هل تراجعت قراءة الكتب في عصر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي؟

مثقفون وخبراء يرصدون أبرز المؤشرات وسط غياب إحصائيات دقيقة

أحمد بدير
أحمد بدير
TT

هل تراجعت قراءة الكتب في عصر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي؟

أحمد بدير
أحمد بدير

هل تراجعت القراءة في عصر الإنترنت، أم أن الزمن الرقمي الذي نعيشه فتح نوافذ وفرصاً حقيقية للترويج للكتب وعناوين الإصدارات الجديدة؟

المشكلة الأبرز التي تواجه من يتصدى للبحث عن حالة القراءة في العصر الرقمي هي نفسها التي كانت موجودة في عصر ما قبل الإنترنت، ونعني بها غياب الإحصائيات الدقيقة والدراسات الموثقة عربياً وعالمياً. وظلت الإحصائية الأبرز التي سادت طويلاً طوال عقدَين من بداية الألفية الثالثة هي أن المواطن العربي يقرأ في المتوسط العام 6 دقائق فقط في اليوم، ليتضح لاحقاً أن تلك المقولة الشهيرة المنسوبة إلى منظمة «اليونسكو» التي تداولها كثيرون يعيبها الكثير من أوجه الخلل المنهجية والبحثية.

شهد مطلع عام 2022 مفاجأة فجرتها شركة «Statista»، وهي شركة ألمانية متخصصة في رصد اتجاهات الاستهلاك في السوق العالمية وفقاً للبيانات والتصنيفات الثقافية بالاشتراك مع صحيفة «إندبندنت» البريطانية. خلصت الإحصائية التي قدمتها الشركة إلى أن مصر تحتل المرتبة الخامسة دولياً بين الدول الأكثر قراءة، بمعدل 7 ساعات ونصف الساعة أسبوعياً، بينما جاءت السعودية في المرتبة الـ11 عالمياً بمعدل 6 ساعات و46 دقيقة أسبوعياً، واحتلت الهند المركز الأول، وجاءت تايلاند في المركز الثاني، والصين في المركز الثالث، في حين حلت الولايات المتحدة في المركز الـ23.

في هذا التحقيق تستطلع «الشرق الأوسط» آراء مثقفين وخبراء مختصين حول المؤشرات الأبرز في هذا السياق.

شريف بكر

محتوى قاصر

في البداية يشير د. زين عبد الهادي، أستاذ علم المعلومات وتاريخ المعرفة وخبير المكتبات، إلى أن شبكة الإنترنت عملت على زيادة الوصول إلى المحتوى؛ إذ يمكن للقراء العرب الوصول إلى الكتب والمقالات والأبحاث من خلال مواقع الويب والمدونات والمكتبات الرقمية، كما أن هناك تنوعاً شديداً في المحتوى الذي يمكن الوصول إليه يشمل الأخبار، والمقالات، والمدونات، والمعلومات الثقافية.

ويوضح «عبد الهادي» أن كل ذلك يمكن أن يزيد من معدل القراءة لدى البعض، كما أتاح الإنترنت الوصول لأشكال جديدة من المحتوى تضمن الصور والأفلام وتسجيلات الفيديو ومنصات الدردشة الاجتماعية، وتحولت أشكال القراءة من القراءة المتزنة لساعات طويلة في الكتب إلى قراءات قصيرة وسريعة لا تتوقف فيها الإنترنت عن دعم محتوى قاصر لا يمكنه أن يعيد بناء العقل إلا بشكل سلبي؛ إذ تشجع منصات السوشيال ميديا على استهلاك المحتوى العابر مثل المنشورات، والتغريدات، ومقاطع الفيديو القصيرة.

شريف الجيار

ويلفت إلى أن هذا النوع من القراءة يمكن أن يزيد من معدلها اليومي، لكنه قد يقلل من القراءة العميقة والمركزة، كما يعمل على تشتيت الانتباه ويقل معدل الوعي بما تتم قراءته، وبالتالي صعوبة قراءة الأعمال الضخمة كالكتب والروايات.

ويشدد على أن هناك أيضاً ظاهرة «مجموعات ونوادي القراءة» التي ربما تكون من أفضل الأدوات لقراءة الأعمال الرصينة والكبيرة ومناقشتها عبر الإنترنت، وهي تساهم فعلياً في زيادة معدلات القراءة، كما أن هناك مجموعات منتشرة على منصات التواصل الاجتماعي تقترح كتباً وأعمالاً طويلة يمكن قراءتها، لكن مردودها برغم انتشارها ما زال يحتاج لوقت أطول للانتباه لهذه القراءات.

