ما سرّ النسر الجارح في فيلكا؟

جزء من جرّة مختومة بنقش تصويري

قطعة أثرية من جزيرة فيلكا محفوظة في متحف الكويت الوطني
قطعة أثرية من جزيرة فيلكا محفوظة في متحف الكويت الوطني
TT

ما سرّ النسر الجارح في فيلكا؟

قطعة أثرية من جزيرة فيلكا محفوظة في متحف الكويت الوطني
قطعة أثرية من جزيرة فيلكا محفوظة في متحف الكويت الوطني

يحتفظ متحف الكويت الوطني بقطعة مهشّمة من الطين المحروق تحمل نقشاً ناتئاً يمثل سلسلة من الطيور الجارحة تنقض في حركة واحدة وجامعة على فرائس من ذوات الأربع القوائم. عُثر على هذه القطعة في جزيرة فيلكا، وهي جزء من جرة بقيت منها مجموعة صغيرة من الكسور المبعثرة تمّ جمعها وترميمها، والصورة المنقوشة التي تزيّنها ما هي في الواقع إلاّ صورة طُبعت على مادتها الطينية اللزجة قبل حرقها، وفقاً لتقنية معروفة شاعت في الشرق الأوسط القديم.

اكتُشفت هذه القطعة الطينية المميّزة في عام 1988. خلال أعمال التنقيب التي قامت بها بعثة فرنسية في تل يقع في الزاوية الجنوبية الغربية من فيلكا، يضمّ أهم المعالم الأثرية في هذه الجزيرة. عُثر على هذه القطعة في بناء ذي أرضية مربّعة يبلغ ضلعها نحو عشرين متراً، شُيّد في عام 1900 قبل الميلاد، واستخدم على مدى أربعة قرون، هُجر بعدها وتحوّل إلى خربة غمرتها الرمال. عمدت البعثة الفرنسية إلى مسح هذا البناء الذي يجاور منطقة استكشفتها بعثة دنماركية ثم بعثة أميركية، وجمعت كل ما عثرت عليه من لقى أثرية تعود إلى أثاثه، وتبيّن أن هذه الغلّة تتكون من مجموعة صغيرة من الكسور، منها تلك التي تكوّنت منها القطعة الطينية المختومة بنقش تصويري.

تشكّل هذه القطعة جزءاً من جرة طينية مهشّمة بقيت منها بضع من الكسور المبعثرة، وتكمن قيمتها الفنية في الصورة الناتئة التي تزيّنها، وفقاً لتقليد استخدم لتحديد هويّة صاحب القطعة المختومة. تمتدّ هذه الصورة على مساحة يبلغ عرضها نحو 15 سنتمتراً، وتمثل سلسلة من خمسة طيور كبيرة ينقض كل منها على حيوان من ذوي الأربع القوائم في حركة واحدة جامعة. تظهر أربعة من هذه الطيور مع فرائسها بشكل كامل، ويتضح أنها تعود إلى ختم يحمل صورتين تتشابهان بشكل كبير، غير أنهما لا تتماثلان كلياً. في كلتا الصورتين، يحضر الطير الجارح فوق فريسته بشكل متطابق، غير أن التباين يكمن في العناصر التي تحتل القسم الأعلى من التأليف. في واحدة من الصورتين، يظهر قرص على شكل زهرة محوّرة هندسياً تتكون من عشر بتلات، يجاورها هلال أفقي بسيط. وفي الصورة الأخرى، يظهر قرص حلزوني يمثل على ما يبدو ثعباناً يلتفّ حول نفسه مشكّلاً ثلاث حلقات حلزونية ناتئة متلاصقة. في كل من الصورتين المتشابهتين، يستقر القرص بين جناحي الطير المبسوطَين في الفراغ.

