يرى منه شيئاً، في الأدب علينا أن نرى الإنسان في صفاته كلها، ويكفي أن ننظر بصدق إلى أنفسنا لكي نتأكد من أننا هكذا، أو كما جاء في قصيدة «فلسطيني»: « أنا كلُّ هذي العناصر يا ربُّ: نارٌ ترابٌ وريحٌ وماءٌ/ وخامسها وجعٌ لا تراهُ الأغاني الضّريرةُ/ سادسها أن أكونَ وحيداً، وسابعها مُذْ ذُبِحْتُ: دماءٌ».
لحسن الحظ أنّ هذا ما توصَّلتُ إليه مبكراً في تجربتي الأدبية وأنا أتأمّل كثيراً من التجارب الفلسطينية.
> طفل المُخيم الذي كُنتَه يسكن في شِعرك ورواياتك، ومنحته صوتاً مركزياً في «طفولتي حتى الآن». لماذا لم تكتبها سيرة ذاتية بحتة واخترت في المقابل أن تمزج فيها بين السيرة وفن الرواية؟
- «طفولتي حتى الآن» من أكثر الروايات قرباً إلى قلبي، وسعيد أن قلوب القراء احتضنتها بمحبة رائعة. لقد تعمَّدتُ أن أكتبها روايةً حتى لا أكون «بطلها» الوحيد، فالسيرة الذاتية تلتهم الآخرين عادة، ولذا عملتُ على كتابتها بمنطق الرواية لكي أتيح لكل من أثروا في حياتي أن يكونوا معي من أول الرواية حتى آخرها، وبعضهم أعدّه بطلها الفعلي، مثل نور والأمّ. كنت أسعى لتذويب الأنا ودفْعها للخلف.
> ما الذي منحته الهُوية والبُعد الأردنيّ لمشروعك الأدبي، ولزاوية رؤيتك الأدبية لفلسطين؟
- عشت حياتي كلها في الأردن، بالتالي عشت الأردن وكل ما مرّ به، لذا كان مشروع «الشرفات» المكوّن من عشر روايات حتى الآن مكرّساً بدرجة كبيرة لهذه الحياة التي عشتها هنا، وهي روايات تحتضن الكثير أيضاً من حياتنا العربية.
> أثار إطلاقك اسم «الملهاة الفلسطينية» المفارقة بين «الملهاة» وأعماق «المأساة» التاريخية لفلسطين. لماذا اخترت «الملهاة» عنواناً لهذا العمل الملحمي؟
- ليس من السهل أن يُطلق كاتبٌ مشروعاً أدبيّاً طموحاً إلى هذا الحدّ، فأول ما يواجهه هو نفسه وسؤاله لهذه النفس إن كان سيستطيع القيام بمهمة شاقة، بل مرعبة، كهذه. هذا خوفي الأول، أما تعبير «الملهاة» بدل «المأساة»، فكنتُ أدرك أن هذا الأمر ليس مشكلة، إذ سيدرك الناس ذلك مع مرور الوقت، وهذا ما حدث.
> هل يمكن اعتبار «الملهاة» مشروعاً مفتوحاً، خصوصاً أنك سبق وذكرت أن علاقتك بجمع وقراءة الشهادات والمرويات هي عملية مُتواصلة ومستمرة؟
- المشروع لا ينتهي، فما يحدث في غزة منذ عشرة أشهر أكبر من 100 رواية، وما يحدث في الضفة الغربية ليس أقل من هذا. الشهادات استخدمتها في رواية «زمن الخيول البيضاء» بشكل خاص، و«دبابة تحت شجرة عيد الميلاد»، وكانت ضرورية لأنها وضعتْني في الجو العام الذي كان يعيشه الناس، لكن ما استخدمته من الشهادات ليس أكثر من 15 في المائة فعلياً، ولا توجد أي شخصية كاملة من الشهادات في الروايتين؛ كنت أريد أن أفهم الإيقاع النفسي لحياة الناس لأكتب نصاً غير بعيد عن هذا الإيقاع.
> أنت تقف على مسافة واحدة بين القضية المُتمثلة في الجذور والتاريخ، وبين الفن الذي لا تتوقف فيه عن التجريب والتخييل وتراسل الفنون. حدثنا عن هذه التركيبة الأدبية.