زين عبد الهادي

نوادي القراءة

إشارة د. زين عبد الهادي إلى الدور الملحوظ الذي تلعبه «غروبات القراءة» في الترويج للكتب جعلتنا نسأل مرام شوقي، مسؤولة غروب «نادي القراء المحترفين»، عن تلك الظاهرة ومدى تأثيرها في خلق جيل جديد من القراء المرتبطين بمنصات التواصل الاجتماعي.

تقول مرام إن مجموعات القراءة ومراجعات الكتب باتت تقوم بالدور القديم الذي كانت تختص به الصحف في عروض الكتب، التي نجحت بالفعل في تقديم جيل جديد من شباب القراء ممن كانوا في حاجة للإرشاد والنصح، وساهمت في تواصلهم مع الأجيال الأكبر سناً؛ مما أدى لتبادل الخبرات، كما ساهمت في توطيد العلاقة ما بين الكُتاب والقراء وساعدت دور النشر في فهم متطلبات السوق وميول المتلقي.

وتلاحظ مرام من خلال موقعها في «نادي القراء المحترفين» أن العناوين الأكثر رواجاً تتمثل في كتب التنمية البشرية يليها الفانتازيا والرعب والأدب البوليسي ثم المترجمات، وإن كانت لا تشجع دور النشر المحترمة والكبيرة على التخصص في تلك الأنواع فقط، بل يجب إبراز الأدب الاجتماعي والنفسي والمجموعات القصصية والشعر الذي لاقى تراجعاً ملحوظاً في دور النشر وأصبحت دور نشر قليلة تُقبِل على إصدار دواوينه.

مرام شوقي

ويصف الناشر أحمد بدير، مدير عام دار «الشروق»، غياب الإحصائيات الدقيقة الموثوق بها وغير المتضاربة باعتبارها «آفة الصناعات الإبداعية» ككل، مثل صناعة الكتاب والموسيقى والسينما وغيرها، مشيراً إلى أن المؤكد لديه أن أرقام الكتاب المطبوع تراجعت في الآونة الأخيرة، لكنه لا يستطيع أن يرد السبب إلى طبيعة التكنولوجيا في العصر الحالي من إنترنت و«سوشيال ميديا» وخلافه.

ويضيف: «لا يمكن أن يكون السبب في تراجع الكتاب الورقي هو منافسة نظيره الإلكتروني له؛ إذ إن الأخير لا يشكل أكثر من 2 في المائة من نسبة مبيعات الكتاب إجمالاً على المستوى العربي، بينما تصل تلك النسبة إلى 15 في المائة من الكتب المنشورة بالإنجليزية والإسبانية، و20 في المائة من المنشورة باليابانية».

وأوضح أن منصات التواصل الاجتماعي لها تأثير آخر شديد الأهمية يتمثل في أنها أصبحت تمثل أكثر من 95 في المائة من خطة تسويق العناوين الجديدة، لا سيما على صعيد تحديد الفئات المستهدفة من حيث العمر والاهتمامات، في حين أن وسائل الدعاية التقليدية مثل الصحف والمطبوعات والملصقات تَراجَع دورها بشكل لافت.

زينب عفيفي

بديلاً للنقاد

ويلفت الناشر شريف بكر، مدير دار «العربي» إلى أن هناك مؤشرات إيجابية للغاية لمتغيرات عصر الإنترنت على انتعاش حالة القراءة عموماً، بصرف النظر عن قيمة المحتوى المقروء، كما يحدث على سبيل المثال للعديد من «البلوجرز» و«التيك توكرز»، وغيرهم من المؤثرين على مواقع التواصل الذين يستغلون شهرتهم الواسعة في العالم الافتراضي ويصدرون مؤلفات قد نتحفظ على قيمتها، لكن المؤكد أن بعضها يشهد إقبالاً غير مسبوق، ويصطف المئات حول أصحابها في حفلات التوقيع بمعرض الكتاب.

ويشير بكر إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت البديل العصري في ظل تراجع دور النقاد في الترويج للعناوين الجيدة، وهو ما دفع معظم الناشرين إلى التفاعل المباشر مع القرّاء من خلال تنظيم العديد من الفعاليات والمسابقات، مثل «مسابقة أفضل مراجعة كتاب» عبر الواقع الافتراضي.