يتميّز هذا الطير الجارح بعنق طويل وبذنب مثلّث على شكل مروحة تعلوها ستة شقوق متوازية تمثّل ريشها، وفقاً لأسلوب اتُبع كذلك في تصوير جناحيه الكبيرين. في المقابل، يتكوّن الرأس من دائرة تتوسّطها دائرة صغيرة تمثّل العين، تحدها كتلة أفقية مقوّسة الطرف تمثّل المنقار. ويوحي شكل هذا الطائر المفترس بأنه من فصيلة النسور. ينقض هذا النسر على فريسة يتكون رأسها كذلك من كتلة بيضاوية تتوسّطها عين دائرية. تظهر هذه الفريسة جاثية على قوائمها الأربع المنثنية، ويظهر ذيلها ممتداً أفقياً من خلفها، ويوحي شكلها بأنها من فصيلة العجول. تتكرّر صورة النسر المنقض على العجل في سلسلة تشكل شريطاً يحده أعلاه وأسفله سطر بسيط مجرّد من أي زخرفة، ويشكّل هذا الشريط ختماً يخصّ صاحب الجرة المهشّمة التي فقدت معالمها.

يصعب تأريخ هذه الجرة، والأكيد أنها تعود إلى زمن البناء الذي شكّلت جزءاً من أثاثه، وهو بناء ذو وظيفة دينية كما يبدو، أنشئ يوم كانت فيلكا حاضرة من حواضر إقليم عُرف باسم دلمون، امتدّ على ساحل شبه الجزيرة العربية، وشكّل حلقة وصل بين بلاد الشرق الأوسط والأدنى من جهة، وبلاد الهند من جهة أخرى. لا نجد ما يماثل هذه الجرة في ميراث فيلكا، ويبدو أنها تتبع تقليداً عُرف بشكل محدود للغاية في دلمون، وشواهده في هذا العالم معدودة، وتتمثل في ثلاثة نماذج خرجت من البحرين، تحمل صوراً مختومة تختلف بشكل جذري عن ختم جرة فيلكا.

من العالم الدلموني المتعدد الأقطاب، خرج كمٌّ هائل من الأختام الدائرية المزينة بالنقوش المتعدّدة الصور والمعالم، غير أن صورة النسر المنقض على فريسته تبدو غائبة كلياً عن هذا النتاج الثري. تظهر هذه الصورة بشكل استثنائي على ختم أسطواني محفوظ في متحف كالوست غولبنكيان في مدينة لشبونة، وفيها يبدو النسر منقضاً على فريسة يعلو رأسها قرنان طويلان، إلى جانب غزال يدير رأسه إلى الوراء، متطلّعاً في اتجاه الطير الجارح. يُنسب هذا الختم إلى ميراث مملكة ميتاني التي قامت في شمال الهلال الخصيب، غير أن الدراسة المتأنية تُظهر أنه يحمل مؤثرات خارجية، وهو على الأرجح من نتاج الألفية الأولى قبل الميلاد، أي إلى حقبة لاحقة لتلك التي تعود إليها جرة فيلكا.

كذلك، تظهر صورة النسر المنقض على طريدته المذعورة على ختم من مجموعة المستشرق الفرنسي لويس دو كليرك يُنسب إلى شبه القارة الهندية، وفيها تحلّ ضمن سلسلة من المشاهد المتنوعة على لوح مستطيل يتألف من شريطين متوازيين. يحضر النسر هنا فوق دابة من فصيلة الحَريش الشهير بوحيد قرن في تأليف غير مألوف يعكس على الأرجح مؤثرات خارجية يصعب تحديدها بدقة، ويرى البعض أن هذه المؤثرات تعود إلى ميراث آسيا الوسطى المتعدّد الأقاليم.

في الخلاصة، نسب البعض جرة فيلكا المختومة عند اكتشافها إلى الشرق الأوسط، ونسبها البعض الآخر لاحقاً إلى شبه القارة الهندية، ويرى بعض البحاثة اليوم أنها تعود تحديداً إلى جنوب آسيا الوسطى، وإلى حضارة أطلق عليها اسم أوكسوس، نسبة إلى النهر الذي يشكل الحد الفاصل بين كل من أفغانستان وأوزبكستان وطاجيكستان.

تبقى هذه القراءات افتراضية في غياب شواهد أثرية تماثل في تكوينها وفي ختمها جرة فيلكا، وفي خضم هذا السجال المفتوح، تشكّل هذه الجرة سؤالاً احتار أهل الاختصاص في الإجابة عنه.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.