ثلاثية خلدون الشمعة

طبعات جديدة لأعمال له صدرت في السبعينات

خلدون الشمعة
خلدون الشمعة
TT

ثلاثية خلدون الشمعة

خلدون الشمعة
خلدون الشمعة

يحضر اسم الناقد السوري خلدون الشمعة بقوة، بمناسبة صدور طبعات جديدة من 3 أعمال نقدية له، سبق أن صدرت طبعاتها الأولى بدمشق في سبعينات القرن الماضي. صدرت الثلاثية حديثاً عن «دار المتوسط» بميلانو، وحملت العناوين التالية: «الشمس والعنقاء» و«النقد والحرية» و«المنهج والمصطلح»، هذه الثلاثية النقدية تسعى متضافرة إلى بلورة معالم مرحلة لعب فيها الشمعة دوراً تأسيسياً، أسهم في تطوير الجهاز المعرفي والمفاهيمي للنقد العربي الحديث.

حدث ذلك بالاستجابة لحافزَين؛ الأول: فحص واختبار وتفكيك أفكار سجالية أُثِيرت للتأكيد مجدداً على أن فاعلية هذه الأفكار ذات الطابع السجالي ليست معلّقة أو مؤجّلة الآن، بل ما زالت - في تقدير النقد العربي الراهن - بعيدة عن مرحلة الغلق (closure).

هذه الثلاثية التأسيسية الصادرة قبل زهاء نصف قرن ترمي، من بين أمور أخرى، إلى تصحيح وتبئير وتصويب المفاهيم المراوِغة المتحكِّمة بتجربة العلاقة بين الأدب والثورة في مثال الأدب العربي الحديث، وخصوصاً العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا السياسية، هذه العلاقة التي يمكن وصفها بأنها علاقة ملتبسة. ويمكن إرجاع هذا الالتباس، حسب الناقد، إلى «هيمنة ضرب من النقد الشعاري المتخفّي وراء دعاوى العلمية، التي تنحدر بلا حذر، على علموية (Scientism) تزييف العلم والفن معاً». هذه الهيمنة ذات الطابع الشعاري، وربما الطابع الشعائري، وهذا هو الأصح، تنظر إلى إدراج الأدب تحت مظلة العسكريتاريا المهيمِنة، بوصف ذلك مسألة أيديولوجية مُلزِمة، ولكن الأعمال النقدية التي نحن بصددها تُحاجِج بالقول: إن هناك الفنان الذي يرى في الأيديولوجيا شيئاً عليه مناهضته، وربما تفنيد إلزامه، لحماية عمله الفني من فقدان جوهره الجمالي.

وهذا يعني تقييده بمتطلَّبات أيديولوجية، تستمد قوتها من هيمنة العسكريتاريا، وقد تحوَّلت إلى سلطة الأمر الواقع. وتبعاً لذلك تسعى ثلاثية الناقد خلدون الشمعة التأسيسية هذه إلى التأكيد على أن العمل الفني مناهِض بطبيعته للأيديولوجيا.

ما هي نقطة المحرق في هذه المناهضة؟ إنها «تكمن في محاولة تحطيم النظام القديم للأفكار باسم نظام جديد، وفضلاً عن ذلك يمكن القول إن الفن مناهِض للأيديولوجيا؛ لأن أحد جوانب طبيعته أنه يكشف نقاط ضعف وأخطاء الكائن البشري، عوضاً عن كونه يعكس نظاماً متّسقاً ومتماسكاً من الكمال».

إيضاحاً لما تعنيه الثلاثية النقدية بالعلاقة الملتبسة، يشبه الناقد الشمعة في توصيفه لها: «عقم الشعارية التي سيطرت على النقد العربي، وهي شعائرية لأنها مقدسة، وتشبه ساعة حائط، يذكر كيركغارد في معرض سخريته من القرن التاسع عشر أن بندولها ظل يُقرع عالياً، ولكن عقربَيها كانا عاجزين عن تحديد الوقت». وهي صورة تبدو اليوم، حسب الشمعة، أشد انطباقاً على مفهوم الثورة في الأدب العربي المعاصر منها على الفكر الأوروبي في القرن الماضي. ويتكشف ذلك، كما ينبه الناقد، باستعمالنا لمصطلحات على غرار الثورة والأيديولوجيا والالتزام الذي يعني الإلزام في جوهره التطبيقي، وتلك المصطلحات التي تقرع عالياً كساعة الحائط المعطوبة دون أن تحدد وقتاً أو تشير إلى معنى.

ويخلص خلدون الشمعة من ذلك إلى القول إن هذا المؤشر السجالي في ثلاثيته المبكرة ربما يكشف ما عنته من حيث تفعيل حراك نقد عربي مناهض لأصوليات القدامة والحداثة ذات النزوع الأيديولوجي والطابع المانوي.