ويلاحظ د. شريف الجيار، عميد كلية الألسن بجامعة بني سويف، أن الأجيال الجديدة تقضي معظم وقتها أمام الشاشة الزرقاء، وقد نتج عن هذا اتساع معدلات القراءة الإلكترونية، فضلاً عن أنها منحت كتّاباً كثيرين القدرة على النشر الإلكتروني، مما جعلهم يحققون جزءاً من الشهرة بحسب قوة النص، فضلاً عن قدرة هذا الواقع الافتراضي على الترويج لنصوص بعينها دون أخرى.

ويضيف أنه رغم هذه النقلة التكنولوجية في عالم المعرفة والنشر لا يزال كثيرون، لا سيما الأجيال القديمة، تُفضّل قراءة الكتب الورقية التي شكّلت وجدانهم وثقافتهم لفترات طويلة، وفي النهاية فإن النص الجاد هو الذي يفرض حضوره لدى القارئ المثقف الواعي الذي يمتلك قدرة على الفرز والانتقاء.

عزة سلطان

ظواهر سلبية

وتقول الكاتبة زينب عفيفي: «الكثير من شباب اليوم يرى أن التقنيات الحديثة ساعدت على انتشار القراءة لسهولة الوصول للكتاب وحمله في أي مكان، لكن للأسف دون اعتبار للقيمة، فكل ما ينشر على وسائل السوشيال ميديا لا يخضع للانتقاء، وإنما تحمله فوضى النشر مما يتسبب في ضياع الكتاب الجيد وسط الزحام الإلكتروني. وفي رأيي هذا يحتاج لتقنيات تواكب تقنيات الانتشار المذهل للكتاب تتسم بالانتقاء والقيمة. إن القراءة هنا لا تفرق بين عمل أدبي أو روائي أو كتب تنمية بشرية، السوق الإلكترونية تختلط فيها كل الأجناس والنوعيات، والقارئ هو الوحيد الذي يملك حق الاختيار».

ومن جانبها، ترى الأديبة عزة سلطان أن هناك انطباعاً رائجاً بأن الإنترنت ساعد على انتعاش القراءة لكنها لا ترى على أرض الواقع ما يؤيد ذلك، لا سيما في ظل انعدام الدراسات أو الأبحاث بشأن معدلات القراءة في مصر والعالم العربي، رغم وجود توصيات ومشاريع في اتحاد الناشرين المصريين ولجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة في هذا السياق، لكنها لم تسمع بأي دراسة تم إنجازها بهذا الصدد، كما أن تصفح مواقع التواصل والمواقع على الإنترنت يُهدر الوقت وليس العكس.

وتؤكد عزة سلطان أن من استفاد من مواقع التواصل بعضُ الكتّاب من خلال إعلانهم عن كتبهم وتسويقها، لكن من المؤسف أنه ليس للجميع فرص متكافئة في الدعاية والظهور والتسويق، ويرجع ذلك لكسل بعض الكتّاب أو عدم اهتمامهم بالجانب الترويجي، ومن ثم باتت شهرة بعض الكتب تعتمد على مهارة مؤلفها أو ناشرها التسويقية، في حين أن كتباً جيدة جداً تذهب أدراج الرياح، خصوصاً مع هذا الكم الهائل من العناوين التي تصدر كل عام في العالم العربي.

ويؤيد هذه الفكرة الكاتب الشاب يوسف الشريف الذي يعمل لدى صحف ودور نشر محللاً اتجاهات وميول القراء، كما تظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكداً أن الكاتب الذي لا يمتلك حساباً على أي منصة من منصات السوشيال ميديا أو لا يمتلك مهارات الواقع الافتراضي يصبح كاتباً غير مقروء ولا يسمع أحد عن أعماله شيئاً حتى ولو فاز بجائزة أو أكثر.

ويشير إلى أن تغلل الإنترنت في تفاصيل الثقافة والحركة الأدبية أفرز ظواهر سلبية منها ظهور جيل من المؤلفين لم يقرأوا في حياتهم إلا روايات الجريمة والأعمال الرديئة فنياً، ومع ذلك نراهم يقدّمون أنفسهم على أنهم مبدعون عظماء لمجرد أن لهم مئات الآلاف من المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.