- لا يمكن أن تكون مُخلصاً لقضية ما، ككاتب، إن لم تكن مُدركاً وعارفاً لأفضل الطرق التي يمكن أن تُقدِّمها عبرها. «القضايا الفنية الكبيرة تحتاج لمستويات فنية كبيرة للتعبير عنها»، قلتُ هذا في أول حوار صحافي معي وأنا في السادسة والعشرين من عمري، ولم أزل متمسكاً بهذا، ثم إن الأدب فنٌّ بالدرجة الأولى، وإن لم يستطيع أن يكون فناً فهو لا شيء. كما أن متعتي الحقيقية هي ابتكار أشكال فنية جديدة، مثل أي مهندس لا يمكن أن يكون مهندساً إذا أمضى عمره مُكرِّراً نموذجاً عمرانيّاً واحداً في كلّ مشروع ينفذه.
> ذكرت في لقاء لك بالجامعة الأميركية بالقاهرة أخيراً أن الدّور الذي قدمه غسان كنفاني بعمله «رجال تحت الشمس» يفوق ما فعلته المؤسسات الفلسطينية والعربية منذ النكبة، لماذا؟
- ببساطة لأنها رواية متجدّدة، عابرة للذائقة المُتغيِّرة، ومؤثرة في أجيال متلاحقة ومكتوبة بصدق كبير وفنية عالية.
> سبق وذكرت على لسان أحد أبطالك أنه «يُقاتل من أجل ألّا يضيع حقه»، وضمن كلمتك في «البوكر» قلت «نكتبُ لنهُز العالمَ لا لنُرَبّت عليه»، من أين تستمدّ إيمانك بالكتابة بعد كل هذه الأعوام وسط موجات اليأس التي لا تهدأ؟
- أستمده من أنّ لي هذا الحقّ، ومن إيماني بأن البشر يستحقون ما هو أجمل، ومن تجربتي المباشرة مع قارئاتي وقرائي، سواء كانوا شباباً أو ما بعد الشباب، وسواء كانوا يعيشون حياة عادية أو كانوا سجناء منذ عشرات السنوات في سجون دولة الاحتلال، ومن يقيني أن الكتب غيّرتني، ولولا قراءة كتب غيري لما كنتُ الشخص الذي أنا عليه الآن.
> أعمالك لا ينقطع فيها الجرس الموسيقي، وتضمين لسير غنائية وتراثية، فهل صالحك الأدب على حلمك القديم الذي لم يتحقق بدراسة الموسيقى؟
- لكل عمل أدبي إيقاعه الخاص، ومن لا يستطيع العثور على إيقاع عمله سيتعثّر كثيراً أثناء كتابته. كلّ بناء لأيّ عمل أدبي، شعري أو روائي، له بناء موسيقي لا يختلف عن بناء أي مقطوعة موسيقية، حتى الأمسية الشعرية، يجب أن تتدرّج قصائدها حسب هذا من البداية للنهاية. هنا يحدث التّصالح، كما أن تحويل كثير من أعمالي إلى أعمال موسيقية فيه مصالحة أيضاً، أو الأدق فيه استكمال.
> سبق وتوقّف تحويل «زمن الخيول البيضاء» إلى عمل سينمائي. هل هناك جديد في هذا المشروع؟
- للأسف كانت هناك محاولتان في الفترة الأخيرة، وبدا لي أنهما جادّتان، لكنهما في اللحظة الأخيرة قُوبلتا بعقبات، الأولى سياسية، والثانية إداريّة غير بريئة.
> لدينا أمثلة كثيرة في العالم العربي على مبدعين هجروا الشِعر لصالح الرواية، هل تؤمن بأن هناك لحظات للشِعر ولحظات للرواية؟
- بالتأكيد، هناك وقتان للشِعر والرواية، معي على الأقل، لكن الشعر، حقًا، لا يغيب عن سردي، كما أن سردي لا يغيب عن شِعري، حتى أن عنوان قصيدة كتبتُها عن غزة حديثا اسمها «رواية قصيرة».
> ارتبطت في طفولتك بالأدب العالمي، فيكتور هوغو «البؤساء» على سبيل المثال، برأيك متى يمكن أن تصير الرواية الفلسطينية بعمقها الإنساني والمأسوي، وفنّياتها المتصاعدة، رواية عالمية؟
- هي رواية عالمية، مثل أي رواية تكتب في تشيلي، أو اليابان، أو أي مكان، الفرق أنه لم يُتح للرواية الفلسطينية والعربية أيضاً أن تترجم كما تستحق.
> وماذا عن ترجمة كتبك؟
- هناك حوالي 40 إصداراً لكتبي بلغات مختلفة، هذا العام سيصدر عشرة كتب بلغات مختلفة.
> هل نجحت عبر سنواتك الطويلة في أن تحتفظ بتكريس طقوس للكتابة؟
- دائماً كنتُ أكتب في النهار، وما زلتُ، ومنذ تفرّغي للكتابة عام 2016 أعمل في مكتبي 8 ساعات يومياً، قراءة وكتابة وبحثاً.