الوصول إلى هذه النقطة، بالنسبة لمشروع الناقد خلدون الشمعة، وصول إلى الشعرية الحقيقية لا الشعرية المؤدلجة. وهذا الوصول يتجلى بوضوح في كتبه اللاحقة والصادرة في السنتين الأخيرتين كجزء متقدم من مشروعه النقدي، منها على سبيل المثال كتب: «المختلف والمؤتلف: تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر»، وكتاب «كعب آخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي»، وكتابه الأحدث الصادر بالإنجليزية وعنوانه: «نظرية الأدب العربي الحديث: من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي»، والأخير يدرس، في جانب منه، علاقة الآداب الأخرى بالأدب العربي، فضلاً عن الخلاصات التي توصل إليها في بحث تأثير الأدب العربي على الآداب الأوروبية.



المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

رشيد الضعيف
رشيد الضعيف
TT

المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

رشيد الضعيف
رشيد الضعيف

لم تكن وظيفة الوساطة بين الكاتب والناشر تمثل سلطة في عالم صناعة الكتب، سواء كانت ذات طبيعة إبداعية أو معرفية، إلا في حدود منتصف القرن الماضي، رغم بروز مهنة «المحرر الأدبي» منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث خصص فولتير تعريفاً لعمله في «المعجم الموسوعي للقرن التاسع عشر»، بوصفه الساهر على «توظيف معرفته ومهاراته وطاقته الإبداعية في ترجمة أفكار الغير، وإن لم يؤمن بها»، بينما لم يتجاوز عمر القيم الفني ستة عقود في الغرب، وبرز بوصفه صانع صيغة العرض، الذي يختار اللوحات، ويبرز بنهجه التنظيمي محتواها الفني. فالشيء الأكيد أن الروائي أو الفيلسوف أو الناقد أو المؤرخ، أو المسرحي، لا يحتاج إلى دار نشر فقط ليرى عمله النور، مثلما لا يحتاج الفنان إلى مجرد غاليري ليقدم أعماله الفنية للجمهور، ثمة مؤلفان وسيطان في عملية الانتقال من الورشة إلى المنتج المعروض للبيع، «محرر» يراجع مخطوط الكاتب وينقحه ويقترح تعديلات قد تمتد من العنوان إلى المبنى العام مروراً بالفصول والمباحث، والمشاهد والفضاءات والشخصيات، وقيّم معارض (كيراتور) يحول الأعمال المتراكمة، المتقاطعة والمتنائية، إلى متوالية لوحات ومنحوتات وتنصيبات ينتظمها نسق بصري، يضمر رؤية، تغوي جامعي الأعمال الفنية. الوسيطان معاً منتسبان إلى تقاليد مهنية، لها مهاراتها وحدوسها الفارقة، ليس من شأنها الزيادة في المتن، وإنما الإعلاء من الكيف المتقن، كلاهما متصل بالصيغة، التي تلتبس بالجوهر، تلك التي تقتضي صرامة مع الذات، وكلاهما أيضاً وافد من عالم برزخ بين المعرفة الجمالية ومهارات التسويق، الأمر الذي يفترض أن يمتلكا معاً حساسية خاصة تجاه منطق العرض، بما يصون الكاتب والفنان والناشر وصاحب الرواق من أقدار الخيبة والسقوط.

محمد برادة

في مقال لامع للناقد الفرنسي لوران بوديي بعنوان: «الكيراتور: المهنة الجديدة بعالم الفن» تحدث عما أسماه بـ«مفهمة المعارض»، وإكسابها عمقاً فكرياً، في الآن ذاته الذي لم يستبعد هاجس القيمة، في عالم استفحلت فيه الأساليب الاختراقية، أمر له علاقة بالمزاج العام، وبالذوق غير المستقر، الذي يطول المشهد البصري، وبالقدر ذاته السرديات اللفظية، حيث المحرر، بمعنى ما، يعيد تركيب صيغة العرض، بناء على مفاهيم غير مستقرة، وذائقة متحولة.

في هذا السياق تحديداً لا يمكن تمثل القيّم الفني (الكيراتور) الذي يعود عمره الافتراضي إلى أقل من عمر المحرر الأدبي بقرن ونصف من الزمان (على الأقل)، إلا بما هو تنويع على صيغة التحرير المرتبطة بالصحافة، وبأساليب تكييف المعلومات والأخبار، ضمن خط تحريري، ففي النهاية لا يتحقق عمل قيم المعارض من دون تكييف وترتيب وسعي إلى الإقناع، منذ أن ابتدع السويسري هارالد سزيمان صيغة «النيابة عن الفنانين» في تنظيم العروض ومنحها عناوين، وصيغاً ورقية مرافقة، تقول ما يتوق المشاهد لفهمه.

ولعل ما يلفت الانتباه لأول وهلة هو أن التداول المهني للمحرر والكيراتور لم يكن تجاوز معنى المساعدة في التعبير عن رؤى أشخاص قاصرين، في حدود معينة، لقد كان الكيراتور منتدباً قضائياً لمساعدة العاجزين، مثلما أن المحرر لم يكن سوى كاتب عمومي، يصوغ رسائل وشكايات لغير المتعلمين، إنها مهارات تتوخى، في المحصلة، تمثيل من لا قدرة لهم «على الدفاع عن مصالحهم»؛ وكأنما ثمة عماء أصيل في الإبداع، مهما ارتفعت قيمته، يستلزم «هداية»، قد تمتد من خطأ في العبارة الروائية إلى تلف في سند اللوحة.

والحق أنه قد يستطيع روائيون راسخون أن يكتبوا أعمالهم ويراجعوها ويعرضوها على قراء من مقامات شتى، وقد يأخذون برأيهم، أحياناً، وقد يخالفونهم الرأي، أحياناً عديدة، وقد يمضون إلى أقرب ناشر، مقتنع بعدم التدخل في المعروض عليه لنشره، وقد تنجح الرواية، وتحقق الأثر المرغوب، كما قد لا يكون لها أي صدى، شيء شبيه بآلاف المعارض التي هي مجرد محلات لبيع الأعمال الفنية، يرتجلها فنانون برغبة في التخلص من مجهود استمر زمناً طويلاً، تتداخل فيها الأعمال وتبدو متنابذة ودونما حاجة لمجاورة ملفقة، لهذا لا تتطلب نصوصاً هادية. إن علاقة الكاتب والرسام بأعمالهما تنطوي على عواطف وانحيازات وأوهام، تجعل المكتوب والبصري عرضة لأي قدر بعد خروجه، وتطوع كليهما للقيام بدور الوساطة، تجاوز مخل إلى ما لا يفترض أن يقوما به، فهما معاً ليسا متلقيين محايدين، وغالباً ما تكون لديهما حساسية شديدة تجاه الحذف، أو الإضافة.

في روايات عربية عديدة هناك عشرات المشاهد الزائدة وشخصيات لا وظائف لها وآلاف الأخطاء في اللغة والتاريخ والحقائق الجغرافية والإثنية والاجتماعية

في أمثلة عديدة على امتداد مسار الرواية العربية، يمكن أن نقف عند اسم شخصية يتغير في نص، أو حوار خاطئ، أو انقلاب في وقائع لا منطق لها، أو تحول في صيغة السرد من وجهة نظر إلى أخرى لا يتحمله المبنى السردي... يحضرني هنا مثالان شهيران لم يتجاوز فيهما النص عتبة الثلاثمائة صفحة، أولهما في رواية «حيوات متجاورة» لمحمد برادة حين تبدّل اسم شخصية رئيسية في أحد مقاطع الفصل الأخير من «عبد الموجود الوارثي» إلى «عبد الواحد الوارثي»، والثاني في رواية «هرة سيكيردا» لرشيد الضعيف، حيث تحولت شخصية «سوسا»، في إحدى الفقرات العابرة، من خادمة فلبينية إلى خادمة حبشية؛ هذان مثالان لكاتبين متحققين، لم يتدخل فيهما المحرر، ويمكن العثور في نماذج أخرى على عشرات المشاهد الزائدة والشخصيات التي لا وظائف لها. وآلاف الأخطاء المتعلقة باللغة والتاريخ والحقائق الجغرافية والإثنية والاجتماعية. هي تفاصيل قد تتوه في ثنايا المتن الممتد، وأحياناً يلتقطها النقاد، بينما هي من صميم عمل المحرر الذي يقدم الصيغة المشذبة والمراجعة للنشر. للمحرر سلطة على الروائي يستمدها من دار النشر، يمكن أن يقترح عنواناً أدق، ومساحة أجدى وحبكة أكثر تماسكاً، وهو موضع ثقة الروائي والناشر على حد سواء، لأن هدفه هو تحويل العمل التخييلي إلى منتج رابح. لهذا يمكن أن نستعرض عدداً كبيراً من قصص الأخذ والرد بين روائيين ومحررين في قائمة طويلة تشمل نجوماً من فيليب روث إلى لوكليزيو، من توماس مان إلى دوريس ليسينغ.

لكن إذا كان المحرر وسيطاً أساسياً في عالم النشر، فإنه مع ذلك لم يتحول يوماً إلى اسم علم له شهرة وصيت يضاهي اسم الكاتب، بينما تحول القيم الفني، في أروقة الفن عبر العالم إلى سلطة عاتية، تصنع الأسماء وتبرز الأهواء والأساليب، وتقترح على المشهد الفني وعلى أسواق الفن علامات جديدة، دون أن يعني ذلك أنه قد لا يتحول بحكم وظيفته إلى مجرد مساعد للفنان، ففي تصريح لا يخلو من تذمر، أورده الباحث الفرنسي إيمانويل أوكو عن «مهنة الكيراتور الأكثر حداثة في عالم اليوم»، ترى قيّمة المعارض غاييل شاغبو أن : «حوارنا مع الفنان ينتقل غالباً من الجمالي إلى الأسئلة الأكثر جوهرية. لكي تكون قيماً للمعارض، من الأفضل معرفة كيفية الرد على رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالفنان في منتصف الليل ووضع جدول بيانات ممتازاً، بدلاً من التشدق فقط بمعرفتك بتاريخ الفن».